الشاعر السيد حيدر الحلي .. أمير الرثاء الحسيني
العتبة الحسينية المقدسة
2019/03/01
فهذه الوشائج الادبية ــ اذا نظرنا إليها ملياً ــ نجد أنها لم تأتِ عن طريق المصادفة بل لقد اجتمع لهذا البيت الأدبي ما لم يجتمع لغيره من المؤهلات العلمية والأدبية فترك بصمات لا تمحى في سجل الأدب العربي.
لقد أشرقت أنوار هذا البيت في سماء الأدب فبلغت ذروة المجد في إشعاعها وإشراقاتها, ولا غروَ فإن العراق كان وما يزال منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا له مركز الريادة ونمرق الصدارة في إمارة الشعر العربي.
وقد زخرت مدينة الحلة الفيحاء بالعديدة من الأسرة الادبية التي غمرت التاريخ الأدبي العربي بكبار الشعراء والأدباء ومن أبرز هذه الأسر هي أسرة الشاعر سليمان الكبير الجد الأكبر للشاعر حيدر الحلي والتي اجتمع لها ما لم يجتمع لغيرها من أسباب الخلود.
ورغم أن السيد حيدر الحلي استطال من بين رجال هذه الأسرة واحتل مقاماً سامياً فيها لمكانته الأدبية وقوة شاعريته إلا أن لبيئته ونشأته أثراً كبيراً على نبوغه، فجده الأكبر السيد سليمان الكبير كان شاعراً كبيراً ويعد من أعلام الأدب في الحلة, وكذلك أبوه السيد سليمان الصغير وعمه السيد مهدي الذي ترك ديواناً ضخماً كشف عن سموِّه في دنيا الأدب.
ولم تنحصر هذه الأسرة في مسيرتها الأدبية على الآباء فقط, بل واصل الأبناء خطى آبائهم فإبن السيد حيدر أكمل رحلة أبيه في مضمار الشعر فكان السيد حسين بن السيد حيدر الحلي من شعراء الحلة الكبار, أما ابن أخي الشاعر السيد حيدر فهو الشاعر الكبير السيد عبد المطلب الحلي الذي كان أحد روّاد النهضة الأدبية في الحلة وقد حفل ديوانه بالقصائد الوطنية ومحاربة الاستعمار الانكليزي, ولكن السيد حيدر الحلي كان قطب رحى هذه الأسرة.
ولد السيد حيدر بن سليمان بن داود بن سليمان والذي يرجع نسبه الشريف إلى زيد الشهيد ابن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) في مدينة الحلة في 15 شعبان عام 1246هـ/1831م ونشأ بها يتيماً, فقد مات أبوه وهو طفل صغير فتولى رعايته وتربيته عمه السيد مهدي السيد داود فتعهد بتربيته كما يتعهد أحد أولاده وشمله بأفضل رعاية وعناية حتى إنه أشركه في الميراث مع ولديه وكان لعمه فضل في صقل مواهبه فنشأ شاعراً فذّاً لا يشق له غبار.
ومما روي عن مكانته في دنيا الأدب وزعامته لأعلام الشعر في زمانه أنه كان إذا سافر إلى سامراء لزيارة الامامين العسكريين (ع) والحجة المجدد آية الله السيد محمد حسن الشيرازي (قدس سره) يصحبه عدد كبير من الشعراء يكون هو في طليعتهم مرتدياً حلته الخضراء فيكون الإمام الشيرازي في استقبالهم ويرعاهم لرفقتهم له.
قرأ السيد حيدر كثيراً من شعر العرب, وحفظ المجلدات من أخبارهم, وتتبع البليغ من أقوالهم, والمأثور من كلامهم, والبديع من صناعتهم, وقد ظهر ذلك كله في شعره فقد انعكست قراءاته وتجسّدت في قوة شاعريته, فقل ان تجد شاعراً متأخراً سلم شعره من العيوب كشعر السيد حيدر ولعلنا في غنىً عن الحديث والإطالة عن قوة شاعريته ونكتفي بنقل ما رواه الأستاذ علي الخاقاني صاحب مجلة البيان النجفية الذي قال:
طرق شعر السيد حيدر الحلي الأسماع وخاصة في الرثاء فلقد نال إعجاب الجميع وهيمن على مشاعرهم فامتلكها ولقد كنت يوماً في مأتم فتليت قصيدته التي مطلعها:
تركت حشاكَ وسلوانها *** فخلّي حشايَ وأحزانها
برواية جميلة واضحة فشاهدت جماعة الأدباء قد سادهم إصغاء وتفكير وعند الفراغ سألت الذي عن يميني: هل تستطيع ان تعلل هذه الظاهرة في الوقت الذي غمر الناس الحُزن في هذا اليوم (عاشر محرم) فأجابني:
وكيف تعجب وشعر السيد حيدر يأخذ بالأديب فيحلّق به إلى أجواء واسعة من الفن والخيال كما يشغل التفكير برصفه وحس انسجامه وبليغ قوله ومليح نكته وكيف تعجب والسيد حيدر أمير الشعراء الذين خلدوا مع واقعة الطف خلوداً لا يطرأ عليه (التلاشي ولا النسيان).
عرف السيد حيدر بمراثيه (الحوليات) وسميت بذلك لأنه كان يعتد بنفسه فلا يثبت القصيدة إلا بعد أن يقرأها المرة تلو الأخرى وبعد الاطمئنان يقرأها على رهط من فحول الشعراء بعد إعطائه لهم حرية النقد والمناقشة فإذا ما تم كل ذلك وافق على نسبتها له, لذا تراه أول ما عني بمراثيه لأهل البيت (ع) فكان لا يذيع القصيدة إلا بعد أن يمر عليها عام كامل ومن ثم يخرجها ويقرأها ليذيعها في الأندية فكانت (حولياته) تشتمل على شعر رصين مركز خال من الحشو والإسهاب والخلل.
كانت مراثي السيد حيدر في جده الإمام الحسين (ع) وتسجيله لوقائع الطف الدامية بلغة الموتور الذي شفه الحزن فلم يهدأ له بال ولم يمر عليه عام دون أن يسجل فيه ما جرى على سيد الشهداء وأهل بيته وصحبه من القتل وما جرى على نساء الوحي من السبي والأسر فبكى السيد حيدر على هذه الوقائع شعراً وهو مقروح الفؤاد ثائر الأعصاب فتميز هذا اللون في شعره بصدق العاطفة والمتانة والقوة في التعبير، ففي قصيدته الفائية يطلق هذه (النفثة) الملتهبة من قلب تقاسمته الأحزان والأوجاع:
سَلِ الطفَّ عنهم أينَ بالأمسِ أطنبوا *** وأين استقلوا اليومَ عن عرصةِ الطفِّ
وهل زحفُ هذا اليوم أبقى لحيِّهم *** عميدَ وغىً يستنهضُ الحيَّ للزحفِ
فلا وأبيكَ الخير لم يبقَ منهمُ *** قريعُ وغىً يقري القنا مهجَ الصفِّ
مشوا تحتَ ظلِّ المرهفاتِ جميعهمْ *** بأفئدةٍ حرّى إلى موردِ الحتفِ
فتلكَ على الرمضاءِ صرعى جسومهم *** ونسوتهم هاتيك أسرى على العُجفِ
ولنستمع إلى أبيات من قصيدته (الناعية) التي يبدأ كل بيت من أبياتها الثلاثين بكلمة (نعى) والمقصود به جبرائيل (ع).
نعى الروحُ جبريل بأن ذوي الغدر *** أراقوا دمَ الموفين للهِ بالنذرِ
نعى من أعارَ اللهَ بالطفِّ هامةً *** ومن قلبهِ فيها أقام على جمرِ
نعى أنَّ اسيافاً نحرنَ ابنَ فاطمٍ *** لحزنٍ بحجرِ اللهِ كلُّ أولي الأمر
نعى ظامياً أبكى السماءَ بعندمٍ *** وحقّ لها تبكي بأنجمِها الزهرِ
كما نجد لبطولة سيد الشهداء وشجاعته صوراً رائعة في شعر السيد حيدر الحلي فانظر إلى هذه الأبيات التي لا تحتاج إلى توضيح لما حوته من معنى رفيع وتعبير جميل:
عجباً للعيون لم تغد بيضاً *** لمصابٍ تحمرُ فيه الدموعُ
وأسىً شابت الليالي عليه *** وهو للحشرِ في القلوبِ رضيعُ
أين ما طارت النفوسُ شعاعاً *** فلطير الردى عليه وقوعُ
فأبى أن يعيش إلا عزيزاً *** أو تجلى الكفاحُ وهو صريعُ
فتلقى الجموع فرداً ولكن *** كلُّ عضوٍ في الروعِ منه جموعُ
زوَّج السيفَ بالنفوسِ ولكن *** مهرُها الموتُ والخضابُ النجيعُ
ويتوحّد في حزن السيد حيدر الذات والموضوع معاً في قصيدته النونية فيستوطن الهم في قلبه ويقيم الحزن في صدره:
كفاني ضناً أن ترى في الحسين *** شفت آلُ مروانِ أضغانَها
فأغضبت اللهَ في قتلهِ *** وأرضتْ بذلكَ شيطانَها
عشية أنهضها بغيُها *** فجاءته تركبُ طغيانَها
فقال لها اعتصمي بالإباء *** فنفس الأبي وما زانَها
إذا لم تجد غير لبسِ الهوان *** فبالموتِ تنزعُ جثمانَها
رأى القتل صبراً شعارَ الكرام *** وفخراً يزينُ لها شانَها
وهذه أبيات من لاميته المشهورة التي تستحق أن تكتب بماء الذهب:
كم رضاع الضيمِ لا شبَّ لكم *** ناشئ أو تجعلوا الموتَ فِصالا
كم وقوف الخيلِ لا كم نسيتْ *** علكها اللجم ومجراها رعالا
كم قرار البيض في الغمد أما *** آن أن يهتز للضرب انسلالا
كم تمنّون العوالي بالطلى *** أقتل الأدواء ما كان مطالا
فهملوا بالمذاكي شزباً *** والظبا بيضاً وبالسمرِ طوالا
ولم ينحصر ابداع السيد حيدر الحلي على الشعر فقط بل مارس التأليف وأبدع فيه أيضا وقد ترك ثلاثة كتب أدبية دلت على باعه الطويل في عالم الأدب:
الكتاب الأول هو (العقد المفصل) وهو عبارة عن موسوعة أدبية ضمّت العديد من فنون الأدب وعلومه ورتبه على مقدمة وثمانية وعشرين باباً وخاتمة.
أما الكتاب الثاني فهو (دمية القصر في شعراء العصر) وقد دل عنوانه على محتواه.
أما الكتاب الثالث فهو (الأشجان في مراثي خير إنسان).
ولم يزل حيدر الحلي يرفد الساحة الأدبية بإبداعه حتى وافاه الأجل في مسقط رأسه في 19/ ربيع الأول سنة 1304/1886م وحمل نعشه إلى النجف الأشرف بموكب مهيب مؤلف من علماء الحلة وأعيانها ووجوهها ودفن في الحضرة العلوية المطهرة وكان لذلك اليوم حزن وأسى عميقان في سائر الأوساط العراقية وقد عطلت المدارس في سامراء والنجف بأمر من الإمام الشيرازي حداداً على فقده وقد رثاه جميع شعراء عصره بقصائد كثيرة ومن أروع هذه المراثي وأفجعها قصيدة الشاعر الكبير السيد محمد سعيد الحبوبي والتي تبلغ ثمانين بيتاً منها:
ابنْ ليَ نجوى لو تطيقُ بيانا *** ألستَ لعدنانٍ فماً ولسانا
وأبلغ خطاباً فالبلاغة سلمت *** لكفيكَ منها مُقوداً وعنانا
وجلْ يا جوادَ السبقِ في حلباتِها *** فهاشمُ سامت للسباقِ رهانا
أغيث الأيادي قد تقشع غيثها *** وحين المعادي كيف حينكَ حانا
صرعت وما خلت الردى يصرع الردى *** لعمري وما يفني الزمان زمانا
لقراءة الخبر كاملاً في المصدر الأساسي : إضغط هنا