بعد سنوات من الاجتهاد في الدراسة، أراد أن يكون حفل التخرج مكللاً بفرحة أخرى وهي اعلان خطوبته من زميلته التي رافقته السفر الدراسي لأربعة اعوام، كان منطقياً جداً أن تملأ عيون زملائه فرحة تبوح بالبهجة، عندما استدعى عريف حفل التخرج عرسان الحفل الى المنصة معلناً عن خطوبتهم، لينثر هو بدوره امنياته أكاليل عابقة بالحب، حين باح بسروره لتحضور اخوته وعائلته، وتمنى لأصدقائه ان يكون لهم ما يتمنونه، وان يحظوا ذات يوم بمن تضيء طريق مستقبلهم.
كان لازال في نشوة الاحتفال الذي مر عليه ثلاثة ايام حين اتصل بخطيبته، وحددا يوم الجمعة القريب لعقد قرانهم في الصحن الحسيني كما هي عادة اغلب العوائل العراقية، وخاصة تلك التي تقطن في كربلاء او مدن الفرات الاوسط القريبة منها، وان يجعلا عقدهم شاهدا على صدق الميثاق الذي تعاهدا عليه، فلم تثنِ عزمهم كل تلك الاساليب الخاوية في قطع الطرق ولا صخب الازدحام والسيارات المتراصفة كحبيبات الرمان امام الاشارة المرورية، الا انه تفاجأ بما وجد عليه كربلاء وبالتحديد منطقة ما بين الحرمين التي عجت حينها بالشباب المرددين لأهازيج حماسية، كأنها تلقت نداء السواتر او ان ساعة حرب حان وقتها.
ظل عليّ معلقا ما بين مراسيم الزيارة بعد أن فوت عليه فرصة الاستماع لخطبة صلاة الجمعة وبين فضوله المتسرب لمعرفة ما يدور في منطقة ما بين الحرمين الشريفين بعد ان سيطرت تلك الاجواء وعتمت على مراسيم عقد القران، فقررا ان يكملوا مناسك الزيارة ومن بعدها العودة معلقين آمالهم ليوم اقل صخباً وضجيجاً تحتفل نسماته بعقد قرانهم، وما ان عاد، جلس مع أبيه لتبادل الكلام واذا بنشرة الأخبار العاجلة تملأ شاشة التلفاز والجميع يتحدث عن فتوى تسمرت لها الاذهان، حيث ان مثل هكذا فتوى لا تصدر الا اذا كان الخطر محدقا بالمقدسات والاعراض، أو ان هذه الارض مسها الشر..!
نعم، هي فتوى الدفاع الكفائي الصادرة من المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف، هنا توقف عليٌّ قليلاً بعد أن استشعر حجم الخطر وهو يعيد في ذاكرته ما شاهده في منطقة مابين الحرمين، وتوجست مشاعره تلك الغيمة السوداء التي خيمت في سماء مدن كانت ذات يوم عابقة بالبهجة والامان، الا ان الاستجابة أسرع من تلك الغيمة، بل كانت كالبرق حين لبى أبناء الوطن الغيارى.
تفحص عليٌّ اباه بنظرة طويلة خبأت بين طياتها اسئلة لاهثة خلف اجوبة كان لابد لها ان تقفز من بين سطور الحديث، ساد الصمت المكان بعد ان مست ابا علي حيرة في عيني ولده المتكتم على حفنة الاسئلة الشائكة في رأسه ليشير بجهاز التحكم الى عين التلفاز معطيا أمراً بإخفات الصوت، فالآباء هم اعلم بنوايا ابنائهم حين يعزمون على امر ما، وكأن الاب اراد ان يبيّن ويقول: أنا اعلم أنك سوف تلبي النداء، يجيبه الهاجس المتلبس بشخص ابنه، وانا اعلم انك سوف توافق.
كل ذلك كان حديثا في عالم آخر، عالم تتدفق منه غيبيات الكلام رغم الصمت المفرّغ من كل شيء الا الانفاس والنظرات، كانت النظرات هي اللغة الاكثر بلاغة بين علي وابيه، ذهب بعد ذلك كل منهم الى فراشه الذي كان بمثابة اطلالة من على نافذة او ما شابه، حيث تبقى الافكار مطروحة فوق الوسائد تتنقل بين اروقة العقل ذهاباً ومجيئا، فلم يستطع احد منهم النوم تلك الليلة، الا ان عليا تلقى اتصالا هاتفيا من احد اصدقائه ظناً منه انه يريد أن يبارك له على إتمام عقد قرانه، الامر الذي جعل عليا يمتنع عن الرد عن كل تلك الاتصالات المتكررة..!
وعند الصباح، جاء الى والديه يستأذنهما ويبلغهما انه ينوي الالتحاق تلبية لنداء المرجعية، اذ لم يكن باستطاعة والده الرفض أو المعارضة رغم رفض والدته في اول الامر، فلا وجود لتلك الأمهات التي توافق عقلها قبل قلبها الناشب بحرارة الشوق منذ اول لحظة لقرار الالتحاق والتطوع.. لم تجب والدته على ما سمعته صباحا من ابنها واكتفت بقولها: (الله يحميك يبني).
كان علي اخا لثلاث بنات، لكن والديه رهنا موضوع موافقتهما بموافقة خطيبته الذي اسرع للاتصال بها حيث كانت بين خيارين لا ثالث لهما، اما المساندة والتحمل معه كما عهدها أو تركها لمصير آخر فهي غير مجبرة او مكرهة على ان تتحمل ما ستتحمله ام علي واخواته، ولأنه لا يعلم هل سيعود أم لا.. ولكن كان على ما يبدوا واثقاً، وعندما اخبرها بقراره ردت عليه: (كنت منتظرة هذا الاتصال؛ لأنني اعلم جيداً انني اخترت الرجل الصحيح، اذهب وعد الينا منتصراً سالماً إن شاء الله).
ابتسم ابتسامته المليئة بالامل والتي اعتادت عليها حين يكون في موقف الامتنان، ليودعها ويذهب الى معتمد المرجعية في منطقته لترتيب امورهم وموعد التحاقهم، وبعد يومين تم كل شيء حسب المقرر له، كانت القافلة تنطلق من امام الجامع القريب من منزله فأسرع بتوديع اهله وهمّ للصعود في الحافلة، فاذا بالمعتمد يستوقفه ويقول له: "لقد علمت بأنك عقدت قرانك، فلا عليك يمكنك الرجوع يابني فإخوتك بالجهاد كثر، حتى اننا لم نعد نستوعب الاعداد المتطوعة".. الا انه بقي يترجى السيد معتمد المرجعية ليواقف على التحاقه، فما كان من الاخير الا ان يبارك التحاقه ويدعو له ان يعود غانماً وطلب منه ان يُقبل القرآن ويضعه على رأسه ويكمل طريقه بالصعود.
هنا تفاجأ برؤية صديقه، الذي داهمه قائلاً: "لقد اتصلت بك لكنك لم تجب على اتصالي ياصديقي اردت ان أخبرك اذا كانت لديك رغبة ان تلتحق في صفوف المتطوعين، فنلتحق معاً وها هي الصدفة جمعتنا"، ليتشح وجهه بحزن دامث غلبته ابتسامة شاحبة، حيث ان صديقه كان يتيم الابوين..".
:ـ ارجع يا صديقي وأنا سأقوم بما تريد فعله وأكثر.. تزوج وانجب أطفالا؛ لكي يحملوا اسمك"، فردّ عليه بكل برود: "ما تحدثت به الآن، إن أردت فعله سوف أفعله بعد أن يستقر هذا الوطن حتى أسرد بطولاتي لهم وأقول لهم: إن أباكم وعمكم كانا ابطالاً"، استدرك ثم أضاف: "يا صديقي، الغيمة عندما تأتي تجلب معها المطر، وتسقي الأرض، ثم ينبت الورد، لكن هذه الغيمة سوداء، وبدأت بقطاف الأرواح، لذا فقدرنا واحد كما هي حال سنوات الدراسة التي جمعتنا"، ثم ضحكوا وقال: "إذن لنكن معاً ونطلب ان نكون في معسكر واحد حتى لا نفترق"، وعند وصولهم الى المكان المقصود تم توزيعهم وبناء على طلبهم في البقاء معاً، تم ذلك واستمرت الأحداث، وخاضوا الكثير من المعارك والانتصارات معاً، وكانا ذات اخلاق عالية والجميع يحبهم، وعند نزولهم في أيام الاجازات لرؤية أهلهم، كان يقضي اغلب اجازته في بيت صديقه؛ كونه يتيما لا يوجد من له غير اخت واحدة متزوجة في محافظة اخرى.
تكالبت الأعداء، وطال عمر الحرب ليدخل عاماً آخر دون توقف، ومرت الأيام بين التحاق ونزول، بين موقف حملوا فيه ارواحهم على اكفهم، وآخر حمله التاريخ وساما على متن كتبه.
ثم مرت الأيام وتزوج علي، ولكنه كان مستمرا في جهاده، وعلى تواصل مع أهله ليطمئن على حال اسرته، وفي احد الأيام اتصلت به زوجته لتخبره انه سوف يصبح اباً فرحاً جداً، وأخبر أصدقاءه بالخبر، وانهالوا عليه بالسلام والتمنيات والتبريكات له واثناء هذه الأجواء جاءهم قائد المجموعة لكي يخبرهم بأن هذه الليلة لديهم هجوم حتى يعدوا العدة والعدد ويكونوا على جاهزية.
ومثل كل مرة قاموا للصلاة والدعاء وكان لهم دوي في صدورهم اثناء الصلاة كأنه دوي قادم من خلف جبل، وفي هذه المرة كان لدى علي شعور غريب وكأنه غير مرتاح لهذه العملية العسكرية على عكس كل مرة فذهب ليستريح ساعة قبل الجهوز واذا بصديقه يضع يده على كتفه يقول له: "لا تذهب لأنك سوف تصبح أباً عن قريب" فأجابه: "هل عهدتني تراجعت يوماً، اذهب وارتح لكي ننطلق بعد صلاة الفجر"، لكن الشعور الغريب لم يفارقه وكان قلقا طوال الليل الحالك السواد، وبعد الصلاة حانت ساعة الهجوم ثم انطلقوا وتعالت الأصوات بنداء: "لبيك يا زهراء" و"هيهات منا الذلة" وقد كانوا كما وصفهم امير المؤمنين (عليه السلام) لا يبالون في الله لومة لائم، أن قلب رجل منهم أشد من الحديد لو مروا بالجبال لتدكدكت لا يكفون سيوفهم حتى يرضى الله.
اشتد القتال ووابل النيران لم يتوقف اثناء التقدم والهجوم، وما بين الصد والرد لم يعد يسمع صوت صديقه كان في المتقدم سقطت عليهم قذيفة (٦٠) لا صوت لها ولكن احس بوجودها عندما لم يعد يسمع صوت صديقه.
استمر بالنداء عليه لكنه لم يجب وكان الوصول اليه جداً صعب كانت ليلة قاسية صليل برودتها في العظام كصليل السيوف لم يتوقف القتال ولا يستطيعون الوصول الى الجرحى لكن هذا الصاحب الوفي لم يعد يتحمل، فقام بالتقدم نحوهم حتى تمكن من الوصول اليهم واذا بصديقه قد فقدَ أحد ساقيه فقام بوضع كوفيته له وربط قدمه حتى يوقف النزيف، ثم بدأ الظلام يحل عليهم، ولا احد يستطيع الوصول لاخلائهم قال له: "اشعر ببرودة شديدة هل هذه برودة دمائي.. ام انني أحتضر؟ أجابه: لا تكن انانيا فتتركني وتذهب لوحدك تعاهدنا بالبقاء والذهاب في كل مكان معاً، ثم بدأ يغيب عن الوعي ويقوم بالحديث وكأنه يرى شخصا يتحدث اليه.
قال له صديقه: تحدث معي الى من كنت تتكلم؟ اجابه: لقد رأيت رجلا ضخم البنية وكأني في ضريح أمير المؤمنين، يصلي على الشهداء وانا كنت من ضمنهم لكنني لم اشاهد وجهه كان يتلالأ نوراً، فسألت الشهيد الذي كان بجانبي: من هذا الرجل؟ قال: انه أبو الفضل العباس (عليه السلام)، وهو يبتسم ثم عاد وغاب عن الوعي مرة أخرى وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قال سعيد لأنني وصلت الى الشهادة على مثل هذا الطريق وها انا ذاهب يا صديقي بصدر رحب لاستقبال الشهادة، وقد سبقتني احد اقدامي"، قام بتحريكه: "لا تقلقني عليك سوف تشفى ونعود للقتال معاً".
ابتسم له واجابه: "انا آسف يا رفيقي كان بودي البقاء معك طويلاً، ولكن على ما يبدو ان الله يحبني كثيراً، فإن الله اذا أحبّ عبداً اخذه اليه سريعاً ثم فارق الحياة.. هنا علي لم يعد بوسعه ان يفعل شيئا لرفيق طفولته ودربه وايام الجهاد غير فعل ما يتوجب فعله وما يليق بهذا البطل من مراسيم تشييع وعزاء، ثم استمر بالجهاد مواصلاً ما وعد ان يكملوا معاً، لكن شاء الله ان يراه شهيداً، ثم بدؤوا بتحرير المناطق التي استحلها داعش تباعاً وفي كل نصر كان يفتقد صديقه ويهدي له النصر ويقول: لو كنت معي لكان النصر اجمل حتى وصل وقت تحرير الحويجة، وفي ذات الوقت قد اقترب موعد ولادة طفله الأول، وكان دائماً يتصل للاطمئنان عليهم.
وفي يوم كانت لديهم أوامر بالتحرك لعملية عسكرية، اتصل بأبيه كالعادة للسؤال عن احوالهم لكن لم يخبره انه لديهم مهمة عسكرية على الرغم من ان نبرة صوته وشت لوالده بأمر محدق، فشعر بشيء أو انه إحساس الوالدين الذي لا يخيب عندما يكون هنالك خطر قادم يتعلق بأبنائهم، ابقى اباه امر ما شعر به خفياً لكنه طلب من زوجة ابنه ان تتصل بزوجها، حينها شعر علي بعد ان اضاء شاشة هاتفه اسم زوجته، بعد السلام والسؤال عن حالتها وكيف كان يومها قالت له: سوف أكون افضل لو عدت الينا سالماً قال لها: دعواتكم لنا بالنصر والسلامة وان تكوني في كل الأحوال قوية والان عليّ الذهاب.
قالت له: ننتظر عودتك انا وابننا، الا ان هذه المعركة كانت حاسمة في كل شيء حتى في أمر عودته بعد ان عاد هذه المرة دون التحاق وهو مؤزر بعلم العراق ومرفوع فوق اكتاف اصدقائه وابناء منطقته، كان نعشه القادم صوب البيت مسبوقا ببريد حبٍ ووصية، كتب فيها: " أبي العزيز.. زوجتي الحبيبة.. لا تبلغوا امي، فللوطن رائحة الشهادة وللأرض رائحة الحسين (عليه السلام)، أعلم ان وقع كلامي ثقيل هذه المرة، الا ان ما امر به الان وانا اكتب هذه الرسالة هو موقف وطن، اكتب بالنيابة عن جميع الشهداء من حولي، فلم يكن لي علم ان الشهداء باستطاعتهم الكتابة لحظة استشهادهم، ها أنا ورفاقي على الساتر نقف فوق اجسادنا المعفرة بالتراب بعد ان انفجرت بالقرب منا سيارة مفخخة، ولكن، اطمئنوا فالأرض حرة بعد اليوم ومن بقي من رفاقنا سيصلون بنا اليكم، فلا وجود لأي جرذ داعشي بعد الآن.
أكتب اليكم وانا على يقين ان الله منّ عليّ بكل نعمائه في هذه الدنيا بعد ان رزقني بأهل مثلكم، وما لم آخذه في هذه الدنيا سيرزقني الله به بعد ان يجمعني بكم في الجنة، فلا طمع لي إلا بقُبلة لجبين ولدي الذي اراه الان بين كفي امي، كما واراك يا أبي تحاول الاتصال بي لتخبرني بولادة (وطن) دون جدوى...
نعم يا أبي العزيز آخر ما أوصيكم به وقد اوصيت به زوجتي الحبيبة في كتمانها هو ان يكون اسم المولود - سواء كان ولدا او بنتا – (وطن).. قبّلوا عني أقدام امي، وقولوا لزوجتي الحبيبة مبارك لها ولادة وطن.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat