هل أتى الكتاب المقدس على ذكر معركة الطف الجزء الثاني
جولان عبدالله
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جولان عبدالله

نكمل من حيث وصلنا في الجزء الأول في قراءة الإصحاح السادس والأربعين من سفر إرمياء.
هنا نصل إلى موضع آخر تعمدت فيه ماما اشوري التحريف. فقد كتبت: (في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا. من هذا الصاعد كالنيل، كأنهار تتلاطم أمواهها؟ اصعدي أيتها الخيل، ولتخرج الأبطال).[1] فتعمدت حذف عبارة مهمة لأنها تهدم مقالها وادعاءها. ذلك أن الإصحاح في هذا الموضع يذكر: (من هذا؟ ذلك الصاعد كالنيل، كأنهار تتلاطم أمواهها؟ مصر تصعد كالنيل، كأنهار تتلاطم أمواهها. قال، : ’سأصعد، سأغطي الأرض، سأدمر المدن وقاطنيها‘). (إرمياء 46 : 7 و 8). فلا بعد هذا من مجال للتشكيك والإدعاء أن الأحداث مشوشة مضطربة، ولا نحتاج للتأويل والذهاب يميناً وشمالاً لنعرف من كان هذا الجيش، طرف المعركة الأول. إنه جيش مملكة مصر. ولكن هذه لم تكن آخر الطعنات في صدر الحقيقة. لنكمل معاً.
(تقدمي يا خيول، وانطلقي يا عربات! وليبرز المحاربون: رجال كوش وفوط القابضون على المجن، ورجال لود المتمرسون على القوس) (إرمياء 46 : 9). وهنا مقطع آخر فيه ما يدل مجدداً على أطراف المعركة، وطبيعة آلة الحرب فيها. فالكاتبة ماما اشوري التي حاولت تجنيد كل ألفاظ هذا الإصحاح أغفلت أو تغافلت عن لفظ (عربات) وهي آلة حرب لم تكن معروفة عند العرب وقت حدثت فيه واقعة كربلاء؛ ولا يمكن القول أن كوش وفوط ولود هي من القبائل التي شاركت في الواقعة البتة. ولكن هل انتهت سكاكين البتر والتحريف؟
(ذلك اليوم هو يوم الرب إله الجنود[2] يوم الانتقام، ليثأر لنفسه من أعدائه. السيف سيلتهمهم حتى يُتخَم وسيرتوي من دمائهم. لأن للرب إله الجنود ذبيحة في بلاد الشمال عند نهر الفرات) (إرمياء 46 : 10).
وقد أسست الكاتبة ماما اشوري فرضيتها على أن المراد من لفظ (ذبيحة هنا) هو العباس بن علي (عليه السلام). ولا أعلم من أين تأتى للكاتبة ماما اشوري أن هذه الذبيحة مقدسة؟ وقد تبين لك عزيزي القاريء بعد زمن وأحداث الإصحاح عن هذه الفرضية بعد المشرقين. ومع ذلك سأسترسل ببيان هذا التلبيس أيضاً.
ولنقف على معنى كلمة (ذبيحة) لا بد أن نستعرض الكتاب المقدس نفسه، هل وردت فيه هذه الكلمة في غير هذا الموضع أم لا؟ وبأي معنى؟
وببحث بسيط فإن كلمة ذبح أو ذبيحة بجذرها العبري zbch זֶבַח (زيبخ) قد وردت بضعة ومئتي مرة في في الكتاب المقدس بأكمله، وهي ببساطة تعني الهدي، كالهدي أو الذبح الذي يقدمه حجاج بيت الله الحرام؛ وسأتناول بعضاً من هذه النصوص للإيضاح.
وإن كان قربانه ذبيحة سلامة، فإن قرب من البقر ذكراً أو أنثى، فصحيحاً يقربه أمام الرب. (اللاويين 3:1).
وإذا قرب إنسان ذبيحة سلامة للرب وفاء لنذر، أو نافلة من البقر أو الأغنام، تكون صحيحة للرضا. سليمة من العيوب. (اللاويين 22:21).
والكبش يعمله ذبيحة سلامة للرب مع سل الفطير (الأعداد 6:17).
في ذلك اليوم يعرِّف الرب نفسه للمصريين، وسيعرف المصريون الرب في ذلك اليوم، ويتقربون له، ويقدمون ذبيحة وهدياً، وينذرون النذور للرب ويوفون بها (إشعياء 19:21).
فالذبيحة في الكتاب المقدس لا بد أن تكون مرتبطة بالرب، إما لنذر أو تقرباً أو لمحو خطيئة. ومن الذبائح التي يذكرها الكتاب المقدس، إسحاق بن يعقوب (عليهما السلام) (التكوين 22).
وبعد هذا العرض، نقرأ موضعاً آخر يمكن منه أن نفهم المراد من الذبيحة موضوعنا. (يقول الرب، قد حلفتُ باسمي العظيم، أن اسمي لن يردد في فم بني يهوذا في كل بلاد مصر، قائلين الرب إلهنا حي. ها أنذا، أترقبهم للبلايا، لا للخير. كل بني يهوذا في أرض مصر سيؤخذون بالسيف وبالجوع عن بكرة أبيهم. وأولئك الناجون من السيف سيرجعون من أرض مصر إلى أرض يهوذا، نفراً قليلاً، وسيعلم من بقي من يهوذا، الذي أتوا إلى أرض مصر ليعيشوا فيها، كلمة من هي الغالبة). (إرمياء 44 : 26-28). وبالمقارنة بين هذه الآيات الأخيرات وبين الآية العاشرة من نفس الإصحاح التي أوردتها سالفاً، نفهم من وحدة السياق أن المراد بالذبيحة هنا، هم الذين سيقتلون في الحرب بين البابليين والمصريين ومنهم أبناء يهوذا، ليكونوا ذبيحة لإعلاء كلمة الرب مرة أخرى في يهوذا.
وأما النقطة الأخرى التي ارتكزت عليها الكاتبة ماما اشوري في مقالها، وتعمدت فيها البتر أيضا، هو هذا النص الذي أوردته في مقالها: (اصعدي إلى جلعاد وخذي بلسانا يا عذراء،لا رفادة لك. قد سمعت الأمم بحزنك، وقد ملأ الأرض عويلك، لأن بطلا ينصر بطلا فيسقطان كلاهما معا). وعندما نراجع نفس النص في الكتاب المقدس، نلمس بوضوح ما حاولت الكاتبة إخفاءه. فالنص في سفر إرمياء، (اصعدي إلى جلعاد، وخذي بلسماً، يا بنت مصر العذراء[3]). (إرمياء 46 : 11).
وهنا أقف عند أكثر من نقطة، أولها أن الكاتبة لم تتطرق مطلقاً إلى ’جلعاد‘، كما تطرقت إلى كركميش، بل أهملته تماماً، فالنص يأمر هذه العذراء أن تصعد جلعاد، وجلعاد منطقة في شرق الأردن تقع تقريباً بين نهر اليرموك إلى الشمال، والنهاية الشمالية للبحر الميت إلى الجنوب. وبالتالي فهي منطقة مختلفة تماماً جغرافيا عن كركميش، كما أنها منطقة جبلية يصل ارتفاعها في بعض المناطق إلى 1000 قدماً فوق مستوى سطح البحر[4]. فكيف تكون كركميش هي كربلاء، ثم يأمر الله هذه المرأة العذراء بالصعود إلى جلعاد؟
وقد وقعت الكاتبة في خطأ كبير هنا، إذ حاولت تطبيق هذا النص على السيدة زينب بنت علي (عليه السلام)، فكيف يصح أن يدعوها الرب (أيتها العذراء) وقد كانت في واقعة كربلاء متزوجة وعندها أبناء استشهدوا في هذه الواقعة!
والنقطة الثانية التي أقف عندها هي نبات البلسم وهو بلسم جلعاد، وهي شجرة صمغية تخرج صمغاً ينفع للتداوي، ومن المستحيل أن ينبت في أرض صحرواية مثل أرض كربلاء.
والنقطة الثالثة، هي ما تعمدت الكاتبة حذفه من هذا النص، وهي عبارة بنت مصر، وهي التي تفند كل مزاعمها وتهدم فرضياتها. فهذه العذراء هي بنت مصر.
وقد يسأل القاريء، إذن من هي هذه المرأة العذراء؟ والجواب أن لا امرأة هنا مطلقا، فالكلام هنا مجازي، والمقصود بالعذراء هنا هي مصر التي كانت تصعد كالنيل وكأنهار تتطلاطم أمواهها، بعدما اندحر جيشها على يد البابليين!!! ففي الإصحاح نفسه جاء في كلمة الرب إلى إرمياء، (مصر عِجلة جميلة، لكن الذباب الأصفر آت إليها من الشمال. وحتى المرتزقة في وسطها هم كالعجول السمينة؛ نعم لقد ارتدوا على أعقابهم، لم يثبتوا، فإن يوم هلاكهم قد جاء. صوتها كحية تتسلل بعيداً، لأن أعداءها يزحفون إليها، وقد أتوا إليها بالفؤوس كحاطبي الأشجار. وسيقطعون غاباتها، كذا قال الرب. مع ذلك كانوا لا يعدون، كانوا أكثر عدداً من الجراد، كانوا لا نهاية لعددهم. قد أخزيت بنت مصر وسلمت ليد شعب الشمال) (إرمياء الإصحاح 46: 20-24). إذن فبنت مصر هنا هي كناية عن مملكة مصر الجميلة. وهذا قد تكرر في عدة مواضع في الكتاب المقدس، وهي ترمز إلى الممالك العظيمة الجميلة، فقد ورد: يا بنت صهيون العذراء، يا بنت إسرائيل (الملوك2 21:19)، يا بنت صيدون العذراء (إشعياء 12:23)، يا بنت بابل العذراء (إشعياء 1:47)، وفي سفر إرمياء، عندما يتحدث عن الجفاف في مملكة يهوذا، يا بنت شعبي العذراء (إرمياء 17:14)، يا بنت يهوذا العذراء (المراثي: 13:2).
نكمل قراءة باقي الإصحاحات التي تطرقت لها الكاتبة في مقالها. فالرب يقول لمصر أن لا شيء سينقذك من إرادتي، ولن ينفع حتى بلسم جلعاد دواء لدائك. (لا جدوى من كل دواء تستعملينه، فلا علاج لك. قد سمعت الأمم بخزيك، وقد ملأ الأرض عويلك لأن بطلاً يصدم بطلاً فيسقطان معاً) (إرمياء 46: 11-12).[5] وذكرت الكاتبة أن هذه الترجمة محرفة، وأن العبارة الصحيحة هي (قد سمعت الأمم بحزنك). نعم فالاختلاف بين حزنك وخزيك هو مكان النقط ويمكن التحريف فيه بسهولة! لكن هذا يصح لو كان النص الأصلي قد كتب باللغة العربية، أما وإنه قد كتب باللغة العبرية فالتحريف صعب جدا بين هاتين الكلمتين. فقد ذكرت أنها راجعت النص العبري فوجدته (שמעתי צער אומות, מילא את האדמה בוכה, כי גיבור גיבור קואומו תומך שניהם יחד) ولن أتطرق هنا إلى كون هذا النص قد كتب بطريقة الترجمة الفورية حيث أن الفعل فيه שמעתי بصيغة المتكلم (شمعت) في حين أن النص الأصلي هو بصيغة الجمع (شامعو) שָמְעו، ولكن ما يهمني هو كلمة (حزنك) و (ينصر)، هل وردتا في النص العبري؟
فقد ادعت ماما اشوري أن الذي ورد في الكتاب المقدس هو كلمة צער (صعار)، تعني الحزن أو الألم، لكن وبالرجوع إلى النسخة العبرية من العهد القديم، نجد أن الكلمة فيه هي קְלוֹנֵך (قالونخ) وتترجم إلى (الخزي أو العار)، ولعل (مهزلة) هي الأقرب لمعناها العبري. والكلمة الثانية التي أتت بها ماما اشوري هي תומך (تومخ) وتعني يؤيد أو ينصر. وبالرجوع إلى النص العبري لا نجد هذه الكلمة بل نجد כָּשָׁלו (كشالو) وتعني تعثر أو فشل. وهي كلمات مختلفة تماماً. والسؤال الأهم ما الداعي وراء هذا التحريف بعد أن عرفت أن كل الدلائل في هذه النصوص تدل على أنها لا علاقة بها لا من قريب ولا من بعيد بما ذهبت إليه ماما اشوري.
وبكل هذا يتضح للقاريء الكريم مدى التلاعب بالنصوص وتحريف المعاني الذي مارسته الكاتبة إيزابيل بنيامين ماما اشوري
في مقالتيها. والنقطة الأخيرة التي أود التنبيه إليها، أن إيزابيل بنيامين غالباً ما تستشهد على ادعاءاتها ببعض البابوات، فمثلاً كتبت، "حتى التقيت بقداسة الأب صبيح بولس بيروني، ولكن الأخ انطوان يوسف فرغاني، في طرح غريب فاجأ الأخ انطوان شيخو) وأمثال هذه الأسماء، لكنها لم تأت على بيان سيرة أحدهم ولا موقعه ولا مكانته العلمية، لكنها حين تصل النوبة إلى شخصية شيعية، مثل صدر الدين القبانجي، تشير له في الهامش بشكل تام. وعندما تتحدث عن أئمة الشيعة تكتب (الإمام الصادق) كمثال، دون أن تعرفه بأنه إمام الشيعة وتتبعه بعبارة (عليه السلام)، لكن عندما تصل النوبة إلى أحمد بن حنبل مثلاً، تعرفه بأنه (إمام أهل السنة)، وعندما تأتي على ذكر الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر وأم المؤمنين عائشة لا تترضى عنهم ولا تقدسهم؛ وسأترك المغزى من هذه التلميحات للقاريء الكريم.
وفي الختام أقول: سيدي يا قمر العشيرة! يا ابن من قال: (أتأمروني أن اطلب النصرَ بالجّور)، إنك أعظم من أن تعرَّف بالكذب، ولا أن تقدس بالتحريف والتلبيس. إن عطاءك يوم الطفوف سيظل يشع نوراً وهدياً للطالبين، وجهادك نبراساً للثائرين. سيدي إن من أرادوا ويريدون قتلك فكراً كانوا وما زالوا أشد عليك ممن قتلوك بدناً. فإليك يرفع عبدك هذا المقال، كي تظل رايتك نقية من الكذب، وكل أمله يا سيده أن ترمقه بنظرة رحيمة، وأن ترفع لله جل وعلا أكف الوفاء التي قطعت على نهر الفرات، أن يكفر عنه خطاياه، وأن يكون من المستظلين بظلك يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم.
([1]) (بطل ينصر بطلا فيسقطان معا). هل جاء الكتاب المقدس على ذكر العباس بن علي بن ابي طالب عليه المراضي؟، مقال للكاتبة إيزابيل بنيامين ماما اشوري، نشر في موقع كتابات في الميزان بتاريخ 26/10/2014.
([2]) في ترجمة يوجين پیترسون، رب جنود الملائكة، في إشارة إلى أن لله جند من الملائكة قاتلت في صف البابليين لتحقيق إرادة الرب لهزم جنود فرعون مصر رغم قوتهم وعددهم. Peterson, Eugene H. (2009). The Message. New York. NavPress.
([3]) يترجم هذا النص في الترجمات المطبوعة يا عذراء بنت مصر، إلا أن النص باللغة الإنجليزية هو O virgin daughter of Egypt! فالأصوب فيه أن تكون الترجمة يا بنت مصر العذراء. كما أن balm تترجم إلى بلسان، والأصوب أن تكون بلسماً.
([4])Cheyne, T. K. (1899). Encyclopaedia Biblica, A Dictionary of the Bible. The Macmillan Company.
([5]) الترجمة الأصح من النسخ الإنجليزية إلى العربية تكون، لأن محارباً تعثر بمحارب فسقطا معا، وهو إشارة إلى حالة الرعب والهلع التي أصابت جيش مصر العظيم؛ وهذا هو الخزي الذي سمعت به الأمم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat