سنلقي بعض الضوء على التطور العلمي البحت في العصر العباسي عرفاناً بجميل عظماء الامة وتحفيزاً لشبابها الحاضر والمقبل للتطلع الى السمو والرفعة مستثنين ما اسلفنا ذكرهم في كتابنا السابق. وسنطري الموضوع بمقاطع شعرية رائعة تلائم المكان, وان شئت نحشرها في أرض تبدو قاحلة وما هي الا روضات الجنان, وهذه أكاليل تجاور أكاليلها المنثورة على مراقد علمائها الاعلام.
علم الكيمياء
وسنشرع بالعالم الكيميائي جابر بن حيان الازدي وجابرنا هذا مشكلة للغربيين فانكروا وجوده بالمرة طورا ونسبوا علمه الى تلامذته تارة اخرى, ولما عجزوا عن هذا وذاك لكثرة مؤلفاته التي تعد بالمئات كما يذكرها ابن النديم جلبوه الى ناحيتهم واطلقوا عليه جابر اللاتيني ... والله عليم بما يفعلون, والمؤرخون لاصله ونسبه عارفون.
عاش مابين (101-197هـ/721-813م), لقد تتلمذ على يد الامام الصادق (ع), واستفاد من كتب خالد بن يزيد في علم الكيمياء وهو اول من ادخل التجربة العلمية المخبرية في منهج البحث العلمي, ومن اعماله تحضير الملح القلوي والحجر البوتاس الكاوي, وحضر ملح الامونيا, وملح البول وهو مزيج من الاملاح القلوية المحتوية على الفوسفور وملح الفوسفات واكتشاف الصودا الكاوية ****, وحضر ماء الذهب وكيفية فصل الفضة عن الذهب, لذلك يعتبر ايضاً اول مكتشف لحامض النتريك *** وحامض الهيدروكلدريك ولم يعلن عنهما لمقتضيات عصره ومحدودياته. ولعلاقة الكيمياء بالصيدلة الف كتاب (السموم ودفع مضارها), وقسم السموم الى ثلاثة انواع حسب مصدرها, فمنها حيوانية كسم الافعى والعقارب, ومنها نباتية كسم الافيون والحنظل, ومنها حجرية كسم الزئبق والزرنيخ, وتناول في كتاب (الكيمياء الجابرية) الماء القوي الملكي, والسم السليماني (كلوريد الزئبق) ومستحلب الكبريت وما الى ذلك...
والحقيقة ان العرب اهتموا بعلم الكيمياء بادئ الامر, لرغبتهم الملحة لتحويل بعض العناصر كالفضة والنحاس الى ذهب, وليس بالضرورة العالم الفذ جابر بن حيان, فانا اتكلم على العموم ... ولكن لما عجزوا عن هذه المهمة المعجزة, لاسباب اصبحت بديهية في عصرنا الحاضر, يعرفها طالب الثانوية بعد دراسته علم الذرة والعدد الذري والوزن الذري والمدارات وكيفية توزيع الالكترونات على المدارات واستحالة تحويل عنصر الى عنصر أخر, الا في حالات نادرة جدا, اقول هذا العجز الطبيعي لمحدودية قدرة البشر جعل منهم مجال اضحوكة وموقع سخرية ومحل اتهام بالكذب والدجل حتى ان الشاعر العبقري ابن الرومي لما هجا ابا الصقر اسماعيل بن بلبل اورد هذه التهمة اليه قائلا:
عجبت من معشرٍ بعقوتنا باتوا نبيطاً واصبحوا عربا
مثل ابي الصقر ان فيه وفي دعواه شيبان آية عجبا
بيناهُ عِلجاً على جبلـّـتِهِ اذ مسّهُ الكيمياءُ فانقلبا
وابن الرومي ممن عاصر هذه الموجة فقد عاش مابين (221هـ-283هـ/835م-896) والشيء بالشيء يذكر ان عباساً بن فرناس في الاندلس (274هـ/888م) قد استنبط الزجاج من الحجارة وهذا من الاعمال الكيميائية بلا ريب
علم الفلك
واذا انتقلنا الى الفلك حيث اهتم المسلمون بعلمه لاسباب دينية ودنيوية, فقد اقام الخليفة المأمون بناء مرصدين فلكيين, احدهما على جبل قاسيون بدمشق والثاني في المنطقة الشماسية ببغداد, وكانت المهمة الكبرى لتلك المراصد الاسلامية ايجاد جداول فلكية مبنية على ارصاد حديثة للشمس والقمر, ولموسى بن شاكر المنجم صديق الخليفة المأمون وابنائه الثلاثة من بعده (محمد واحمد والحسن) وهم اول فريق علمي في التاريخ صولات وجولات في علم الفلك والرياضيات واشتغلوا بالحيل (الميكانيك) وخصوصاً (احمد), اذ برع في هذا العلم فصنع بعض الالات المتحركة المبنية على فكرة الربح الميكانيكي مثل الروافع, وآلة تملأ الانابيب الفارغة لوحدها وصنع مع اخيه محمد ساعة نحاسية كبيرة, وضع احمد كتاباً يتحدث فيه عن فكرة مركز الثقل وكيفية استخدام الالات وصنعها, المهم نرجع لموضوعنا الفلكي, لقد بنوا مرصداً كبيراً في قصرهم ببغداد, وبطلب من الخليفة المأمون, وقدروا محيط الارض بنحو 24 الف ميل وهو لا يختلف كثيراً عن التقدير الحالي, وكان اعلمهم الحسن المتوفي (260هـ/873م), وهم الذين قربوا حنين بن اسحاق وثابت بن قرة واستفادوا من ترجماتهم, اذ كان بنو موسى اثرياء جداً ومحظوظين لدى الخليفة, ومن ثم توالى عبد الرحمن الصوفي (376هـ/987م) واهتم بهذا الشأن وبنى مرصداً للسلطان عضد الدولة البويهي, رصد فيه النجوم, واكتشف نجوماً ثابتة لم ينتبه اليها من قبل اليونانيون, وزاد على ذلك برسم خريطة للسماء بدقة متناهية-حسب مفاهيم عصره واجهزته المتوفرة- وبين مواقع النجوم واحجامها ومقدار اشعاعها.
وطور العرب آلة الاسطرلاب (ذات الصفائح كما اطلق عليها العرب القدماء) ويعتقد ان اصلها يوناني يعود الى هيبركيس(100 عام قبل الميلاد), ولو ان البعض ينسب هذا الاختراع الى ابي اسحاق ابراهيم بن حبيب الفزاري الذي وضع كتاباً يوضح فيه عملها ابان القرن الثامن الميلادي, واهتم الخوارزمي والبيروني وغيرهما بآلة الاسطرلاب مثل ابي سليمان السجستاني (415هـ/1025م) الذي اخترع الاسطرلاب الزورقي, وحدد به ان الارض متحركة تدور حول محورها وان الكواكب السيارة سبعة, ومن بعده يصنع ابن الزرقالي (493/1099) اسطرلاب عرف باسمه, وحظي باهمية كبرى في علم الفلك, وكان اكبر اسطرلاب في عصره الاندلسي
وعلى العموم الاسطرلاب لم يستخدم فقط لرصد حركة النجوم في السماء حول القطب الشمالي, وانما تعدى ذلك ليستخدم في حل مشكلات فلكية عديدة, اذ يستعمله الملاحون في البحار, والمساحون على الارض, وسعاة البريد للاطلاع على المسافات بين المدن, والمسلمون عامة في معرفة اوقات الليل والنهار اثناء صومهم وصلاتهم, والمزارعون والرحالة في تحديد فصول السنة ..وصنعوا انواعاً عديدة منه كالمسطح الكروي والزورقي ...
والفلكيون العرب عرفوا ظاهرة المد والجزر (ابومعشر الفلكي 272هـ/887م) وصنعوا (الزيت الحاكمي نسبة الى الحاكم بامر الله الفاطمي) وضم فيه الخسوفات والكسوفات على يد العالم (علي بن يونس 399هـ/1009م), وابتكر البيروني (440هـ/1049م) نظرية جديدة لاستخراج محيط الارض, عرفت بالغرب بقاعدة البيروني, ومن الملفت للنظر أن ابن حزم الاندلسي(456هـ/1064م) اعتمد على جزمه بكروية الارض لقوله تعالى (ويكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل), لكن ابن طفيل (518هـ/1185م) عمم الامر واعلن عن كروية الاجرام السماوية كالكواكب والشمس والقمر, لذلك كله يقول (جورج سارتون شيخ مؤرخي العلوم: ان بحوث العرب في الفلك كانت مفيدة جدا, وقد مهدت لطريق النهضة الفلكية الكبرى التي بزغت بكوبل)
علم الرياضيات
لندخل وتدخل معنا باذن الله عالم الرياضيات وسنشرع معكم برجال العصر العباسي الاول الذين لولاهم لما شع نور العلم الى ارجاء العالم العربي, الاسلامي ثم تلقفه الغرب من بعد ... كما فعلنا بدنيا الفلك برز في العصر المذكور, وخصوصاً في عهد المأمون ودار حكمته, رجل فذ حمل على اكتافه اسساً لعلم جديد في علم الرياضيات طيلة مكوثه في دار الحكمة ومن بعده حملته اجيال العالم باجمعه.
العلم الجديد القديم لم يندثر, بل بقى على اسمه العربي طيلة الف ومائتي عام في مشرق الدنيا ومغربها, وخصوصاً في الدول المتحضرة حاليا اوربا وامريكا, وبقى معه كنية واضعه لسبب اخر مهم .. وسيبقى و ستبقى ...! وترجمت اغلب كتبه الى اللغات الاوربية كالالمانية والاسبانية والانكليزية. أظنك مثل غيرك في هذه الدنيا مررت بهذا العلم وهذه الكنية, او ستمر باذن الله, هل عرفتهمها؟
جزماً الجواب بـ (نعم)!
العلم هو الجبر الكلمة مأخوذة من كتابه الشهير (الجبر والمقابلة), اذ لما بيـّن معادلة الدرجة الثانية لاول مرة في التاريخ, قال لتجبر المعادلة اي تُنقل الكميات السالبة من طرف المعادلة الى طرفها الاخر لتصبح موجبة, ثم من بعد ذلك نقابلها اي نحذف الحدود المتشابهة من طرفيها واستطاع ابن الياسمين (601/1201) في المغرب العربي ان ينظم علم (الجبر والمقابلة) على شكل ارجوزة, أصبحت فيما بعد سهلة الحفظ والتداول, فيعدد أولا حدود المعادلة قائلاً:
على ثلاثةٍ يدور الجبرُ المال والاعدادُ ثم الجذرُ
فالمالُ كل عددٍ مربع وجذره واحد تلك الاضلع
والعدد المطلق مالم ينسبْ للمال ِ او للجذر فافهم تصب
والجذرُ والشيء بمعنى واحد كالقول في لفظِ أبٍ ووالدْ
وجاء ايضاً في بيانه للمعادلات واقسامها:
فتلك ستٌ نصفها مركبة ونصفها بسيطةٌ مرتبة
أولها في الاصطلاح جاري ان تعدل الاموال بالاجذار ِ
وان تكن عادلت الاعدادا فهي تليها فافهم اطرادا
وان تعادل بالجذور ِ عددا فتلك تتلوها على ما حددا
ولعلمك ان كنت من غير رياضي الذهن. ونعود لعالمنا الخوارزمي هو الذي عين النسبة الثابتة للدائرة (ط= 22/7), وتوصل الى كيفية حساب مساحة الهرم الثلاثي والهرم الرباعي والمخروط, وشرح الاعداد والارقام الهندية واضاف اليها الصفر, والهنود من قبله لا يستعملونه, وانما يستخدمون كلمة (سونيا), اي الفراغ او الخواء, والعرب منذ آمد بعيد قالوا (صفر اليدين) ويستعملون كلمة (صفر) للدلالة على احد اشهرهم, وكان يمثلون الصفر على شكل (0) ومن بعد للتفريق بينه وبين العدد (5) الدخيل, وضعوا النقطة للدلالة عليه
والصفر سهل كثيراً العمليات الرياضية, وذلك لا يخفى على احد لانه سيحدد بدقة مراتب الاعداد .. فمثلاً اذا طرحت اربعين من خمسين فالباقي عشرة, اذ لم تضع الصفر على اليمين قد يختلط عليك الامر, فلا تعرف الواحد هل هو من خانة الاحاد ام العشرات ام المئات ... وهكذا سارت الارقام الغربية على نمطها العربي على عكس مايكتبون في حروفهم, والحقيقة ان ارقامهم في الاصل هي من اكتشاف المسلمين على طريقة الزوايا
ولهذا يقول المهندس الانشائي الكبير البروفسور (كيني) في مقدمة احد كتبه (يكفي العرب فخراً ان تكون ارقامهم اساساً لكل علومنا الحاضرة)
ومن العجيب ان الارقام المستعملة الان في الغرب, كان يستعملها العرب قبلهم, حتى ظهرت الارقام التي يستعملها العرب الان وهي الارقام الهندية, بالصفر المرسوم على شكل نقطة في مؤلفات عربية تعود الى عام 274هـ/886م
اعتقد انك نسيت الكلمة المنسوبة الى كنية عالمنا الكبير( ابوبكر وقيل: ابوعبد الله محمد بن موسى الخوارزمي تـ232هـ/847م) اي لم يعاصر المتوكل العباسي, ويقال انه من خوارزم التي تقع اليوم في اوزبكستان, فيما يذكر الطبري في تاريخه ان الخوارزمي يعود في نسبه الى قطربيل الواقعة قرب بغداد بين النهرين...المهم نشأة الرجل بغدادية خالصة, ولغته عربية سليمة, وعلمه من دراسته المكثفة وعقله المبدع ... وهو قد سبق عصر الاعتماد على الكتب المترجمة ... نعود للكلمة المنسوبة الى كنيته هي الخوارزمية وتكتب بـ(اللوغارتيزم) او ( اللوغاريثمات) وهي عملية حسابية تستعمل في كل فروع علم الرياضيات الى يومنا الحاضر, وتعني احكام خطوات حل المسائل الرياضية ... وينتظر الغرب حتى سنة (1614م/1023هـ) ليقوم عالم الرياضيات الاسكوتلندي جون نابير بنشر كتابه (وصف قاعدة اللوغاريثمات العجيبة) وذلك قبل وفاته بثلاث سنوات
ويواصل علماء العرب والمسلمين جهودهم كثابت بن قرّة (اقليدس العرب) تـ(288هـ/901م) .. وذكرنا مرافقته لابناء موسى بن شاكر سابقاً, والحقيقة محمد بن موسى هو الذي عرفه على الخليفة المعتضد فاجزل عليه الخلع والهدايا والعطاء الكثير, وقربه منه, واجله اجلالاً عظيماً, ,كرّمه تكريماً نبيلاً, وعالمنا الكبير هو الذي قسم الاعداد الى فردية وزوجية, ثم قسم العدد الصحيح الى ثلاثة اقسام, العدد التام (6), العدد الزائد(12), العدد الناقص (10), وذلك من حيث عوامله, اما مجموعها تساوي العدد او اكثر منه او أقل, وكان طبيباً ماهراً, وخصوصاً بالامراض الجلدية وشرح الكثير من حالاتها وميزها واوجد لها العلاج الشافي حسب مقاييس عصره, وقال عنه ديورانت ول في كتابه (الحضارة الانسانية) انه اعظم علماء الهندسة المسلمين, فقد ساهم بنصيب وافر في تقديم الهندسة, وهو الذي مهد لايجاد علم التكامل والتفاضل كما استطاع ان يحل المعادلات الجبرية بالطرق الهندسية وتمكن من تطوير وتجديد نظرية فيثاغورس, وكانت له بحوث عظيمة وابتكارات رائدة في مجال الهندسة التحليلية, فقد الف كتاباً في الجبر شرح فيه العلاقة بين الجبر والهندسة وكيفية التوفيق بينهما, واستطاع ان يعطي حلولاً هندسية لبعض المعادلات التكعيبية وهو ما افاد علما الغرب فيما بعد تطبيقاتهم وأبحاثهم الرياضية في القرن السادس عشر, وسنان ابنه واصل مسيرة ابيه العلمية وذكرناه سابقاً ...
واذا اعتبرت الهندسة علماً اغريقياً, فلا يختلف اثنان ان علم المثلثات عربي المولد والنشأة, فالعرب اول من استخدم الجيب بدلاً من وتر ضعف القوس, واول من اوجد النسب المثلثية واول من اكتشف قواعد عمل الجداول الرياضية, واشهر رواد هذا العلم ابو جابر البتاني (تـ317هـ/930م) وابو الوفاء البوزجاني (387هـ/998م) الذي ادخل القاطع وقاطع التمام
وهناك علماء في الرياضيات اخرون, ولو أن هذا الامر يخالف الحقيقة, حيث كان العلماء لا يخوضون في مجال علمي واحد, وانما يجوبون في شتى العلوم, مما يجعل افقهم العلمي متقارب, الا من يحدث طفرة فيقفز الى افق اعلى في احد المجالات, بل انهم اعتبروا التخصص نوعاً من الجمود الفكري الذي يقلل من شأنهم ويعيق من اتساع شهرتهم, وبالتالي لا يلقون التكريم الكافي من الخلفاء والسلاطين, لو كان الامر معكوساً وتخصصوا من ذلك العصر ربما لكان العرب والمسلمون وبالتالي الانسانية جمعاء اكثر تطوراً واعلى رتبة مما عليه الان .. وقلت (ربما) لان هنالك نظرية حديثة تخالف الرأي الاخير .. وجرني هذا الحديث للكلام عن ابي يوسف يعقوب بن اسحاق الكندي (185-256هـ/805-873م) حيث تشعب في علوم الفلك وسير الكواكب والفيزياء, اذ اجرى تجارب حول قوانين الانجذاب والسقوط وكيفية ايجاد الوزن النوعي لبعض السوائل, اما في الهندسة فهو الذي قاس الزاوية بواسطة البركار ناهيك عن انه مارس الطب وعالج المرضى النفسيين بالموسيقى.
استمر علماء العرب والمسلمين في تطوير علم الرياضيات, كأبي بكر الكرخي (410/1020م) الذي اهتم بالجذور العم وبمربعات الاعداد ومكعباتها والمتواليات وعمر الخيام (513/1111م) في بلاد فارس اهتم بالجبر واعتمد على بحوث الخوارزمي وطورها... وهنالك في الاندلس ظهر جابر بن افلح (540/1145) الذي كتب كتاباً في اشبيلية يعرف باسم بـ(كتاب اصلاح المجسطي) وفيه انتقد اراء بطليموس في كتابه (المجسطي) في علم الفلك ويقال ان كوبر نيكوس وكبلر قد تأثرا به تأثيراً كبيراً واعتمدا عليه في نظرتهما الجديدة في الفلك ودوران الارض, وهو اول من اورد القانون الاساس للمثلث القائم الزاوية .. واخيرا طل علينا مرة اخرى (نصير الدين الطوسي,762/1273م) ودرس المسلمة الخامسة من اصول اقليدس (مسلمة التوازي) وحاول اشتقاقها من المسلمات الاربعة, وان دراسة الطوسي هي التي ادت برخاري الى بدء عمله في الهندسة غير الاقليدية من خلال معرفته بكتاب الطوسي في الهندسة في القرن السابع عشر الميلادي واستخدامها في محاضرة بجامعة اكسفورد.
علم البصريات
وان ننسى لن ننسى العالم الشهير ابا علي الحسن بن الهيثم ( 354 -- 430هـ/965--1039م) وهو وليد البصرة الفيحاء, وتخصص بطب العيون (الكحالة) في بغداد ونال الجائزة به ثم استدعاه الحاكم بامر الله الفاطمي اثر مقولة للبصري حول تنظيم ري نهر النيل عند فيضانه او شحته .. فعجز عن القيام عملياً بالدور للظروف الموضوعية في عصره, وحدد مكان السد في المكان نفسه الذي اقيم عليه الان السد العالي بمصر, والف كتابه (المناظر), اذ بحث فيه موضوعات انكسار الضوء وتشريح العين وكيفية تكوين الصور, وجعل علم المرايا علماً مستقلاً له اسمه وقوانينه واهتم بالالات البصرية وحسب درجة الانعكاس في المرايات والمرايا المحرفة, وحدد ان الرؤية تنبعث من الجسم المرئي باتجاه عين المبصر بعكس ماقاله (بطليموس) وتوصل الى معرفة قانون تأثير العاكسات الضوئية وحقق في تأثير الفضاء على الاشعة وتكبير الاحجام بواسطة الزجاج المكبر
(loupe)
المهم يعتبر المؤسس الاول لعلم الضوء اذ تضمنه كتابة (المناظر) الذي ألفه عام 411/1021هـ واعتمد على الملاحظة والتجربة, استقراءً واستنباطاً. ويعتبره الاوربيون اعظم علماء الحضارة العربية والاسلامية لاكتشافه علم البصريات (الضوء) وحلوله العبقرية لمعادلات الدرجة الثالثة والرابعة. توفي في مصر ودفن بارضها بالسنة المذكورة ازاء اسمه.
علم الجغرافيا
وعقبى ازدهار الحضارة العباسية ورقيها التجاري والسياحي -ان صح التعبير- قام التجار والرحالة وعلماء الجغرافية بالتنقل بين بلدان العالم الاسلامي وخارجه غير آبهين بمصاعب الطرق وقطّاعها وتكاليف التنقل وشحة موارده .. غنم من غنم .. وفقر من فقر .. ومات من مات .. ونجا من نجا .. والنتيجة سجلوا ملاحظاتهم ودونوا مشاهدتهم ورسموا خرائطهم .. وبينوا مسالكهم .. ولك ان تعرف او تتذكر ان اربعة كتب مشهورة قد وسمت بـ (المسالك والممالك), الاول لابن خرداذبه (280هـ/894م) حيث دون فيه الطرق البرية التي كانت يسلكها التجار والحجاج في داخل العالم الاسلامي وخارجه .. والثاني للاصطخري (346هـ/985م) وفيه وصف بلاد الاسلام وعددا من غيرها, ورسم الخرائط اللازمة لمعرفتها .. والثالث لابن حوقل (367هـ/968م) واتى فيه على ذكر جميع اقسام الارض, ماكان مسلوكاً او غير مسلوك, وجعل جل اهتمامه بمواطن الحضارات.. ووفى البلاد الاسلامية حقها ً واخيراً لابي عبيد البكري (487هـ/1085م) وهو من الاندلس لذلك وصف فيه بلادها وشطراً من اوروبا وافريقيا الشمالية, ليس بالضرورة انني قد تكلمت عن اشهر الجغرافيين او الرحالة من العرب المسلمين, فلا ريب هنالك من هو اشهر منهم او بندهم مثل المقدسي البشاري (380هـ/991م) وكتابه (احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم) اذ دون رحلته في البلدان الاسلامية ورسم خرائطها واعاد تقسيمها وجعل لكل منها صورة خاصة او شكلاً مميزاً, واشتهر في الاندلس (الشريف الادريسي 560هـ/1160م) وكتابه (نزهة المشتاق) تكلم فيه عن اقاليم العالم وخصوصاً اوربا ووضع الخرائط الدقيقة, ويمتاز الكتاب بدقته في حساب الاطوال والعروض للبلاد المختلفة بعد تقسيمه الارض الى سبعة اقاليم ثم تقسيمه هذه الاقاليم الى عشرة اقسام متساوية من الغرب الى الشرق فصار مجموعها سبعين قسما ووضع لكلّ قسم خريطة, اضافة للخريطة العامة...
هذا مختصر المختصر وسوف اشير الى كتب الرحالة المشهورين (سفرنامة) لناصر خسرو (481هـ/1089م) وفيه وصف دقيق للمدن التي اقام فيها اثناء رحلته سنة 473هـ/1081م الى كل من مصر والشام والحجاز والعراق ووصف المسالك التي مر بها و (رحلة ابن جبير) (614هـ/1217م) والكتاب يحتوي على ثلاث رحلات وصف فيها البلدان التي زارها واقام فيها في طريقه الى الحج وهي مصر والحجاز والشام والعراق وصقليه وتعد رحلته من اهم مؤلفات العرب في الرحلات
واخيراً رحلة (ابن بطوطة) (779هـ/1377م) وهي تتضمن ثلاث رحلات ايضا الاولى دامت خمس وعشرين سنة شرع بها سنة 725هـ/1325م وانتهى منها سنة 750هـ/1349م و جاب العالم وسجل ملاحظاته, ثم توجه الى مملكة غرناطة بالاندلس وما ان عاد منها حتى توجه ليلاقي المصاعب الجمة في الصحراء الكبرى حيث بلاد السودان كمالي والنيجر ,, وقفل عائداَ بعد ان اكمل عامين كاملين بأمر من السلطان ابي عنان ... الذي كلف الكاتب ابي عبد الله بن جزي بان يكتب ما يمليه عليه الرحالة... وضم فيها اوراق الرحلة وتم ترتيبها وتصنيفها واطلق عليها (تحفة النظار في غرائب الامصار)
علم الحيوان
ونتعدى الجغرافيا والرحلات لنواصل المشوار مع علم الحيوان والنبات والصيدلة واخيراً علم الطب وتطوره ففي علم الحيوان لاريب يعتبر أبو عثمان عمر بن بحرالكناني الملقب بالجاحظ مواليد البصرة 159هـ/775م والمتوفي 255هـ/868م, الرائد الاول لعلم الحيوان, الرجل معتزلي والحق هو امام المعتزلة في زمنه يحكم العقل في كل اموره فما كان ليصدق كل ما قيل له, او ما قرأ عنه من اخبار السالفين حتى لو كان (صاحب المنطق) ارسطو كما يسميه هو في كتابه (الحيوان), فحاججه عقلا بعقل وسخر منه احيانا ومن غيره, فراجع مايقول بشأن الحية التي تعالج بحجر من قبور ملوك القدماء, والحية ام راسين ومناقشته من يدعي انه شاهدها ليثبت مقولة ارسطو ... الذي سخر منه الجاحظ مرة ثانية لزعمه ان اناث العصافير اطول عمراً من ذكورها, ثم رأيه بالحجر الاسود الذي اكتسى بذنوب البشر بعد ان كان ابيض...فما باله بقى على حاله الاسود بعد الاسلام, ولم يتردد في نقد ابى زيد الانصاري في الاخبار التي اوردها عن السعالى والجن واستمرت هذه الموجة العقلية التي طفر بها المعتزلة حتى وصلت الى ابي العلاء المعري 363هـ/449هـ/973م-1058م فتلاقفها وشدا بها في شعره فهو يصرح
كذب الظن لا امام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء
ويتحدى اصحاب المذاهب غير آبهٍ بهم وبغيرهم والحكم للعقل
وينفر عقلي مغضباً ان تركته سدى واتبعت الشافعي ومالكا
بل يتجاوز ذلك للاديان ويرى ان افقها لا ينسجم وفق العقل ومستواه, فيجب عليك الايمان بها دون الرجوع اليه
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدتْ ويهود حارت والمجوس مضلله
اثنان أهل الارض ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له
أما نثره (فرسالة الغفران) فيها من المضامين العقلية والتساؤلات الذهنية مالا يتسع لايرادها ... وانشقت بعض الفرق الاسلامية في عصره وهو عصر الفاطميين والحاكم بأمر الله ونادت بالعقل وان الموحدين الدروز من بقايا تلك الموجات ولظروف تاريخية صعبة لم يثبتوا على مسيرتهم ولو بقي لديهم شيخ عقل الطائفة
واعتمد الجاحظ على الشك للوصول الى اليقين وقالها بلسانه (اعرف مواضع الشك والحالات الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له), مثلما تكلمنا عن أبي العلاء وعقله, نتكلم عن الامام الغزالي وشكه (تـ 505هـ/1111م) فالغزالي قد سلك مسلك الشك المنهجي في بادئ امره للوصول الى الحقيقة وعنده (من لم يشك لم ينظر, ومن لم ينظر لم يبصر, ومن لم يبصر يبقى في العمى والظلال) ثم اورد عبارة في كتابه (المنقذ من الضلال) تقول (الشك اول مراتب اليقين) وقد استند على ما يبدو عليها الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت (تـ1650م/1060هـ) في مقولته الشهيرة (الشك اساس اليقين), ولكن الغزالي توجه في الاخير الى التصوف مبتعدا عن الفلاسفة والمتفلسفين والف كتابه الشائع الصيت (تهافت الفلاسفة)
ونعود لموضوعنا والعود أحمد كما يقال
اذن الجاحظ اعتمد على عقله وشكه للوصول الى اليقين, وعلى تجاربه البسيطة على الحيوانات -حسب مقتضيات زمنه- وملاحظاته الدقيقة لسلوكها واشكالها .. اضافة الى ما نقله وسمعه شعراً ونثراً ومشافهة من لغات عديدة كالفارسية واليونانية وحتى الهندية, اضافة للعربية طبعا, واخذ بشكل متعقل وليس كثيراً من كتاب الحيوان لـ(ارسطو), وصب ذلك كله في بودقة عقله ليخرج لنا بمؤلفه الشهير (الحيوان), بسبعة اجزاء جامعة شامله للعلم والادب والشعر والنقد والسخرية, وكان على العموم جاداً في مواقع وهازلاً في مواقع اخرى, ولم ينس الفكاهة والمجون فاذن لا تتصور (كتاب الحيوان) يشمل (علم الحيوان) بمعناه الحاضر وباختصاصه المعلوم والمنهجية المتعارف عليها الان ... كلا ... أنها فوضى لدائرة معارف شاملة, ففيه من المعارف الفلسفية والعلوم الطبيعية والجوانب السياسية والنزاعات الكلامية والطوائف الدينية, ومالك ان تعرف عن الجغرافيا والطب والفقه والشعر ولكن لا يخلو ماسجله عن الحيوانات وهي اسمى غاياته من ابداعات واكتشافات تعد مهمة جدا في عصرها..
وقسم الحيوانات الى شيء يمشي وشيء يسبح وشيء يطير وشيء يزحف ... ومن المعلوم حالياً تطلق كلمة (الاشياء) على كل ماهو موجود في الطبيعة .. وغلبت كلمة (الكائنات) على الاحياء .. وقسم الاشياء التي تمشي الى اربعة اقسام الناس والبهائم والسباع والحشرات, ثم يعدد مميزات كل قسم, وينتقل بعد ان يتناول الكلاب والديوك ويقارن بينهما الى الاشياء التي تسبح وهنا لا يعد كل ماهو عائم بسمكة (ليس كل عائم سمكة وان كان مناسباً للسمك في كثير من معانيه)
(الا ترى في الماء كلب الماء وعنز الماء وخنزير الماء وفيه الرق والسلحفاة, وفيه الضفدع وفيه السرطان والتمساح والدلفين)
فتلاحظ ان قد ميز السمك بشكله الانسيابي وزعانفه وذنبه وتنفسه الغلصمي وقشرته عن الحيوانات التى تنتمي الى فصائل واجناس اخرى غير الفصيلة السمكية, بجنسيها العظمي والغضروفي
على كل حال تكلم الجاحظ عن مملكة الحيوان باغلب فصائلها واجناسها وانواعها المعروفة حينذاك وبشكل مفصل واجرى بعض التجارب ودون الملاحظات ودرس اثر البنية عليها .. وجعل في هذا كتابي الحيوان لارسطو وديمقاطيس خلف ظهره دون ان يهمل الاول, لذلك يعتبر كتابه افضل ما كتب عن الحيوان حتى عصره الذهبي, ومن الجدير بالذكر, بل يجب التنويه عنه موضوع التركيب كما يسميه (أو التهجين كما نسميه), اذ يقول ( اننا وجدنا بعض النتاج المركب وبعض الفروع المستخرجة منه اعظم من الاصل) ولكنه ميز يبن التهجين الممكن والشائعات الخاطئة التي لا يحققها الامتحان (ويقصد التجريب), وما عندنا معرفة بها, لذلك فهو يرفض ان الزرافة هجينة من الناقة الوحشية او البقرة الوحشية والذيح, كما انه لم يقتنع والحق معه ونحن معه بتسافد الثعالب مع الكلاب, او الثعالب مع الهرة الوحشية, في حين يقر بالتزاوج بين الحمير والخيل ولله في خلقه شؤون( في الحالة الاخيرة تتساوى عدد الصبغيات في كلا النوعين)
نتجاوز الجاحظ الكبير مرحلياً -فهو اكبر من ان يتجاوزه احد- بعد ان قضينا معه شطرا طويلاً, لانه من اكابر الرجال في العصر العباسي الاول كالخوارزمي وجابر بن حيان وغيرهما ممن اسهبنا الحديث عنهم.
علم النبات
سندخل عالم النبات ونطيل المقام نسبياً, وصبرك على تحمل هذا الموضوع الملل على مايبدو, ولو انه خلاصة حضارة العرب العلمية.
عالم النبات بمملكته الكبيرة المنتجة للغذاء والطاقة, اذ لولاها لم يعد للحيوانات وجود ولا بقاء ولاهم يحزنون فنحن وابناء عمومتنا -ان اردت الترفع- مستهلكون, وهذه المملكة مكملة لصناعات لا تعد ولاتحصى, ومنها الصناعات الصيدلانية, وهذه المملكة العريقة والتي سبقت مملكتنا الحيوانية في هذا الوجود بمئات ملايين السنين, هي الاصل ولا حاجة لها بنا بل لله من قبل ومن بعد, ثم للشمس والارض يقول الشاعر العظيم معروف الرصافي رحمه الله تـ 1939م
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة
كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة
فابحث وقل من ذا الذي يخرج منها الثمرة
وانظر الى الشمس التي جذوتها مستعرة
فيها ضياءٌ وبها حرارة منتشرة
من ذا الذي اوجدها في الجو مثل الشررة
وانظر الى الغيم فمن انزل منه مطره
فصيّر الارض به بعد اغبرارٍ خضرة
ذاك هو الله الذي انعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة
فاذن للعالم النباتي بمملكته الجبارة, وبعلمه ورجاله, علاقة وثيقة لا تنفصل بالعلوم الصيدلانية كما قلنا, وما وجدت هذه العلوم اصلا الا لخدمة الطب ورجاله ... وما للطب ولا للطبيب بمعنى لولا الانسان, وما الانسان الا وجهة الانسان, وانا لم اكتب ولا اكتب شيئا, لولا وجودك ومن يتعاقب من اجيال بني الانسان
ان علماء الاغريق لهم كتابات عن علم النبات, ومنهم (ديسقورديس) الذي عاصر السيد المسيح (ع), فقد الف كتاب (الخشخاش) وضمنه 500 دواء, لذلك اعتبر اول من استخدم هذا العلم في تطور مهنة الصيدلة, اضافة لوصفه مادة الافيون وشجرة الخشخاش, ربما لاستعمالها لتخفف الالام وتخدير الجروح خلال المعارك والحروب وما اكثرها, ولكن العرب اول من فصل بين الطب والصيدلي كمهنتين مستقلتين, واصبح العشابون (الصيادلة) يجوبون الفيافي والبراري والحقول والمزارع للبحث عن الاشجار المفيدة والاعشاب النافعة لهم ولمهنتهم, ولا تتعجب عندما كانوا يصحبون معهم الرسامين في جولاتهم ورحلاتهم لرسم النباتات من اشجار وشجيرات واعشاب باعضائها واثمارها كما خلقها الله وبألوانها الطبيعية وبيئتها البرية او المائية لكي يتعرف عليها الدارسون والباحثون من بعد
والحقيقة كان علما النبات والحيوان يحسبان على علم اللغة, وكان اللغويون يدونون اسماء الحيوانات والنباتات, ويصفون انواعهما بما يسمعون ويقرأون ويلاحظون, وربما مع قليل من التجارب, ومن هؤلاء النضر بن شميل (تـ204هـ/820م), فقد افرد الجزء الخامس من كتابه (كتاب الصفات في اللغة) للزروع والكروم والاعناب واسماء البقول والاشجار .. ثم خصص ابو عبيدة البصري (تـ 208هـ/823م) مؤلفه بالكامل (كتاب الزرع) عن الزراعة, وجرى على مجراه من بعد ابو زيد الانصاري (تـ215هـ/830م) في كتابه (النبات والشجر) وهشام بن ابراهيم. الكرماني (تـ216هـ/831م) في ( كتاب النبات)
ويعد أبو حنيفة احمد بن داود الدينوري (تـ282هـ/895م) عاش في بغداد اول من صنف النباتات بشكل دقيق حيث اعتمد عليه الاطباء والعشابون (الصيادلة), وقد بلغ عدد ما اورد من اسماء النباتات في كتابه (النبات) 1120 اسماً, لذلك اعتبر اول من الف في علم الفلورا النباتية للجزيرة العربية, والرجل نباتي عربي محض, لم يعر اهتماماً في بحوثه للقضايا الطبية بقدر اهتمامه لوصف وتركيب وتصنيف النباتات والحديث عن التربة وكيفية نمو النباتات وبيئتها, والكتاب اميل للبحوث اللغوية ولهذا نقله علماء اللغة كله اومعظمه في مصنفاتهم بتصرف بسيط فعل ذلك ابن دريد في الجمهرة والازهري في التهذيب والجوهري في الصحاح وابن سيده في المخصص وابن منظور في لسان العرب والفيروز أبادي في القاموس المحيط.
وللكندي صولة وجولة في هذا المجال, ولك ان تستشف من كتبه (الغذاء والدواء المهلك) و (الادوية الشافية من الروائح المؤذية) و(اشفية السموم) مايغنيك ويغنينا عن كل علم عقيم ومرض سقيم
وقبل ان نطوي موطن الحضارة العباسية ونبتعد نقول ان المتوكل العباسي امر اصفان بن باسيل بترجمة كتاب ديقوريدس الموسوم (المادة الطبيعية), فعجز عن اكماله بعد ان عنونه بكتاب (الحشائش او هيولى علاج الطب) .. ولم يتم الا في عام (337هـ/948م) ثم اضاف اليه الطبيب الاندلسي ابن جلجل (القرن الخامس الهجري) موضوعات اهملها ديسقورديس
اما في بلاد الاندلس حيث شعت الحضارة بعد بزوغها في بغداد, ودائما بغداد هي الاولى ثم بقية الحواضر العربية والاسلامية, هكذا قضت الايام مابين اهلها في زمن من الازمان, ونحن في مسار اشعة عاصمة الرشيد ودار الاسلام سائرون.
علم الصيدلة
نعم توهج نجم ابي جعفر الغافقي احمد بن محمد الاندلسي المتوفي 560هـ/1165م في علم النبات والصيدلة, واشتهر بكتابه الموسوم (الادوية المفردة) وجمع مايقارب الف صنف من الادوية البسيطة وشرح طريقة استعمالها ووصفها, واستفاد من كتب جالينوس وديسقورديس,
ولاشك يعتبر ابن البيطار ضياء الدين ابو محمد عبد الله المالقي (نسبة الى مدينة مالقة) توفي في دمشق 646هـ/1248م اعظم عالم نباتي برز في القرون الوسطى, وتتلمذ على يد ابن الرومية وعبد الله بن صالح وغيرهما, تنقل في معظم البلاد الاسلامية والغربية باحثاً عالماً في مجال علم النبات والاعشاب والادوية, حتى ذاع صيته واشتهر شهرة عظيمة ... في كتابه (الجامع لمفردات الادوية والاغذية) الذي جمع كل ما صنف سابقا واضاف 300 صف جديد, وذكر فيه اسماء الادوية بسائر اللغات المتباينة بالاضافة الى منابت الدواء ومنافعه وتجاربه الشهيرة, واهتم بمخطوطه لكي لايقع التحريف او التصحيف وبالتالي تتعرض حياة الناس لخطر استعمال الدواء ... وكان يتبع المنهج العلمي في ابحاثه فيقول في مقدمة كتابه (..ماصح عندي بالمشاهدة والنظر, وثبت لدي بالمخبرلا بالخبر اخذت به, وماكان مخالفاً في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية والماهية للصواب نبذته ولم اعمل به ...)
اصبح الرجل رئيس (العشابين) اي (نقيب الصيادلة) في عهد الملك الصالح الايوبي, فما كان ليكون لولا مساعيه الجبارة ومساعده الملك الصالح له, لذلك اشتهر في الغرب ودرست بحوثه في الجامعات الاوربية حتى وقت متأخر, فيقول المستشرق لاسكا عن كتابه (ان كتاب الجامع كان له اثره البالغ في اوروبا وكان من اهم العوامل في تقدم علم النبات عند الغربيين) وتذكر ايضا الباحثة الالمانية, ريجفرلد هونكه (ان ابن البيطار من اعظم عباقرة العرب في علم النبات, فقد حوى كتابه الجامع كل علوم عصره وكان تحفة رائعة...)
وبقى لنا ابن الصوري نسبة الى صور تـ (639هـ/1241م) ترجم له ابن ابي اصيبعة في كتابه (عيون الانباء في طبقات الاطباء) كما ترجم لاستاذه (والهاء تعود لابن ابي اصيبغة) ابن البيطار, لصاحبنا كتاب (الادوية المفردة) جمع فيه غريب النبات و الحشائش بتحري مواضعها ورسمها مع الوانها واوراقها, واتى على ذكر الكثير منها ونختم علم النبات والعقاقير والاعشاب بالعالم داود الانطاكي (1592/1008هـ) وهو طبيب وصيدلي من مؤلفاته (تذكرة اولى الالباب والجامع للعجب العجاب) ويدعى (تذكرة داود), يحتوي على مالا يقل عن 1712 صنفا من الادوية ذات العنصر الواحد, ويتضمن اضافة لذلك الاعشاب والعقاقير والوصفات الطبية, كان ضريراً رحل الى مكة ومات فيها
وابن الرومية لا يقل شأناً عن تلميذه الانف الذكر, فهذا (ماير هوف) بعجب به اشد الاعجاب ويندهش من عبقريته الفذة مصرحاً من النادر بل من الصعب جدا على اي متخصص بعلم النبات ان ينتج مثل كتابه (الرحلة النباتية)
علم الفلاحة (الزراعة)
وتفرع كذلك من علم النبات مايسمى سابقاً بـ(علم الفلاحة) ويدعى حاليا (بعلم الزراعة), وارى ان الكلمة الاولى اكثر ملائمة لاختصاص الموضوع لان ليس كل زرع قد فلح, والكليات والمعاهد تهتم بالزرع الذي يستفاد منه الانسان وترعاه يد الانسان لذلك بقى الفلاح فلاحاً, وقلبت الكلمة ربما لترضية اساتذة كليات الزراعة وطلابها فمن يدريك ويدريني مع فائق الاعتذار ... واليك هذا المقطع المأساة من قصيدة (الفلاح) لأحمد الصافي النجفي (تـ حزيران 1977)
رفقاً بنفسك ايها الفلاح تسعى وسعيك ليس فيه فلاحُ
لك في الصباح على عنائك غدوة وعلى الطوى لك في المساء رواح
هذي الجراح براحتيك عميقةٌ ونظيرها لك في الفؤادِ جراحُ
في الليل بيتك مثل دهرك مظلمٌ مافيه لا شمعٌ ولا مصباحُ
فيخرُّ سقفك ان همت عين السما ويطير كوخك اذ تهبُّ رياحُ
بغضون وجهك للمشقةِ اسطرٌ وعلى جبينك للشقا الواحُ
عرقُ الحياةِ يسيل مثل لالئاً فيزان منها للغنيِّ وشاحُ
يتنازعون على امتلاكك بينهم فلهم عليك تشاجر وكفاحُ
كم دارت الاقداح بينهم ولم تملَ بغير دموعك الاقداحُ
ياغارس الشجر المؤمل نفعه دعه فان ثماره الاتراح
اقلعه والثمر اللذيذ محرمٌ للغارسين وللقوي مُتاح
قد اقسم البؤس الذي بك نازل ان لا تمرُّ بدارك الافراح
حتّام ياهذا لسانك ألكنٌ وآلامَ السنة الطغاةِ فصاحُ
الوردُ قد خنقته اشواك الرّبى ظلماً وفرّ البلبلُ الصداح
ياريف مالك شربُ اهلكُ آجنٌ رنقٌ وشرب ولاةِ امركَ راحُ
المهم نريد ان نعرج على ابن العوام ابى زكريا يحيى بن محمد الاندلسي (المتوفي 580هـ/1184م) اذ اشتهر بعلم الزراعة ففي مؤلفه (كتاب الفلاحة) بحث امراض النبات والماشية وفي كتابه (تربية الكرمة) بحث في زراعتها, وتعتبر كتبه اهم مصنفات علم الزراعة في القرون الوسطى, ويقول (فيليب حتـّي) في كتابه (تاريخ العرب) عن رسالته (كتابه) من أهم المؤلفات في هذا الموضوع في العصور الوسطى, شرح فيها مئات الانواع من النباتات وطرق زراعتها ويحتوي على دراسات جديدة في التطعيم وحصاد التربة, والسماد ووصف الارض وطرق علاجها, وابي الخير الاشبيلي (الشجار) عاش في القرن الخامس الهجري, مثل صاحبه ابن العوام له (كتاب الفلاحة) واهتم بزراعة الاشجار المثمرة والكرمة ونبات الحدائق والغابات وطبع كتابة مع ترجمة فرنسية
عقبى جهود العلماء ودخول الاعشاب والعقاقير والمحاصيل الزراعية الى الغرب, دخلت كثير من اسماء النباتات العربية الى اللغات الاوربية, واحصى (اليكليرك) ثمانين كلمة لها اصول عربية وبقت على اسمائها كالزعفران والكافور والتمر الهندي والصندل والمسك والمر واليانسون .. وسنذكر ذلك عندما نتناول موضوع تأثير الحضارة العربية ككل على العالم الغربي
ونختم الامر برينالدي الذي يقول (ان العرب اعطوا من النبات مواد كثيرة للطب والصيدلة وانتقلت الى الاوربيين من الشرق اعشاب ونباتات طبية وعطور كثيرة كالزعفران والكافور
علم الطب
والطب شأنه شأن الصيدلة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الانسان واوجاعه والآمة, فمن باب اولى الاهتمام به ورعاية رجاله ومريديه, فكيف للخليفة او السلطان ان تقرّ له عين وبطنه تلويه ومعدته تؤذيه لذلك حشدوا الجيوش لترجمة الكتب الطبية من اليونانية والفارسية والهندية والسريانية, لعلك نسيت ماذكرت لك عن الخليفة ابي جعفر المنصور وربما لاتدري أيضا عن الخليفة هارون الرشيد وصداعه, فعندما اصيب به ذات يوم شديد الحر, وكاد الصداع يذهب بصره, فاحضر له جميع الاطباء, ولكنهم اختلفوا حوله, فقام (ابو قريش عيسى الصيدلاني) ودعا بدهن بنفسج وماء ورد وخل خمر وجمعها في مضربه وضربها على راحته حتى اختلط الجميع ووضعها على رأسه حتى سكن الصداع وشفى
لا انقل لك هذه الرواية لأشيد بالدواء الناجع والطبيب البارع, ولكن شاهد مدى اهتمام الاطباء والصيادلة وصراعهم وتنازعهم واستنفار همهم ونبوغهم وعلمهم في سبيل شفاء الخليفة, كما فعل غيرهم مع المنصور .. ولكن لم يترك لنا المنصور ولا الرشيد وصفا دقيقا لحالتيهما كما تركها لنا المتنبي العظيم اذن لاذكرك بحمى الربع وهي من اعراض مرض الملاريا التي اصابته بمصر في ذي الحجة سنة 348هـ/959م. فوصف اعراضها بشكل رائع لم يسمع ولم يقرأ في تاريخ الادب من اتى بمثله, وهو يعرض بالرحيل من مصر لاكتئابه المرير وضجره الشديد ومعاناته القاسية ... فالامر امران, والحمى حمتان والالم المان, لا كما يورد الدكتور طه حسين في كتابه (مع المتنبي) من ان الوصف لم يكن للحمى وانما كان يصف اكتئابه .. اليك بعض ابيات القصيدة لتعرف كيف يصف شعراء العرب امراضهم بدقة متناهية.
ملومكما يجلُّ عن الملام ِ ووقع فعاله فوقَ الكلام ِ
ذراني والفلاة َ بلا دليل ووجهي والهجيرَ بلا لثام ِ
ولما صار ود الناس خبّأ جزيتُ على ابتسام ِ بابتسام
وصرتُ أشكّ فيمن اصطفيه لعلمي أنه بعض الانام
وأنف من اخي لابي وأمي اذا مالم اجده من الكرام
ولم أر في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام ِ
وملني الفراشُ وكان جنبي يملُّ لقاءهُ في كلِّ عام
قليل عائدي سقمٌ فؤادي كثير حاسدي صعبٌ مرامي
عليل الجسم ممتنعُ القيام شديد السّكرِ من غير المدام ِ
وزائرتي كأنَّ بها حياءٌ فليس تزورُ الا في الظلام ِ
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلدُ عن نفسي وعنها فتوسعه بأنواع السقام ِ
كان الصبح يطردها فتجري مدامعها باربعةٍ سجام
اراقب وقتها من غير شوق ٍ مراقبةَ المشوق ِ المستهام ِ
ويصدق وعدها والصدقُ شرٌّ اذا القاك في الكرب العظام ِ
ابنتَ الدهر عندي كلَّ بنتٍ فكيف وصلت انتِ من الزحام ِ
جرحتِ مجرحاً لم يبقَ فيهِ مكانٌ للسيوفِ ولا السهام ِ
يقول لي الطبيبُ اكلت شيئاً وداؤك من شرابكَ والطعامُ
ومافي طبّةِ اني جوادٌ اضرَّ بجسمهِ طول الجمام
فان امرض فما مرض اصطباري وان احمم فما حمّ اعتزامي
وان اسلمْ فما ابقى ولكن سلمت من الحمام الى الحمام ِ
ندمت على استقطاع بعض ابياتها, لولا الاطالة عليك لما فعلت. هذا ماكان يعجز الخليفة المنصور ومن بعده الرشيد والمأمون ليصفوا احوالهم الصحية والامهم النفسية بالشعر العربي البليغ والوصف الدقيق وانما ببذل الاموال ودعم الرجال وصدق الافعال
مرّ تطور الطب بمراحل عديدة وليس بقفزة قافز او طفرة طافر, فما احد يقول للشيء كن فيكون الا الله ... فبعد حركة الترجمة واستيعاب القديم مما ورثوه من العرب والامم الاخرى, وذكرنا المترجمين واللغويين وما ترجموا وما دونوا .. ثم جاءت مرحلة التبويب والغربلة والتلخيص والشرح الى ان استقروا على منهج واضح وعلم نافع, فاستوعبوه وتفاعلوا معه حتى مرحلة النضوج الفكري والعلمي ... واخيراً ابتكروا كل ما هو جديد بعقولهم النيره وعبقريتهم الفذة, فالفوا وابدعوا, وانقسموا الى فريقين
الفريق الاول: الممارسون ويمثلهم ابو بكر الرازي, فهؤلاء اعتمدوا على الممارسة المهنية, واهتموا بالدرجة الاولى بالمريض, فسجلوا مشاهدتهم, ودونوا ملاحظاتهم ودرسوا تاريخه الطبي, فشخصوا مرضه واعطوا علاجه, والفلسفة عندهم وسيلة لبلوغ هذه الغاية
الفريق الثاني: الاكاديميون (المدرسون): ويمثلهم ابن سينا هؤلاء درسوا علم الطب على انه الوسيلة الرئيسية للمعرفة, لا غنى عنه, فمارسوه بداية الامر باسلوب منطقي, لهذا اطلق عليهم (الفلاسفة الاطباء)
وان كلا الفريقين اتبع المنهج التجريبي.
وخلاصة الامر انهم قد تركوا الاثار الراسخة, والمآثر الجليلة والاسس القويمة للنهوض بعلم الطب الى الافق الانساني
لقد اعتمدوا على الملاحظة الدقيقة والتجربة المخبرية المتأنية فاقرأ معي مايقول (ابن سينا) (علينا الانثق بنتائج تحليل البول الا بشروط, ان يكون البول اول بول المريض, والا يكون المريض قد شرب ماء بكثره, ويجب على المريض الا يقوم بحركات خاصة او يتبع نظام على غير عادته, وكذلك البراز) وهكذا قال الرازي ايضا, ولا تعطي الادوية الا بعد اختبار, ومعرفة مدى صلاحيتها وتاريخ انتهاء مفعولها, ولم يسمح للاطباء منذ امد بعيد بممارسة مهنة الطب الا باجازة علمية وعملية, ومن اراد ان يختص يجب عليه ان يجتاز اختبار التخصص المنشود .. كطب الاطفال .. التوليد .. الجلدية .. العصبية .. الكحالة (طب العيون) .. واهتموا بشكل خاص بالجراحة ... واجروا عمليات جراحية مهمة, واستخدموا امعاء القطط واوتار الجلود وخيوط الحرير في تخييط الجروح, والحقيقة انهم اعتبروا اصلا ان علم التشريح والتشريح المقارن اساساً لدراسة الطب وفهم وظائف الاعضاء .. وسنتناول بعض اسماء كبار اطباء العرب والمسلمين باختصار
1- ابو بكر الرازي (313هـ/925م) وهو جالينوس العرب .. بلغت مؤلفاته (56) كتاباً واشهرها كتاب (الحاوي) ويقع في عشرة اجزاء يختص كل منها بطب عضو او اكثر, وكتاب (المنصوري) وهو عشر مقالات في تشريح اعضاء الجسم كلها اهداها الى المنصور بن اسحاق حوالي عام (291هـ) وله رسالة الجدري والحصبة اول بحث في تاريخ الامراض الوبائية, وكتاب (الحصى في الكلى والمثانة)
واهتم بالطب النفسي والامراض العصبية واثر الوهم على الامراض العضوية لذلك حاول علاجهم بالموسيقى, وفرق مرض النقرس عن الروماتيزم وكان يفضل الاغذية المفيدة كعلاج, والا فالدواء المفرد .. واخيرا يلجأ الى الادوية المركبة .. والف كتاب (منافع الاغذية)
وصفه المستشرقون والمشتغلون بتاريخ الطب اعظم طبيب انجبته النهضة العلمية الاسلامية
2- ابن سينا (428هـ/1036م): ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الملقب بالشيخ الرئيس والعالم الثالث للانسانية بعد ارسطو والفارابي, مؤلفاته تمتاز بالدقة والتعمق والسلاسة وحسن الترتيب وهي كثرة اشهرها (القانون) في الطب, يقع في خمسة اجزاء وتتناول علوم التشريح ووظائف الاعضاء وطبائع الامراض والصحة والعلاج. وكتب ابن سينا في الطب ظلت المرجع العالمي لعدة قرون, اعتمدتها جامعات فرنسا وايطاليا وبلجيكا اساساً للتعليم حتى اواخر القرن الثامن عشر .. والشيخ الرئيس اكتشف طفيلية الانكلستوما ووصفها بدقة لاول مرة في كتابه (القانون) وسماها الدودة المستديرة وبين اعراض المرض الذي تسببه .. ثم اكتشف داء الفيلاريا والجمرة الخبيثة المسببة للحمى الفارسية, ودرس النبض وحالاته دراسة وافية وبين العوامل النفسية في اضطرابه, واوضح العلاقة بين العلم والحالة النفسية للزوجين في وفاقهما ... وكذلك اسباب الجرب وعلاجه ومارس الاختصاص بطب الاطفال وعرف الاعراض السريرية للجهاز الهضمي والعلامات الفارقة للحصاة اذا كانت في المثانة او الكلية, ووضع اول وصف لتشخيص مرض تصلب الرقبة والتهاب السحايا.
3- ابو القاسم الزهراوي (403/1013) هو خلف بن عباس الزهراوي اكبر جراح في زمانه ويعتبر كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) اشهر مؤلفاته واكبرها, فهو موسوعة طبية تقع في ثلاثين جزءً ومزودة بأكثر من مائتي شكل للادوات والالات الجراحية التي كانت يستعملها ومعظمها من ابتكاره, اشتهر في اوروبا وترجم الى اللاتينية .. والحقيقة هو أول من الف في الجراحة من العرب, واول من استعمل ربط الشرايين بخيط من الحرير, واول من اوقف التريف بالكي, وقد توسع باستعماله في فتح الجراحات واستئصال السرطان, كذلك اهتم بطب الاسنان واستعمل الكلاليب لقلعها كما استعمل المبارد لنشر الزائد منها, وصنع من عظام الحيوانات اسناناً مكان الاسنان المفقودة او المخلوعة, وقام باستئصال اللوزتين, وصنع آلة لاستخراج الجنين في الحالات المستعصية, كما استعمل القثطرة في غسل المثانة وازالة الدم من تجويف الصدر او من الجروح, واجرى تفتيت الحصى من المثانة
4- ابن النفيس (687/1288) هو علاء الدين ابو الحسن علي بن ابي الحزم المصري, كتبه في الطب عديدة منها كتاب في الرمد وثاني في الغذاء ومن اشهر اعماله (موجز القانون), وفي كتاب (شرح تشريح القانون) اهتم ابن النفيس بالقسم المتعلق بتشريح القلب والحنجرة والرئتين وتوصل الى كشف الدورة الدموية الصغرى قبل هارفي بثلاثمائة وسبعين سنة
هنالك اطباء اخرون ابدعو فاشتهروا, ولكن ليس بمستوى السابقين مثل علي بن العباس المجوسي (384هـ/995م) الف (الملكي) او (كامل الصناعة الطبية) خصص الجزء الثاني منه للمداوة وطرق العلاج وهو الذي اشار الى وجود الحركة الدموية الشعرية وبرهن عليها وقام ايضا باستئصال اللوزتين, وابن الجزار (400هـ/1010م) اوضح اسباب الجرب وعلاجه وهو اول طبيب اختص بطب الاطفال و(ابن المسيحي) 658هـ/1259م وهو اكبر جراح في زمانه اجرى عمليات تفتيت الحصى داخل المثانة و اوقف نزيف الدم بربط الشرايين الكبيرة, واستعمل امعاء القطط في ربط الجروح واخيراً وليس اخر ابن زهر (ابو مروان) 557هـ/1621م له تشخيص سريري للاورام الخبيثة (سرطان المعدة) و للسل المعوي والشلل البلعومي والتهاب الاذن, قال بالتغذية الصناعية لمن عجز عن البلع بادخال الطعام من شق في المريء او من المعاء المستقيم وبالحقن الشرجي كان لكتابه (التيسير في المداواة والتدبير) اثر كبير في الطب الاوربي حتى نهاية القرن السابع عشر.
في الوقت الذي باتت اوروبا في سبات عميق غارقة في ديجور الظلمات والجهل وقراصنة البحار وتحكم الكنيسة بجبروت سلطانها اذ تحتم على مرضى الجذام (البرص) ان يحجروا في مناطق نائية, وعلى المجانين بالضرب حتى الموت لاخراج الشياطين من اجسامهم النجسة, وان تحرم علوم اليونان وترمى متعلميها بالكفر والالحاد وتحرقهم احياء ... بل وصل الامر الا ان تحكم على العالم الايطالي الشهير غاليليو (1642م/1052هـ) في وقت متأخر بالطرد من الكنيسة وحرمانه من التدريس لتصريحه بكروية الارض, كان العرب منهمكين في الترجمة وما اسلفنا من علوم دينينة ودنيوية ... فالادب والشعر واللغة والفقه وعلوم القرأن والحديث قد ازدهرت ازدهاراً لا مثيل له, اما علم الكيمياء فهو حلم يراودهم من اجل تحويل المعادن الرخيصة الى الذهب الثمين .. و كذلك انهمكوا في علم الطب والصيدلة لما لها من علاقة بحياة الانسان وصحته وآلامه و اوجاعه ... والرياضيات اذ يحثهم عليه الارث والحسابات التجارية والخراج والغنائم ... والمساحات المروية والمبنية وما الى ذلك, والفلك حيث اوقات الصوم و الصلاة والخسوف والكسوف والتنجيم والرحلات البرية منها والبحرية .. اقول نقلت هذه العلوم الى الاوربيين عبر بوابة الاندلس في العصر العباسي الاول والثاني وخصوصاً في مجال الطب والتشريح والصيدلة, ثم عبر الشام في العصر العباسي الثاني حيث نقل علم الرياضيات والجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء, واخيراً عبر اسطنبول اذ اعتمودا عليها في نقل علوم الجغرافيا والمنطق والفلسفة لتوسطها بينهم وبين بغداد.
وهكذا اخذ عباقرة العرب ممن اوردنا اسماءهم في هذا الفصل وغيرهم عن افذاذ اليونان امثال سقراط وافلاطون وارسطو وارخميدس وابسقراط وجالينوس وبطليموس وديسقورديس وغيرهم, اخذ علماء الغرب ورموزهم امثال (كوبرنيك 1543) وكبلر (تـ 1630م) و( غاليلوت 1642 وتورشيللي 1647 ونيوتن (تـ1727) و (وات 1819) في الرياضيات والفلك والعلوم الطبيعية من علمائنا اذ كانوا روادهم. اما في الجغرافيا والملاحة البحرية فقد سار ماركوبولو 1323 و (هنري الملاح 1460) و(كريستوف كولومبس 1506) و فاسكويغاما 1524 وماجلان 1521) على خطى ابن جبير وياقوت الحموي والادريسي والبكري.
وهنالك كلمة حق يجب ان تقال ان موجات التتر بقيادة هولاكو وتيمورلنك عند هجومهم على بغداد سحقوها تماما وجعلوها قاعا صفصفا كما اسلفنا, فلم تعد هنالك مستشفيات ولا مدارس ولامكتبات ولا معاهد ولا ادارات فلم يكن وارد في ذهنهم سوى الدمار والغنيمة والحقد والتسلط وهذا قدر بغداد, ماهكذا كان الامر في الاندلس عندما استولى النورمان على صقلية 495هـ/1602م ومن ثم على طليطلة واشبيليه وبلنسية وقرطبة بزعامة روجيه الاول رعى المدارس والعلماء واستمرت الرعاية من قبل ملوك اسبانيا حتى ان ملك قشتاله الفونسو العاشر والملك الحكيم, قد انشأ في مرسيه مدرسة للترجمة من العربية الى اللاتينية, احتفظوا بالنظام الاداري الذي اقامه المسلمون في دولتهم السابقة, والشريف الادريسي عندما الف كتابه في الفلك الجغرافي اهداه الى روجيه وسمي بـ (كتاب روجيه), وكذلك ان صقليه لما آلت الى الملك الالماني (فردريك الثاني) (601هـ/1205م) ازدادت الحركة العلمية وولع بالعلماء العرب وكانت تترجم كتبهم الى اللغة اللاتينية ولم يحمل بلاط الفونسو العاشر وفردريك الثاني من الطابع المسيحي الا الاسم اذ غلب عليهما طابع الحضارة الاسلامية وهذا معناه ان موجات الشرق دمرت فما استفادت من الحضارة الاسلامية اي شيء, أما موجات الغرب لم تدمر, فاستفادت من حضارتنا, لذلك نهض الغرب لبعد نظره, وسبت الشرق لانطفاء حكمته.
وعلى العموم تحتك الحضارات وتتمازج الثقافات وتختلط اللغات عبر التاريخ, فلا يبقى انجاز في ارضه ولا علم في قمقمه .. ولا لغة في مكمنها الا اذا اردنا ان نحكم بالموت عليها وعلى مبدعيها, العمارات في البلدان المتجاورة متشابهة, والملابس متقاربة والمآكل متبادلة ... والانسان يسير ولسانه معه وارض الله واسعة ...
ولكن هل يستطيع الفكر ان يرتقي بالفرد الى المستوى الانساني الاشمل بكل معانيه ... وهل العقل القادر ان يرفع من شأن لسانه ليفهمه من يفهم ... ان الاجداد استطاعوا ان ينقلوا المفردات العربية الى اللغات العالمية بشكل مباشر او غير مباشر من خلال ابداعاتهم و اكتشافاتهم ومؤلفاتهم وتنقلاتهم الهادفة .. لقد دخلت المفردات العربية بشكل كبير ومباشر الى اللغتين الفارسية والتركية, وانتقلت مئات المفردات العربية من اللغة الاخيرة الى اللغة الرومانية بشكل غير مباشر هذا على سبيل المثال وليس الحصر طبعا .. كذلك استعارت اللغة العربية مفردات من اللغتين الاغريقية واللاتينية في العصر القديم .. ومن اللغات الفرنسية والانكليزية والايطالية في العصر الحديث .. ولااريد ان اورد الامثلة في الحالتين لعدم الاطالة اولاً, ثم باتت المفردات المعارة والمستعارة معروفة ثانيا .. ولكن الذي اريد ان اشير اليه ان علماء اللغة العرب عجزوا ان يستوعبوا الرقي الحضاري والتقني والعلمي المتسارع جدا, ولو هنالك بعض اللواحق العربية التي تسد بعض الثغرات, واللاحقة اما ان تكون من حرف واحد كالتاء المربوطة في مكتبة, مدرسة أو ان تكون من حرفين كالياء والتاء المربوطة في (وطنية, اهلية) أو من كلمة مشتقة من اسم الفاعل كـ (قابل للذوبان, قابل للنقاش) هذا على سبيل المثال وليس الحصر طبعا والحقيقة هذا الجهد يحب ان يكون مشترك بين علماء اللغة وعلماء الاختصاص في المجالات الاخرى. العجز ليس في اللغة وألسنة ناطقيها .. بل في عقول مبدعيها ومردديها وهذا ماقاله حافظ ابراهيم شاعر النيل (تـ1932) ذات يوم:
رجعتُ لنفسي فاتهمت حصاتي وناديتُ قومي واحتسبتُ حياتي
رموني بعقمٍ في الشباب وليتني عقمت فلم اجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم اجد لعرائسي رجالاً واكفاء وأدتُ بناتي
وسعتُ كتاب الله لفظاً وغاية وماضقتُ عن آيٍّ به وعظاتِ
فكيف اضيق اليوم عن وصفِ آلة وتنسيق اسماء لمخترعات
انا البحر في احشائه الدر كامنٌ فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فلا تكلوني للزمان فانني اخاف عليكم ان تحين وفاتي
ارى لرجال الغرب عزّاً ومنعةً وكم عزّ اقوامٍ بعزَّ لغاتِ
اتو اهلهم بالمعجزات تفننا فيا ليتكم تأتون بالكلماتِ
هذا هو حالنا اليوم بعد تاريخ حافل بالمجد والعز والانسان لايعيش ماضيه, بل يعيش حاضره وهذه هي المأساة ... والبقاء لله وحده
______________________________________________________
1- استاذ اللغة العربية وادابها في جامعة بيل الامريكية, ونقله للعربية الاستاذ الدكتور نقولا زيادة
2- نشرت في صحيفة (الوطن) الغراء (العدد الرابع والستون حزيران 1998)
3- رفض الخلافة بعد وفاة اخيه معاوية الثاني بن يزيد, ويقال ان مروان بن الحكم قد اجبره على الاعتزال
4- عن مقال للاستاذ الدكتور أحمد اياد الشطي وزير الصحة السوري الاسبق والاستاذ الدكتور برهان العابد
Mariam Salama Carr, La Traducation AL" Epoque Abbassid -5
طبعة 1998 ترجمة نجيب غزاوي
6- راجع مقال بقلم احمد وهدان بعنوان (حاضر العالم الاسلامي) في ندوة مركز الدراسات الاسلامية
http//:www.souforum.net
-ابن خلكان: (وفيات الاعيان) تحقيق الدكتور ابراهيم عباس, دار صادر - بيروت
-الجاحظ: الحيوان: تحقيق وشرح عبد السلام هارون -شركه مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده بمصر الطبعة الثانية 1995م
-موقع الموسوعة العربية الاسلامية
-حكمت نجيب عبد الرحمن (دراسات في تاريخ العلوم عند العرب)/وزارة التعليم العالي /الموصل 1977
-ابن العماد الحنبلي (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) تحقيق مصطفى عبد القادر عطا 1998 طبعة رقم 1/دار الكتب العلمية
-(دائرة المعارف الاسلامية)
ُEncyclopedia of Islam
-موقع "علماء العرب"
www.islamstory.com 6/21/2008
-موقع "باب المقال" الدكتور بسام عليق بيروت
http://www.islamstory.com
- عبد الله ناصح علوان: (معالم الحضارة في الاسلام واثرها في النهضة الاوربية, ص72)/بحوث اسلامية عامة (17)/دار السلام ص52-60
http://www.azawade.jeeran.com 5/16/2008-
http://ar.wikipedia.org 6/21/2008-
-د. عبد السلام الترمانيني (أحداث التاريخ الاسلامي بترتيب السنين)
الناشر دار طلاس -دمشق سوريا
-في اللغة العربية ( ) التعبير عن دلالات اللواحق الاوربية للاستاذ الدكتور نيقولا دوبرشان
- انظر: محمد الصادق عضيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص220
- موسوعة السياسة عبد الوهاب الكيالي الجزء (4) العين مادة (العراق) المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية 1996
- (موسوعة دول العالم الاسلامي ورجالها) شاكر مصطفى الجزء الاول دار العلم للميلانين الطبعة الاولى 1993-بيروت
- الاستاذ الدكتور احمد يونس (تاريخ الرياضيات)
- عمرو فروخ ( تاريخ العلوم عند العرب)
- دكتور عبد الحليم منتصر (تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه)
- أحمد وهدان: مقال بقلم .. مركز الدراسات الاسلامية - ندوة علمية تبرز دور المسلمين في تقدم العلم والتكنولوجيا.
www.souforum.net 26/5/08
- أهم منجزات العلماء العرب
www.azawade.jeeran.com 16/5/08
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat