«نهر الجنون».. اسطورة حولها”توفيق الحكيم” الى مسرحية
مروة صلاح متولي
مروة صلاح متولي
لم تأت قصة «نهر الجنون» إلى توفيق الحكيم، من بنات أفكاره ووحي إلهامه الخاص، لكنها تناهت إلى مسامعه كحكاية متداولة، كما أعلن هو بنفسه في مجلة «الرسالة» سنة 1935 قائلاً: «إني سمعت هذه القصة لأول مرة منذ نيف وعشرين سنة، وقد وجدتها شائعة على الألسنة كغيرها من الأساطير، ولم يصل إليّ خبرها عن طريق شيء مكتوب، وإنما عن طريق أفواه الناس». وكان ما فعله توفيق الحكيم، هو أنه قام بمسرحة هذه القصة، أي تحويلها إلى مسرحية، وتُعد هذه القطعة الأدبية من الأعمال القصيرة في قائمة مؤلفاته، فهي مسرحية من فصل واحد، كما شاء الحكيم أن يصيغها على هذا النحو من الاختصار والتكثيف، رغم إنه كان قادراً على خلق المزيد من الدراما، وإضافة المزيد من الأبعاد للشخصيات والأحداث. لكن يبدو أنه أراد أن يحتفظ بروح الأسطورة وفكرتها الأساسية المحيّرة، ولم يرغب في إطالة الحكاية القصيرة، لتظل سهلة التداول بين الناس قراءةً أو سرداً شفهياً أو تمثيلاً. وهذه المسرحية إن تم تمثيلها على خشبة المسرح، فهي على الأرجح لن تستغرق أكثر من نصف ساعة، ولا شك في أن مطالعة مسرحية «نهر الجنون» تحقق متعة كبيرة للقارئ كسائر كتابات توفيق الحكيم، فهو إن لم يكن صاحب الحكاية هنا، فإنه صاحب الأسلوب وطريقة السرد والحوار، ومن مثل توفيق الحكيم في صياغة الحوار المسرحي؟
لا نعلم إن كان تم تمثيل مسرحية «نهر الجنون» وعرضها على خشبة المسرح أم لا، لكن المعروف هو أن توفيق الحكيم كان يؤلف مسرحياته ويعدها للقراءة أولاً، ولا يعني ذلك أنه كان ضد التمثيل رافضاً له، أو أنه لم يكن يريد أن يرى مسرحياته مجسدة نابضة بالحياة أمام الجمهور، بالطبع كان يريد ذلك، فقد كان مسرحياً بحق. لكنه كان يريد أن تُحفظ كلماته مكتوبة، وأن يُضمن لها البقاء والخلود، وأن تكون متاحة للجميع في كل زمان ومكان، وكان يخشى اضطراب أحوال المسرح، وما يمر به التمثيل من تقلبات وأطوار ضعف وقوة. كما كان الحكيم يهدف إلى تحقيق شيء آخر، وهو أن يجعل المسرح مقروءاً، أن تُقرأ المسرحيات كالأدب أو كنوع من أنواع الأدب، وأن يجعل القارئ المصري يطالع المسرحية مكتوبة مطبوعة على الورق، كما رأى القارئ الفرنسي يفعل ذلك أثناء وجوده في فرنسا، وألا تظل علاقة المصري بالمسرح مقتصرة على فعل المشاهدة فقط، وهو الأمر الذي لا يتوفر للجميع بطبيعة الحال ولأسباب متعددة. ولعل مؤلفات توفيق الحكيم هي النصوص المسرحية الأولى، التي طالعها المصريون قديماً باللغة العربية، وتذوقوا من خلالها جماليات الدراما المكتوبة، وجاذبية الحوار الشيّق، المليء بالأفكار المنشطة للذهن والمعاني المغذية للروح. لم يكن غريباً ما فعله صاحب «أهل الكهف» من مسرحة لأسطورة نهر الجنون، وهو من كان منشغلاً بالربط وخلق الصلة بين الماضي والحاضر، والقديم والجديد، والخيال والواقع، والأسطورة والحقيقة، ولا يخلو هذا الربط من البحث والتحليل، ودعوات التأمل وإعمال العقل والتفكر في الأوضاع القائمة، والمصائر والمآلات، والنظر إلى النفس في المرآة، ومراجعة الذات والتعرف عليها من جديد.
نهر الجنون ليس عنواناً مجازياً للمسرحية، فهناك بالفعل نهر يصاب كل من يشرب ماءه بالجنون، بعد أن غضبت الآلهة ونقمت، وصبّت لعناتها على أهل ذلك البلد الذي يجري فيه النهر، فأطلقت الأفاعي في السماء ليلاً تمطر سمومها على صفحة النهر، حتى امتزجت مياهه بالسم الذي يسبب الجنون للشاربين، وحده الملك سمع هاتفاً أو وحياً يحذره من شرب مياه النهر، حتى لا يفقد عقله ويصاب بلوثة الجنون. وقبل أن يحذر الملك الملكة من هذا الخطر المحدق، كانت قد شربت من النهر وذهب عقلها وصارت من المجانين، لم يستطع الملك أن ينقذ أحداً سوى وزيره، الذي أطاع سيده الملك ولم يشرب أبداً من ماء النهر، وبذلك صار كل من الملك والوزير هما العاقلان الوحيدان في بلد جُنّ جميع أهله بمن فيهم الملكة، امتنع الملك ووزيره عن شرب المياه، ، وأخذا يبحثان عن حل لما وقع من مصيبة وما ألم بالبلد من كارثة، وكان الملك حزيناً أشد الحزن على زوجته الملكة، وما أصابها من جنون بعد أن كانت تتمتع بالعقل والذكاء والحكمة، فيطلب الملك إحضار كبير الأطباء ليداويها ويعالجها، فيخبره الوزير بأن كبير الأطباء شرب من النهر وفقد عقله، فيطلب الملك كبير الكهنة ليباركها ويحقق لها معجزة الشفاء، فيقول له الوزير إن كبير الكهنة صار من المجانين، أي صار من العامة، عامة الشعب الذين شربوا من النهر وأصابتهم لعنة الجنون، ويؤكد الوزير للملك أنه لا يوجد من لم يشرب من النهر سواهما، ويتوجهان إلى السماء طلباً للرحمة ورفع اللعنة وكشف الغمة.
لا نعلم إن كان تم تمثيل مسرحية «نهر الجنون» وعرضها على خشبة المسرح أم لا، لكن المعروف هو أن توفيق الحكيم كان يؤلف مسرحياته ويعدها للقراءة أولاً، ولا يعني ذلك أنه كان ضد التمثيل رافضاً له، أو أنه لم يكن يريد أن يرى مسرحياته مجسدة نابضة بالحياة أمام الجمهور، بالطبع كان يريد ذلك، فقد كان مسرحياً بحق.
وفي مكان آخر من القصر، تجتمع الملكة مع كبير الأطباء وكبير الكهنة، وتناقشهم بحزن عظيم وأسى بالغ، في حال الملك ووزيره اللذين أصيبا بالجنون وفقدا عقليهما، وها هما يرفضان الشرب من ماء النهر خوفاً منها، إذا يزعمان أن مياهه مسمومة وتصيب شاربها بالجنون، تبكي الملكة وتطلب من كبير الأطباء وكبير الكهنة إنقاذ زوجها الحبيب، وردّه إلى رشده وإقناعه بالشرب من ماء النهر، وتخليصه من ذلك الخوف الذي يعتريه، وما يتملكه من فزع كلما ذُكر أمامه النهر ومياهه، تطلب منهما البحث عن حل، وتذهب هي إلى الملك لتحاول أن تقنعه بأن يشرب ويتخلى عن أوهام الجنون، فينظر كل منهما إلى الآخر بنظرات الحب والشفقة، يأسى كل منهما لحال الآخر وما أصابه من جنون، ويبحث كل منهما عن دواء يشفي الآخر، أما الملك فلم يجد بعد علاجاً لجنون زوجته الملكة، ولا يزال يتضرع إلى السماء وينتظر أن تمده بالخلاص والنجاة، لكن الملكة وجدت الدواء لعلاج زوجها الملك المجنون، وهو أن يشرب من ماء النهر، وتحاول أن تقنعه وتؤكد له أن هذا هو علاجه الوحيد، فلا يزداد الملك إلا حزناً ويأساً وإحساساً بهول المصيبة وعظم الكارثة. ثم يأتيه الوزير بمصيبة أعظم وأكبر هولاً، ويخبره أن الناس يرون أن الملك ووزيره قد أصيبا بالجنون، وأنهما الوحيدان اللذان فقدا عقليهما في هذا البلد، أما الملكة وبقية الناس فإنهم هم العقلاء.
تعجب الملك وقال إنهم لا يشعرون بجنونهم، وأخذ يحكي للوزير عن إشفاق الملكة عليه لظنها أنه مجنون، والوزير يحكي له عن إشفاق كل من يلتقيه في القصر وخارج القصر عليه أيضاً، لأنه الوزير المجنون، حسبما يعتقدون. ثم يبدأ الوزير في التحدث عن خطورة الأمر، وضعف موقفهما، فالغلبة صارت للجنون، وماذا تستطيع أن تفعل حبتان من رمل أمام بحر؟ ويصل اليأس بالوزير إلى أن يقترح على الملك، أن يشربا هما أيضاً من النهر، لينعما بالسلام وسط المجانين، فما فائدة العقل في مثل هذه الحالة؟ بل إن العقل صار نقمة على صاحبه وقد يمثل خطراً عليه، إذا ما قرر هؤلاء المجانين التخلص من الملك ووزيره، لظنهما بأن الجنون لم يتمكن إلا منهما فقط، وكيف تترك أمور البلد وشؤون الرعية لاثنين من المجانين؟ يجادل الملك وزيره كثيراً، ويسأله كيف نتخلى عن العقل؟ كيف نخضع للمجانين ونذهب إلى الجنون بإرادتنا؟ ويرد الوزير دائماً بأن لا قيمة للعقل في بلد من المجانين، ولا يكفي أن كل منهما يصدق ويؤمن بعقل وحكمة الآخر، ويوقن بأنه لم يشرب من النهر المسموم، الحكم بالعقل أو الجنون بات في يد المجانين الآن، هم وحدهم يقررون من العاقل ومن المجنون. وعندما يسأل الملك كيف لهم أن يجترئوا على الحق بهذا الشكل، يضحك الوزير من كلمة الحق، ويقول: «الحق والعقل والفضيلة، كلمات أصبحت ملكاً لهؤلاء الناس أيضاً، هم وحدهم أصحابها الآن، وأنت بمفردك لا تملك منها شيئاً». فيبدأ الملك في الاستسلام لفكرة الوزير، ويرى أنه لا حل لتلك المشكلة ولا يمكن أن تستمر الحياة على هذا الحال، بل إن الوزير يقنعه بأن الخير في الجنون، وأن الجنون سيحقق لهما العيش في سلام ووئام وهناءة مع الملكة والناس، وأن العقل الآن لم يعد إلا شراً ونقمة، يجعلهما مجنونين منبوذين في نظر الجميع، فيقول الملك: «إذن فمن الجنون ألا أختار الجنون، بل إنه لمن العقل أن أؤثر الجنون، ما الفرق إذن بين العقل والجنون؟ عليّ بكأس من ماء النهر».
نقل إلينا توفيق الحكيم هذه الأسطورة بأسلوبه الساحر وعباراته الموحية، فمنحها وجوداً جديداً، وضمن لها استمراراً وانتشاراً في لغتنا العربية، وهي أسطورة لا يُعرف منبعها على وجه التحديد، لكن يقول البعض بأنها أسطورة صينية. وقد ركز الحكيم على الحوار بين الملك والوزير، بل إننا نقرأ الأمر من خلال رؤيتهما، ونصدق أنهما العاقلان الوحيدان في هذا البلد المجنون، رغم أنه يمكن أن يكون العكس هو الصحيح، وإن كان احتمالاً ضعيفاً، فقد يشعر القارئ عند لحظة ما من المسرحية بهذا الهاجس، ويساوره ذلك الشك، أو ربما مجرد التساؤل، ماذا لو كان الملك ووزيره هما من فقدا عقليهما؟ كان توفيق الحكيم بارعاً في خلق الشعور لدى القارئ، بعمق هذه المعضلة ومدى فداحتها، وإثارة قلقه وهو يتابع تعقد الأمر وتأزم الموقف، فالعقدة الدرامية هنا يكاد يكون لا حل لها، سوى هذا الحل المحزن الذي اقترحه الوزير، شيء ما في أسلوب الحكيم وكلماته، يذهب بالقارئ إلى واقعه وما يعيشه في زمانه ومكانه، ويطغى السؤال الرئيسي، من العاقل ومن المجنون؟ كما أن المسرحية تطرح فكرة الاختلاف، هل يجب أن يفكر الجميع بالطريقة نفسها، وأن يروا الأمور بلون واحد فقط، ومن يرى لوناً آخر يصير مجنوناً؟ ومن يتبع من؟ هل يتبع الفرد الجماعة؟ أم على الجماعة أن تتبع الفرد إذا كان هذا الفرد عاقلاً مستنيراً؟ ومن يحدد ويقرر إذا كان هذا الفرد عاقلاً مستنيراً أم لا؟ ويحكم بأهليته وصلاحيته ليكون قائداً للجماعة؟ هل يحتفظ المرء بعقله واختياراته حتى النهاية؟ أم عليه أن يتخلى عنها في لحظة معينة؟ كما يشعر القارئ أحياناً أثناء القراءة بأن هناك أنهارا أخرى متعددة، شرب منها الكثيرون ولا يعلم هل سيشرب هو منها يوماً أم لا، يعرف الحكيم كيف يصيب بكلماته وأسئلته مشاعر القارئ وهواجسه ومخاوفه، ذلك القارئ الذي ربما اضطر أن يسأل يوماً وسط ما يعيشه من واقع عبثي، هل هم المجانين أم أنا؟ هل عليّ أن أقبل بما يقبل به الآخرون؟ وأن أحب ما يحبونه؟ هل عليّ أن أصدق أن الجاهل صار عالماً، وأن الأفاك المنافق صار رجل دين، وأن فاقد الحس والروح صار فناناً، هل يستسلم المرء للواقع الذي يحيط به؟ ويخضع لسطوة الجموع؟ فإن هذه المسرحية تثير فكرة الأغلبية والأقلية، هل الأغلبية دائماً على حق فقط بسبب الكثرة، وعلى الأقلية أن تخضع للخطأ، بل للهلاك لمجرد أنها أقلية، فإذا ارتأت الأغلبية في الفشل نجاحاً وفي القبح جمالاً وفي الانحطاط رفعة، ماذا على الأقلية أن تفعل؟ وأي نهر عليها أن تشرب منه كي تشفى من جنونها؟
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat