كانت مدينة الثورة تعجُّ بانواع الحيوانات الداجنة , ففي بداية تأسيس المدينة بأمر من الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم , جلبت الكثير من العوائل العراقية الفقيرة حيواناتها معها من اغنام وابقار وماعز اضافة للدجاج والبط وحتى الحمير التي كانت تشكو بنهيقها الى بارئها عندما تشتد حرارة الصيف, لكن القليل من هذه العوائل اصطحبت معها كلب لحراسة هذه الممتلكات الثمينة! هذه الظاهرة الغريبة على حياة المدن أنحسرت كثيراً بعد رحيل الجيل الاول من الآباء الى محطتهم الاخيرة في وادي السلام , خلا بعض البيوت المعتمدة على هذه الحيوانات كمصدر للدخل الثابت, حتى اندلعت الحرب العراقية ـ الايرانية وتتابع قوافل القتلى " الشهداء " المتلفعين بالعلم العراقي دفاعاً عن الوطن من ابناء هذه المدينة ـ الضحية ـ لتجهز هذه الحرب القذرة ليس على الشباب وحسب بل وعلى ماتبقى من اغنام وماعز كولائم واضاحي في المناسبات الحزينة.
اما الحاج كَاطع فقد اصرَّ على مواصلة هذه المهنة بعناد عجيب رغم تعدد مصادر الدخل ولم يعد في منطقتنا الا بيته المليئ بالاغنام والماعز مع كلب لعين تفرد عن باقي اقرانه من الكلاب, يقول صاحبه بانه لحراسة الاغنام من اللصوص , كان هذا الكائن المقيت يكرهني بشدة ودون مبرر!! انا والله ـ وانتم مامحلفيني ـ لم اكن ازعجه أبداً او ارميه بالحجارة كباقي الصبية, بل اتجنب حتى النظر اليه حتى لايزعل ... ولان بيت الحاج يقع مقابل مدرستي الابتدائية, وقرب بيوت اقربائي , وهذا من سوء طالعي , اتخذ هذا الكلب ابن الكلب الساحة المحصورة بين البيوت المتراصه وجدار المدرسة مرتع له ,يسرح ويمرح فيها كيفما يشاء, كأيّ اسد يخاف سطوته جميع من في الساحة ويطارد كل من يمر من هناك او ينبحه بطريقة هستيرية مرعبة لاسيما الصغار امثالي , فهذا المستطيل الرهيب كان لايقل خطورة ورعباً على قلبي الصغير من زيارات رجال "الامن" الرعب العامة الليلية لهتك حرمات البيوت الفقيرة في مدينتي, فمازلت اتذكر في نهاية السبعينات بعد منتصف الليل عندما دخلت كلاب الامن الى بيتنا بحجة البحث عن مطارد من افراد حزب الدعوة "العميل" كما قالوا لنا , بعد ان تفصحوا وجوهنا واحداً واحدْ... والشئ بالشئ يذكر, ان احد الاخوة العراقيين من سكنة بغداد ايضا ذكر لي ان رجال الامن طرقوا بابهم مرة بأدب واحترام وطلبوا من ابيه الذهاب معهم الى الامن العامة لامرهام .. والاغرب والعهدة على القائل ان اباه طلب منهم اوراقهم الثبوتية وامر الاستدعاء.. فاستجابوا لطلبه ... !
هسه مو مشكلة نرجع لسالفتنه وهذا الكلب الذي كان يسد علينا الطريق في الذهاب والاياب, وينغص علينا حلاوة التنقل بسلام بين ازقة قطاعنا الجميل اواللعب بأمان في ساحاته الترابية... لكن المحيرّ في الامر ان هذا الكائن يتحول بقدرة عصية على الفهم الى حمل وديع بحضور الحاج كَاطع او أحد افراد اسرته ويبدأ بالتراقص واللعب بطريقة ممتعة وبحركات بهلوانية متقنة, ونظرا لكثرة الشكاوى من الناس الذين تعرض ابنائهم للعض والنهش والمطارة, ناهيك عن الهلع والخوف الذي يتركه في قلوبهم , قرر وجهاء المنطقة التحدث الى صاحب الكلب بعد ان بات يشكل خطراً على اهالي الزقاق والازقة المتاخمة له , والشهادة لله كان الحاج كَاطع يتحلى باخلاق عراقية رائعة وطيبة نفس حقيقية قل نظيرها , حتى ان بعض الوجهاء اعتبر الحديث معه منافي للاصول العشائرية والاعراف الاجتماعية وان القضية لاتستحق عناء احراج السيد كَاطع بها, فالكلب كلب وان حدثت صاحبه!!
لكن البعض الاخر اصرعلى عقد مؤتمر قطّاعي "نسبة للقطاع" واشراك كافة الاطراف المتضررة وغيرها لمناقشة الموضوع معه لمعرفة رأيه بالاحداث الدامية التي تؤرق الصغار قبل الكبار, ومحاولة طرح اشكالية تحول كلبه اللطيف هذا من حارس للاغنام الى قاطع طريق مستهتر لايحترم الاخرين, ولكن المفاجأة التي لم يتوقعها احد هي ردود السيد كَاطع بعد ان التقى به نخبة من الرؤوس الكبيرة تم انتقائها بعناية ودراية عشائرية عالية, فبعد ان سمع آهاتهم وهمومهم ومايتعرضون له من أذى بسبب هذا الحارس المتوحش. اجاب ببرود ادهش الحاضرين وتركهم في حيرة من أمرهم!!
ـ عمي شنو القصة.. شجاكم.. هو خلكَـ جلب مسكين خالينه يحرس الحلال (الاغنام وماشابه) ... تشوفوه شلون كَاعد وساكت ومتمدد على البرودة, بلّه هو هذا ايذي احد .. بروح ابهاتكم ..... اكيد جهالكم تركض وراه بالحجار وهو يخاف ويهجم عليهم .... يعني ردود افعال طبيعية واستراتيجية حيوانيه مفهومة لحفظ النوع.!!
ثم اردف قائلا كي لايدع المجال لمحاولات طرح شكاوى اخرى.
ـ معقولة..؟ مكلفين ارواحكم ومتعنين ليجاي على مود هاي السالفة ... صدكَـ جذب ... وين اعقولكم .. وين فهمكم... هاي بتي الزغيره حنونه ساعات تسحب الجلب من أذانه وتضربه ومايحجي .. شلون يهجم على جهالكم .. هاي مجرد دعايات كيدية ومسيّسة الغرض منها تفتيت وحدة الصف وخلق حالة من التوتر في قطاعنا الغالي ..!
ولم تجدِ نفعاً كل الادلة والوثائق التي نُشرت امام السيد كَاطع من انتهاكات لحقوق الانسان, من مؤخرات وافخاذ الاطفال المجروحة والنتوءات المتصلبه لجروح قديمة .. وعباءات النساء الممزقة .. وذهبت شكوى الاهالي وكلماتهم ادراج صوت نباح الكلب المتصاعد , كأنه تلقى اشارة خفية من صاحبه بتشييع قوافل الوفود المشاركة في المؤتمر نباحاً , بعد فشل مساعيهم بتقرير مصيرهذا الكلب اللعين! اوالحد من ظاهرة العض والنهش والمطاردة.... وبقي الاطفال في المنطقة وذويهم لسنوات طويلة يعانون من همجية وشراسة هذا المخلوق المتغطرس , وينتظرون القدر الرحيم ليخلصهم منه , حتى جاء ذلك اليوم المنتظر, فقضى نحبه صريعاً غير مأسوف عليه على يد مجموعة من الشياطين الصغار استدرجوه خارج مملكته بحيلة محكمة مستخدمين معه كافة الاسلحة المحرمة دولياً , من قنادر وطابوكَـ وبوري كاتم الصوت وصخريات من النوع الفاخر.. يعني بالعراقي الفصيح " طاحولة تَبنْ " فكان يوم مشهوداً وعظيماً وانطلقت مجاميع الصغار تمرح وتتسابق بحرية مطلقة في الساحة المحرمة عليهم سابقاً ولكنه وللاسف الشديد مات هذا البائس ولم يخضع لمحاكمة فكرية تليق بتاريخه الدموي التعسفي ليعرف الناس ايّ نوع من الكلاب هو.
الكلاب وفيّة حتى مع اصحابها الاشرار
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat