صفحة الكاتب : جواد بولس

حين نتقاتل على السماء نخسر البلد
جواد بولس

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.


اليوم سأكتب عن حكايا الموت، وفيه عبر ودروس إليها ألجأ عساها تشرح ما ألمّ بي، ولماذا توقفّتُ عن عشق قريتي- مسقط رأسي، وزيارتها في كل نهاية أسبوع؟ هكذا يؤنّبني الصوت بعتب وشكوى. فلقد كانت عندك العودة من القدس إلى القرية طقسًا وتعصّبًا، وكفرياسيف هي المرفأ، وكانت الداء، ودومًا كانت الدواء.
كم  يؤلمني هذا المشهد وتتعبني حكايات الصدى والوجع؟ ففي كلّ مرّة  يفتقدني صديق أستجير بالكسل تبريرًا، وتبقى الغصّة كشّافة.
 القصة يا صديقي بدأت عندما ضاع البيدر، واستبدل الناس الكانون ليستدفئوا على نيران قنبلة ومسدَّس، وعندما صار البشر يتقاتلون  على السماء، فخسروا الأرض وخرّ المكان. هي قصص موت ووأد؛ الأماني نحرت، والموءودة قرية تلحق بأخواتها، ولا سائل عن ذنب ولا مسؤول. فإليك الحكاية كما عشتها بين موتين.   
كنت حفيدًا مدلّلًا عند جدي، المعلم بولس أبو جبران، أذكره واحدًا من شخصيات سلام الراسي التي تجسّد صورته الوقار الريفي، الرزانة وحصافة الرأي. أحببت ما تناقلته أجيال ذلك الزمن من قصصه والعائلة،  ففي "دالية - الكرمل" كان مولد جبران أبي ، وإلى "ترشيحا" كان يصل على فرس، أمّا في "جولس ويركا" فلقد صار محطًّا للاحترام وعنوانًا للأمانة والوفاء.
كالحلم، أذكره حينما كنت طفلًا وهو يقف مديرًا في ساحة مدرسة قرية "الجديدة" بقمبازه وحطّته الروزا المعقولة بعناية من يحترف الاستقامة. بعد أن أقعده التعب آثر البقاء في داره التي كانت محطّة لأصدقائه الوافدين على كفرياسيف، لا سيّما إلى سوق خميسها، وديوانًا جمع جيرانه من البلدة والأقارب. كان شغوفًا بالقراءة  التي مارسها حتى أيامه الأخيرة، وبمساعدة كبّارة أعانته بعد ما خانه النظر.
كنت أدخل عليه فيشير بيده صوب جارور في "كومودينة" الغرفة، إليه أركض وأخرج موزة خبّأها خصّيصًا لي، وعندما أبدأ بتقشيرها كانت شفتاه تنفرجان عن سعادة، وكنت أنا أتذوّق قسطًا من دلال تلك الأيام.
لا أنساه وهو يمارس إدمانه على القراءة، يجلسني إلى جانبه ويحاول أن يشرح لي بكلماته البسيطة ماذا يقرأ؛ "هذه القصة اسمها كونت دي مونت كريستو، وكاتبها اسمه اسكندر دوماس"، وبصوت مسموع كان يبادرني، فأسمع جدّتي من داخل مطبخها الصغير تحاول أن تصرخ بحذر لتفهمني أن جدّي باع قطعة أرضه (المارس) كي يؤمّن لنفسه هذه الكتب ويعلّم أولاده. وكانت،وهي تطل برأسها وعليه منديلها المزيّن بخطوط من "الأويا"، تردف وتعصر شفتيها وتقول "تنشوف شو بدها تفيدنا الكتب يا ستي"، أمّا هو، فبروّية ينظر إلي، ويقول: "سيدي يا "بو فهمي"- كما كان يدعوني حينها- هذا هو رأس مالكم، ويشير إلى الكتاب وحبره ..".
كنت أحب جدّي وأحترمه لدرجة الخوف، وكان هو يحبّني ويخصّني بموزة أو حبّة شوكلاطة.
مرض جدي وفهمت أنّه في وضع خطير. عندما دخلت غرفته كان نائمًا على سريره. الغرفة مليئة برجال صامتين عابسين. أغلبهم يلبسون القنابيز وعلى رؤوسهم حطّات وعقل. جلست بإحدى زوايا الغرفة وعيناي مسلطتان على وجه المدوّر وشاربه المميز. في لحظة بدأ جدي يرسل علامات حياة؛ تنهد، فتح عينيه وبدأ يحاول القعود، فهمّ جميع من في الديوان ليساعدوه على ما يريد. لم يسألهم عن سبب وجودهم حوله، وهم بدأوا محادثته بشكل عادي وطبيعي. فجأة نظر نحوي، وطلب مني أن أرفع صندوقًا صغيرًا كان على رخام "الكومودينة"، قال: خذ هذه العشر ليرات وربع، وأوصلها لعمك أبو عصام، فاليوم ميعاد سداد ثمن اللحمة التي اشتريناها خلال الشهر المنتهي.
قفزت فرحًا بالمهمة، ففي كل شهر أوصل ثمن اللحمة، يجازيني "العم جميل" كما كنت أناديه بحصّة، وكنت أعود معها طائرًا على جناح فرح لم أعرف مثله عندما كبرت.
بدأ أصدقاء جدي، كلٌّ بصوته وموسيقاه، يعاتبون ويتساءلون: "مش وقته يا أبو جبران" وبعضهم ينهرني بأن لا أفعل.
دخلت إلى بيته، كان متّكئًا على مسند ورأسه ملقى على يده، لم يكن ممددًا ولا قاعدًا، فساقه كانت  مطوية وقريبة لفخذه.
-"مالك يا ولد"؟ سألني بقلق.
قدّمت له ما معي من نقود، وأخبرته أنها من جدي أبو جبران.
 انتفض وسأل "أبو جبران صحصح؟". نظر إلي وعيناه برقتا من بلل، غصّته حجبت معظم كلامه، ولكنني سمعته يقول: "الله أكبر، رجالك قلال يا معلم"، ناولني ربع الليرة فصرت غنيًّا. رأيته يتبعني مهرولًا تجاه بيت جدي حيث صار الديوان عامرًا بالحياة.
 مات جدي وكانت صحوته هذه، هكذا سمعت الكبار يقولون، "تفتيحة الموت". 
بعد ربع قرن من رحيله أصيب أبي بمرض عضال. في أيامه الأخيرة كان يتوجع بشكل كبير، ولا يستطيع النوم إلّا لفترة وجيزة في ساعات الفجر القليلة. حاول أخي الأصغر أن يؤمّن له الهدوء الكامل ليستطيع النوم والموت بسكينة وراحة. حاول وفشل بإقناع أصحاب الصوت، فلم يستطع أبي النوم ومات. 
العبرة بما حصل للبلدة كامنة بين موتين أو كما قال من رحل "اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض".



 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


جواد بولس
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/03/27



كتابة تعليق لموضوع : حين نتقاتل على السماء نخسر البلد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net