- تبدين رائعة .
قالها وهو يتظاهر بضبط ساعته ثم انصرف نحو الشرفة ينظر نحو الأفق بنظرة غير مكترثة ، ينفث دخان سيكارته ببطء، اتجهت نحوه تحمل عقداً من اللؤلؤ ليحكم لها إغلاقه ، تظاهر بالاهتمام وبدأ يلبسه لها مبتسما ، فيما عادت بذاكرتها لسنوات مضت منذ أن كانت هي حبّه الأبدي الوحيد ، تتنازع السنوات فيما بينها لتخطّ سهلاً من الشعر الأبيض على رأسها منسدلاً على وجهها ، وقف أمامها بإجلال مبتسما وهو يداعب خصلات شعرها وقد انبعثت من بين أصابعه رائحة الدخان فيما أشاحت بعينيها في المكان بتجاهل ، حدثها قائلا :
-ماتزالين جميلة كما عهدتك .
- كلمات الأعياد باتت تضحكني ( قالتها وهي تشق طريقها نحو كرسي هزاز) تبعها بخطوات بطيئة ثم همس في أذنها :
- افهمي انك الفضلى .
- أتقاعس أحيانا عن أداء طقوس الطاعة لجبروتك الا أنّ شيئاً ما يجبرني .
- حبك لي الذي ما انفك يرسم أحلام فتاة في العشرين .
- حسبتك أحذق من هذا. ولدان على أعتاب التخرج و أصل اعتز به.
- أصلك هذا دفعني لأؤسس هذه المؤسسة وأنجب الولدين ، وحبّك أحكمني أن أكون معك حتى الآن .
- سرى العمر عليك بنشوة شباب ، جعلتك تغضّ بصرك عن مشاعري التي تفننت في دهسها . وأورثني صراعاً يحتدم بموت بطيء و سيل من الشعر الأبيض .
- أهكذا انا ؟ ( قالها وهو يبتسم ويجلس عند رجليها)
ظلت صامتة لم تجبه لمدة ، خيّم الصمت على المكان للحظات انشغلت فيها العيون بعتاب طويل فيما كان يداري تعابير خذلانه بابتسامة باهتة ، فأردف قائلا:
- أنكري حبي .
- لا اقدر ... لكنّك بإمكانك أن تنكر حبّك لي .
- لا اقدر!!.... تشعرين بالزهو حين تمسكين ذراعي في أي مناسبة او اجتماع عائلي ، بوجود صديقاتك وغيرهن و ...
قاطعته قائلة :
- واشعر بالبؤس حين استشعر في كلامهم و نظراتهم إحساس الشفقة لأنّ ما يدور بيننا أمامهم من انسجام ماهو إلا تمثيل .
- اعترف بأنّي سيئ لكنّك اختياري في النهاية، اختياري في كل المواقف في كل الظروف ... تحت أيّ نشوة وبأيّ حال.
- العمر يمضي والشباب انقضى، ولم افهم من شبابي معك سوى سفر طويل وغياب ، وثمّة مشاعر عابثة لا قرار لها ولا استقرار .. وبعد كل هذا تقول لي أنتِ اختياري ؟.
تختارني لأكون أمّاً لأولادك فقط لا شريكة لحياتك.
- حينما أقولها أقصدها ، إنما أنا لست سوى طائر وفيّ لوطن نقيّ أحنّ إليه مهما ابتعدت.
- أكنت عادلاً معي ؟
ظل صامتا لبرهة من الزمن ثم أجاب :
- أنصفتك في مواقف عديدة ، والدليل أنّني معك الآن وسأبقى معك زوجا محبّا و عاشقا جيدا وأباً لأولادك .
- تثقلني أفضالك فاحتار كيف أردّ الجميل .
ابتسم بوجهها ابتسامة عريضة .... أردفها بقهقة عالية ، وتبعها بتنهّدة أسف طويلة وهو يحدق بالسقف محاولا الثبات على كبريائه المعهود ، ظل صامتا لبرهة ثم أجاب :
- سامحيني .
- على ماذا؟
- على كل شي .
- أتعلم ؟! إنّ هذه هي المرة الأولى منذ عشرين عاما تطرق مسامعي هذه الكلمة .. سامحيني !!
- افهمي أنني احبك يا امرأة .
- و كبرياؤكَ ؟ و تزمتك بآرائكَ ؟ ونفسكَ؟
- قد يكون ذلك صحيحا ولكني هكذا ، ولو انكِ أحببتني حقاً لأحببتِ حبّي لكبريائي و تزمتي وجميع مساوئي ، اعتقد أنّ اعترافي بهذا هو جزء من مرونتي وعدم تزمّتي كما تظنين ، الا إنّ طبيعتي كرجل يعيش في أعالي البحار فرض عليّ أنْ أكون هكذا بعض الشيء .
- أأنت هكذا وكفى؟ ( قالتها وهي تنظر إليه بشي من الحدّة)
- آآآآآه ...
صمت لبرهة محاولا أن يستجمع الكلمات ثم نطق وهو يحدّق بها عن كثب:
- لم لا تغفرين ؟
- لو كنتَ مكاني أتغفرُ لي ؟ وجودي معك دليل غفراني .. إنّني فعلا قد غفرت .
خيم الصمت في المكان ثانية ، و فجأة بدا المطر يطرق نافذة الغرفة ومياسم حديقة المنزل، خطى خطوات بطيئة نحو النافذة يترقب وقع المطر ، ابتسم و أردف قائلا :
- أتذكرين ؟
- اذكر . واقرأ ما يدور في رأسك .
- مرت السنوات على لقائنا الأول كالبرق ، كل شي تغير إلا قلبك وجمالك ... اليوم وبعد هذه الأعوام تحملني قطرات المطر هذه لذكرياتي الجميلة معك، ما أروعك !
كنت تبدين أميرة وأنت تشقين طريقك على صارية سفينتي ، وقعتي في حبالي فاصطدتك ..
آآآآه عبق تلك الأيام لا يزال في رئتيّ .
ظلت صامتة وعيناها تحدقان في المجهول بشحوب غير معهود، وقد انسدلت يداها على جانبي الكرسي الهزاز ، ترقبها فأحس باختلاج في قلبه وتسللت إرتعاشة باردة في عروقه فحدثها :
- تبدين صامتة..؟
أدارت بك أسطوانة الذكريات لمنزل أبيك وأسوار الحديقة الضخمة التي طالما أرهقتني وأنا استرق النظر منها إليك ؟
لم تجبه وظلت صامتة فأردف قائلا بقهقة متشحرجة مرتجف :
- إياك أن تكوني فعلتها و تركتني بعدما أتيت إليك آبقاً ...
جلس أمامها واستجمع يديها ، فوجدها قد تركته الى الأبد .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat