الفوضى الصوتية في بغداد تحول العاصمة إلى معركة مفتوحة على السمع والبصر

كتابات في الميزان / تتسع الفوضى الصوتية في بغداد يوماً بعد آخر، لتتحوّل المدينة إلى فضاء خانق تهيمن عليه أبواق المركبات، وصراخ الباعة، وهدير المولدات.

تغرق بغداد يوماً بعد آخر في متاهة من الضجيج والفوضى السمعيَّة والبصريَّة. فقد تحولت أغلب شوارعها وأزقتها إلى ساحة مفتوحة لأصوات منبهات السيارات الصارخة، وهدير الدراجات الناريَّة و”التك تك”، وضجيج المولدات التي تنفث دخانها الكثيف، بينما يتسابق الباعة المتجولون على كسب انتباه المارة بمكبرات صوتٍ لا تعرف الرحمة.

لم يعد الهدوء جزءًا من يوميات المدينة، بل أصبح استثناءً نادراً في واقعٍ تتسيدُ فيه الفوضى، وتغيبُ فيه الحلول. فما بين غياب التنظيم، وضعف تطبيق القوانين، تبقى آمال المواطنين معلَّقة بتفعيل إجراءاتٍ حازمة تحدُّ من هذه الظواهر، التي باتت تنغّصُ عليهم معيشتهم، وتحيلُ المدينة إلى فضاءٍ خانقٍ يُرهق السمع والبصر معًا.

وفي هذا الصدد، عبّر المواطن سعد رشيد عن استيائه من تفاقم الفوضى الصوتيَّة التي تخنقُ الحياة في العاصمة، قائلاً: “من الصعب على الإنسان العيش في بيئة مضطربة، حين تتسيدها الأصوات العالية والصخب من دون أي شعورٍ بالمسؤوليَّة الأخلاقيَّة تجاه الآخرين. إنَّ ما نعيشه اليوم هو شكلٌ من أشكال التلوث السمعي الشديد الوطأة على النفس البشريَّة. إنَّه صراعٌ جديدٌ يفرضُ على الإنسان اشتراطاته القهريَّة، عوضاً عن بيئة هادئة تضمن الاستقرار النفسي والمعنوي”.

وفي السياق ذاته، وصف المواطن همام خضر عباس ما يحدث من ضوضاء في الشوارع بأنه “نوعٌ من التنمّر الصوتي والاستقواء على الآخرين”، مشيراً إلى أنَّ “أصحاب المركبات بمختلف أنواعها، فضلاً عن الباعة الجوالين، يستخدمون مكبرات الصوت في كل وقتٍ متاح لإحداث ضجيجٍ لا يُراعي خصوصيَّة البيوت ولا أوقات الراحة”.

تفعيل القوانين الرادعة

ودعا عباس إلى “ضرورة تفعيل القوانين الرادعة التي تحدُّ من تنامي هذه الظاهرة التي تنتهك حق الناس في بيئة هادئة”.

من جانبه، عدَّ التربوي موسى القريشي أنَّ حالة الضجيج التي تسود شوارع وأزقة بغداد لم تعد مجرّد إزعاجٍ عابرٍ، بل تحوّلت إلى ظاهرة تعكس غياب المفهوم الحضاري للمدينة، وتدفع بالحياة اليوميَّة إلى فضاء “ديستوبي” خانق، ينعكس سلبًا على الصحة النفسيَّة والجسديَّة للمواطنين.

وأشار القريشي إلى أنَّ الاستيراد غير المنظم للمركبات، بما فيها السيارات و”التك تك” والدراجات الناريَّة، أسهم بشكلٍ كبيرٍ في تصاعد هذا التلوث الصوتي، حيث تُستخدم منبّهات الصوت بشكلٍ عشوائي ومفرط، خصوصاً عند التوقف في الإشارات المروريَّة، وعلى مرأى ومسمع من شرطة المرور، من دون أنْ تكون هناك إجراءات رادعة.

من جهتها، قالت الصحفيَّة ميس مهدي إنَّ الضجيج في شوارع بغداد وحتى داخل الأحياء السكنيَّة “تحوّل إلى مصدر إزعاجٍ دائمٍ يؤثر سلباً في راحة الناس وحياتهم اليوميَّة”،

مشيرة إلى أنَّ “أصوات أبواق المركبات، وضجيج الدراجات الناريَّة، ونداءات الباعة الجوالين، إلى جانب عربات (البسطيات)، تتجمع لتشكّل فوضى صوتيَّة خانقة ترهق الأعصاب وتشتت التركيز، بل وتمنع أبسط أشكال الراحة”.

المولدات الكهربائيَّة

وأضافت مهدي أنَّ الأمر “يشتدُّ سوءاً مع أصوات المولدات الكهربائيَّة التي تعمل لساعاتٍ طويلة، وتصدر ضجيجاً متواصلاً يرافقه دخان خانق، ما يفاقم التوتر داخل الأحياء”. وختمت بالقول إنَّ “هذه الفوضى لا تهدد فقط الهدوء، بل تؤثر في الصحة النفسيَّة والجسديَّة للناس، وتربك نظام الحياة داخل المدن”، مؤكدة أنَّ “البيئة الهادئة حقٌّ للجميع، وليست امتيازاً لفئة دون أخرى”.

من جانبه، أوضح الخبير البيئي صميم سلام أنَّ الضوضاء تعدّ أحد أبرز أشكال التلوث البيئي، الناتجة عن الارتفاع المفرط في مستويات الصوت في البيئة الحضريَّة، ما ينعكس سلبًا على صحة الإنسان وجودة حياته.

وأشار إلى أنَّ مصادر هذا التلوث تتنوعُ لتشمل وسائل النقل، مثل السيارات والشاحنات والدراجات الناريَّة، والأنشطة الصناعيَّة والمعدات الثقيلة، وأعمال البناء كآلات الحفر والهدم، وكذلك الطائرات والمروحيات.

واستنادًا إلى وكالة حماية البيئة الأميركيَّة (EPA)، فإنَّ مستوى الضوضاء المسموح به في المؤسسات التعليميَّة يجب أنْ يتراوح بين 30 و40 ديسيبل، بينما يسمح في المناطق السكنيَّة بمستويات تتراوح بين 40 و60 ديسيبل، أما في المناطق الصناعيَّة فقد تتجاوز هذه المستويات لتصل إلى ما فوق 60 ديسيبل.

وأشار سلام إلى أنَّ التعرض المزمن للضوضاء العالية يمكن أنْ يؤدي إلى فقدان السمع، فضلاً عن مشكلات نفسيَّة وجسديَّة أخرى مثل التوتر والقلق واضطرابات النوم، وتراجع الأداء الدراسي والمهني.

ولفت إلى أنَّ الحدَّ من آثار هذا النوع من التلوث يتطلبُ اعتماد معدات الحماية، مثل سدادات الأذن وسماعات العزل، إلى جانب تطبيق القوانين البيئيَّة بشكلٍ صارم.

تحسين البيئة العراقي

وأشار إلى قانون حماية وتحسين البيئة العراقي رقم (27) لسنة 2009، الذي نصّت مادته السادسة عشرة على ضرورة معالجة التلوث الضوضائي والحد منه، واتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية الصحَّة العامَّة والبيئة، بما يشمل تحديد مصادر الضوضاء وتنظيمها وتضمين معايير في تصميم المدن تراعي تخفيف الضوضاء، كإنشاء المناطق الخضراء. كما شدد على أهميَّة التوعية المجتمعيَّة لتغيير السلوكيات العامَّة وتعزيز ثقافة احترام البيئة الصوتيَّة.

من الناحية القانونيَّة، أكد الحقوقي ناصر عمران أنَّ ظاهرة الضوضاء لم تكن خارج اهتمام المشرّع العراقي، بل حظيت بتنظيمٍ قانونيٍ منذ وقتٍ مبكر، موضحاً أنَّ العراق كان من أوائل الدول في المنطقة التي سنت تشريعاتٍ خاصَّة بهذا النوع من التلوث.

وأشار عمران إلى أنَّه في العام 1966 صدر قانون منع الضوضاء رقم (21)، الذي هدف إلى تنظيم استخدام مكبرات الصوت ووسائل البث في الأماكن العامَّة والخاصَّة، ومن أبرز مواده: منع استخدام وسائل البث بطريقة تقلق الآخرين من دون الحصول على إجازة من مركز الشرطة المختص، وحظر نصب مكبرات الصوت خارج الأماكن المخصصة، مع تقييد استخدامها ليلاً، وفرض غراماتٍ أو عقوباتٍ بالحبس على المخالفين، إلى جانب مصادرة الأجهزة في حال عدم الالتزام.

قانون السيطرة على الضوضاء

وبيّن عمران أنَّ هذا القانون تمَّ إلغاؤه لاحقاً بعد صدور قانون السيطرة على الضوضاء رقم (41) لسنة 2015، الذي يعدُّ المرجع القانوني الأحدث، والمنشور في جريدة الوقائع العراقيَّة (العدد 4390 في 7 كانون الثاني 2015).

ويهدف هذا القانون إلى الحد من التلوث الضوضائي وآثاره البيئيَّة والصحيَّة، بواسطة تحديد مستويات الضوضاء المسموح بها (بوحدة الديسيبل) في المناطق السكنيَّة والصناعيَّة، والتجاريَّة، خلال فترتي النهار والليل.

كما أوضح أنَّ قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 تضمن أيضًا موادَّ تعالج الضوضاء، إذ تنصُّ المادة (495/ ثالثًا) على: “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على شهرٍ أو بغرامة، من أحدث لغطاً أو ضوضاءً أو أصواتًا مزعجة للغير عمدًا أو إهمالًا بأي كيفيَّة كانت”.

وختم الحقوقي بالإشارة إلى أنَّ القانون الحالي يلزم الجهات المسببة للضوضاء باتخاذ التدابير اللازمة لتقليل تأثيراتها، مشدداً على أنَّ التطبيق الفعلي لتلك النصوص هو التحدي الأبرز في مواجهة هذه الظاهرة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/05/27



كتابة تعليق لموضوع : الفوضى الصوتية في بغداد تحول العاصمة إلى معركة مفتوحة على السمع والبصر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net