حين يُجلد المعلم… وتُهدى له الأرض
لم يكن الإضراب مجرد صرخة من ميدان التعليم، بل كشف حجم الانكسار الذي يعيشه المعلم العراقي بين تجاهل رسمي ووعود واهية.
بعد مرور وقت من الإضراب في الميدان التربوي، لم تأتِ الردود كما كان ينتظرها المعلمون، بل جاء المشهد أشبه بصفعةٍ جماعية على وجه الكرامة.
لقد انتهى الإضراب، لكن الجراح لم تندمل: كتب فصل تعسفي، تهديدات داخل المؤسسات، واعتداءات بالضرب لم تحاسب.
في المقابل، التزمت نقابة المعلمين موقفا رماديا، بين تصريحات دعم “من بعيد” ومواقف رسمية لا ترقى إلى حجم الأزمة، ما ترك آلاف المعلمين يشعرون بالخذلان.
رغم محاولة الحكومة امتصاص الغضب عبر الإعلان عن تخصيص قطع أراضي سكنية، إلا أن الشارع التربوي استقبل هذه المبادرة ببرود، معتبرا إياها “مناورة إعلامية”، لا تقارن بحجم المطالب ولا تعالج جذور الأزمة.
الكوادر التعليمية ما زالت تنتظر: تشريع قانون حماية المعلم، تحسين الرواتب، وإعادة الاعتبار لمهنة تتعرض للاستهلاك والتجريف اليومي.
الكوادر التربوية
وقرر مجلس الوزراء، أمس الثلاثاء، المضي بإجراءات توزيع قطع الأراضي للملاكات التربوية والتعليمية في بغداد والمحافظات، وتشكيل لجنة عليا لتنفيذ كتاب رئاسة الوزراء/ الهيئة العليا للتنسيق بين المحافظات، المتضمن موافقة رئيس مجلس الوزراء بإنشاء الأحياء السكنية الخاصة بالكوادر التربوية والتعليمية وموظفي وزارة التربية، في بغداد والمحافظات، وبإشراك نقابة المعلمين في بغداد والمحافظات.
ومن ضمن القرارات، قيام وزارة المالية بصرف أجور النقل للمشرفين التربويين، المرصودة ضمن موازنة كل مديرية تربية تابعة للوزارة، وكذلك قيام وزارة التربية بصرف مبلغ (100) ألف دينار، لتسيير عمل إدارات المدارس، ولكل فصل دراسي، وكذلك تفعيل جميع فقرات قانون حماية المعلّم (8 لسنة 2018).
ووجه المجلس في قراراته بجرد المدارس النائية والملاكات التربوية في هذه المدارس، التي تبعد مسافات تزيد عن 100 كلم من مراكز المدن، وتقدم إلى وزارة التربية لإيجاد الحلول المناسبة لإنصافها.
وتضمنت القرارات دراسة وزارة المالية احتساب سنوات الخدمة المجانية لأغراض العلاوة والترفيع، بالإضافة إلى منح قروض مالية للملاكات التربوية والتعليمية من المصارف الحكومية، وبنسب فائدة بسيطة لتحسين المستوى المعيشي.
ماذا كانت مطالبهم؟
تخرج زينب حسين، ممثلة التربويين، لتضع المطالب بوضوح وبدون مواربة. “مطالبنا ليست تعجيزية”، تقول، “بل هي حقوق مؤجلة، وحان وقت استردادها”.
تشرح زينب أن جوهر ما يطالب به التربويون يتلخص في عدة نقاط محورية، أولها وأهمها، زيادة المخصصات بنسبة 100%، كخطوة نحو إنصاف المعلم وتقدير جهده الحقيقي.
وتضيف أن المطالب تمتد أيضًا إلى تحسين الظروف المعيشية، من خلال زيادة مخصصات الزوجية والأطفال، ورفع أجور النقل، بما يتناسب مع غلاء المعيشة.
وتبرز مطالبة خاصة بخدمة الأطراف، حيث تطالب زينب بمضاعفة هذه الخدمة، نظرا لما يتحمّله المعلمون من عناء التنقل والعمل في مناطق بعيدة ومحرومة.
وتقول إن هذه المطالب لا تقف عند حدود الرواتب، بل تشمل أيضًا جوانب قانونية وهيكلية، على رأسها إقرار قانون يحمي المعلم والطالب، ويوفّر بيئة تعليمية آمنة ومحترمة.
وتشدد زينب كذلك على ضرورة تثبيت المحاضرين المتعاقدين منذ عام 2020، وصرف مخصصات عقود 2024، باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من المنظومة التعليمية، وحرمانهم من حقوقهم هو انتقاص من الجهد الذي يبذلونه يوميا.
بصوت يظهر تعب السنين، وإصرار اللحظة، تختتم زينب: “نحن لا نطلب أكثر من العدالة، العدالة التي ينتظرها المعلم منذ عقود”.
الاستقطاعات
وارفقت لنا بيان معلمي العراق، الذي تضمن أبرز مطالبهم من الاضراب: تخصيص قطعة ارض لكل معلم ومنتسب في وزارة التربية، مع شرط توزيعها خلال شهرين.
مخصصات مهنية مقطوعة 300 ألف، ونقل 100 ألف عوضاً عن 50 ألف دينار، رفع مخصصات الزوجية والأطفال، بالإضافة الى تثبيت عقود الامن الغذائي ودفع مستحقات المشرفين، وإيقاف جميع الاستقطاعات وارجاعها للمعلمين.
تواصل مراسلنا قبيل يوم الاضراب مع أعضاء من نقابة المعلمين، وأكدوا وقتها أن النقابة تدعم مطالب الكوادر التعليمية، وهناك لقاءات عقدت يوم السبت والأحد الماضي بين النقابة ووزارة التربية، للوصول لحل ينصفهم، الا انه في تواصل اخر، بينت النقابة أنها لم تتبن الاضراب بشكل مباشر، بالشكل الذي يشعر المعلمين بتخلي النقابة عنهم.
سهاد الخطيب، عضو نقابة المعلمين، توضح موقف النقابة وسط إضرابٍ تربوي لافت. ورغم أن النقابة، كما تقول، لم تتبن الإضراب بشكلٍ رسمي، إلا أن موقفها بدا واضحًا: هي مع الحراك، ومع مطالب المعلمين، قلبا وقالبا.
في حديثها تؤكد الخطيب أن النقابة قد صاغت مطالب الكوادر التربوية في نقاط محددة، وقدمتها إلى لجنة التربية في مجلس النواب. وتضيف بأن وفدا من النقابة، برئاسة نقيب المعلمين، سيحضر يوم 8 اذار جلسة مجلس الوزراء لمتابعة هذه المطالب والدفاع عنها.
المطالب وعمق الأزمة
الخطيب، التي كانت تتحدث من ساحة التظاهرات في النجف، أشارت إلى الحضور اللافت لأعضاء النقابة، حتى من بعض أعضاء الهيئة الإدارية، إلى جانب المعلمين المحتجين، ما يظهر حجم الالتفاف حول المطالب وعمق الأزمة.
ومع اتساع رقعة الاحتجاجات، تنذر الأيام المقبلة بتصعيد، إذا لم تلبَّ المطالب. “النقابة مستعدة لاتخاذ خطوات تصعيدية”، تقول الخطيب، مشيرة إلى أن المجلس المركزي للنقابة ما زال في حالة انعقاد دائم منذ يومين، وسيواصل اجتماعاته في بغداد لاتخاذ قرار حاسم.
وتختم حديثها بأملٍ لا يخلو من قلق: “نتمنى تحقيق مطالب جميع المعلمين حتى ينتهي الإضراب وتعود الحياة إلى صفوف الدراسة ويستقر حال الطلبة”.
في مشهد صادم ومؤلم، أرفق عدد من المواطنين من محافظة ذي قار صورًا تظهر تعرض معلمين ومعلمات لاعتداءات جسدية عنيفة، بعضها بلغ حدّ نزف الدم ونقل المصابين إلى ردهات الطوارئ.
الصور، كشفت عن وجوه مضرجة بالدماء، وأجساد أنهكها الضرب، وملامح مكسوة بالذهول، وكأنهم خارجون من ساحة معركة لا من بيئة تعليمية.
تساؤلات مريرة
ورافقت هذه الصور تساؤلات مريرة، صيغت بلغة لا تخلو من اليأس: “هل أصبح المعلم هو المخرب، ليعامل بهذه الطريقة؟”.
سؤال اختصر حالة الانكسار الجماعي التي يعيشها قطاع التعليم، وعبّر عن الغضب المتصاعد إزاء صمت المؤسسات المعنية، وعدم تحركها لحماية من يفترض أن يكونوا قدوة ومصدر أمان داخل المجتمع. ويشار الى ان أحد مطالب المعلمين تتمثل بتشريع قانون “حماية المعلمين”.
التربوية هناء جبار، وهي ناشطة في مجال التعليم، واحد المنظمين للأضراب. تقول بثقة: “التظاهرات حق دستوري، ووسيلة حضارية للتعبير عن المطالب المشروعة”، مشيرةً إلى أن الإضراب والاحتجاج هما من أشكال المقاومة السلمية التي كفلها الدستور العراقي.
وترى هناء في الحراك التربوي موقفًا وطنيًا قبل أن يكون نقابيًا. وتنتقد بشدة من يحاول النيل من عزيمة المعلمين، أو التشكيك في نواياهم، معتبرة أن هذه المحاولات “صيد في الماء العكر” ومحاولة لإعادة زرع الخوف الذي تربى عليه جيل كامل تحت ظل الأنظمة القمعية، حيث كان المعلم يعاني من كبت القرار، وفقدان الجرأة، وهيبة مهنية مهدورة.
وتشير إلى أن هذه الممارسات لم تعد تجدي، فاليوم، كما تقول، المعلم خرج بقوة، رغم التهديدات والمراقبة والإجراءات الأمنية التي رافقت التظاهرات. “لم تنطلي على أحد”، تقولها هناء بحزم، مؤكدة أن التربويين استنكروا كل محاولات التخويف، ورفضوا تحويل قرار رئيس الوزراء الأخير بوضع “حمايات” على المدارس إلى أداة مراقبة.
إسكات الأصوات الحرة
وتضيف: “في الحقيقة، هذا القرار لم يكن لحماية الكوادر، بل لوضعها تحت أعين السلطة”، في إشارة واضحة إلى ما وصفته بمحاولات إسكات الأصوات الحرة.
تؤكد هناء أن مشهد الاحتجاج كان صاخبا ومهيبا في اغلب المحافظات. فالمعلمون، وإن خرجوا البعض منهم مجبرين أو تحت الضغط، إلا أنهم فرضوا حضورهم. “وقفوا على أبواب المديريات، والدوائر دعمتهم، برضاها أو دونه”، على حد تعبيرها،
مشيرةً إلى أن حجم التظاهرة كان “ضخمًا جدًا” ومليئًا بالكرامة والعزّة. آلاف المعلمين، الذين يرفضون أن يعودوا إلى الصفوف وهم منكسرون، أو إلى المدارس وهم بلا كرامة. تقولها بوضوح: “صوت المعلم اليوم، كان أعلى من أي وقتٍ مضى”.
تقول التدريسية كحلاء السعدي بلغة شديدة اللهجة إن “الجهات الحكومية اذ لم تستجب للمطالب سيكون لنا اعتصاماً مفتوحاً”. تضيف أن “حتى لو تم تحقيق المطالب، لن ننسى الطريقة المهينة التي تم التعامل بها معنا، من تخويف وتهديد، واستخدام أسلوب المنع في ممارسنا حقنا في الاضراب”.
وأشارت إلى ان “نقابة المعلمين موقفها خجول أمام الكوادر التربوية، واجراءها ما هي الا موقف شكلي”، لافتة إلى جود تدريسيون تم اصدار كتاب فصل رسمي بسبب اضرابهم، واخرون تم تهديدهم بالفصل من قبل اداراتهم”.
تخصيص قطع أراضي
وترى كحلاء، أن “قرار وزارة التربية بتخصيص قطع أراضي للكوادر التربوية ما هو الا “بنج” لتهدئة الوضع العام، مؤكد أن “الكوادر هذه المرة لن تسكن عن حقوقها وستتابع بقة جريان تحقيق المطالب. لافتة الى أن سبب وصلونا الى الاضراب هو الفساد والتهميش وسوء الإدارة.
أشارت وزارة التربية في بيان صدر بتاريخ 7 آذار، إلى موافقة رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني على تخصيص قطع أراضٍ سكنية لجميع الهيئات التعليمية والتدريسية، مع وعود بتوفير الخدمات الأساسية لها، وذلك في إطار دعم الواقع المعيشي للكادر التربوي.
لكن الإعلان قوبل بسيل من التعليقات المشككة من قبل الكوادر التربوية عبر مواقع التواصل، حيث عبّر العديد منهم عن استيائهم وسخريتهم من القرار. أحدهم كتب: “قطعة أرض ينطوها منا لـ100 سنة ما توصلها لا مي ولا كهرباء”، بينما علّق آخر: “ورقة المطالب كبيرة، ما شافوا غير قطع الأراضي!”، فيما كتب تدريسي ثالث: “خلي ببالكم هالأكاذيب بعد متعبر علينا، وبعد ما نتأثر بالبنج العام”.
في كل مرة يرتفع فيها صوت المعلمين عبر احتجاج أو مظاهرة، يتكرر المشهد ذاته: وعود رسمية تمنح سريعًا، لكنها تتبخر أسرع. هذا ما أكده التربوي محمد السعدي مشيرًا إلى أن المعلم بات اليوم الحلقة الأضعف في المنظومة التربوية، دون غطاء قانوني يحميه أو يعيد له هيبته التي تآكلت بفعل الإهمال واللامبالاة.
قانون يحمي المعلم
“آن الأوان لإقرار قانون يحمي المعلم”، يقول السعدي بصوت يشوبه التعب، مضيفًا: “هناك طلبة وأهالٍ لا يعترفون بسلطة المعلم داخل الصف، بل يتعاملون معه كما لو كان موظفًا عابرًا بلا قيمة. لا ضمانات، لا حماية، فقط مطالب وأوامر”.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد. فبحسب السعدي، المعلمون في العراق محرومون من أبسط حقوق الموظف: لا تأمين صحي، لا مخصصات مالية أسوة بزملائهم في الوزارات الأخرى، ولا حتى امتيازات رمزية كالقطع السكنية أو بطاقات تعريفية تعزز من مكانتهم داخل المجتمع.
ثم يرسم السعدي صورة أكثر قتامة عن الواقع داخل المدارس: “نحن مَن ندفع رواتب عمال النظافة، من جيوبنا. المدرسة لا تملك كادرًا خدميًا، فاضطررنا كمعلمين لتعيين عاملة تنظيف ونتقاسم راتبها الشهري. حتى كاز المولدة، والوسائل التعليمية، كلها على حسابنا”.
وفيما يشير إلى تناقض صارخ بين الواقع والمطالب، يروي السعدي كيف يزورهم المشرف التربوي طالبًا تشغيل أجهزة العرض الذكية وتفعيل الإنترنت في الحصص الدراسية، متسائلًا: “لكن من يدفع ثمن ذلك؟ نحن. كل شيء يُطلب منا، كأن المدرسة مؤسسة خاصة نتحمل أعباءها بالكامل، بينما تغيب الدولة عن المشهد”.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat