قيام سيّد الشهداء، ثورة الإيمان والصّدق مع الله
الشيخ ابراهيم جواد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ ابراهيم جواد

إذا أردنا قراءة الأحداث التاريخيّة بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان سوف نجدُ أنّ ثلاثةً من قريش كانوا محطّاً للنظر من قِبل السلطة الأمويّة، وهم:
الحسين بن عليّ (صلوات الله عليه)،
عبد الله بن الزبير بن العوّام،
عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وهذا الأخير كان إنساناً منحطّاً، متشاغلاً بالدنيا، ذا همّة قاصرة ونفس دنيئة، كالدّابةِ همُّها علفها، فلم يُرَ منه أي ردّة فعلٍ إزاء الانحراف الذي تشهده الأمّةُ الإسلاميّة.
ويبقى النظرُ دائراً بين مسير الإمام الحسين (عليه السلام)، وخروج عبد الله بن الزبير في مكّة، وقد تمّت قراءة مسيرة كل طرف في الأفق الكلاميّ عند أهل السنة بمعيار معيّن خالٍ من الموضوعيّة، ولكن بالمقايسة – وقد أنزل الدهرُ عليّاً حتى قيل: عليّ ومعاوية – بين الطرفين يتّضحُ أنّ راية الإيمان والهُدى كانت بيد الحُسين (صلوات الله عليه)، وأنّ ما اتّفق لثورة سيد الشهداء من الألطاف الإلهيّة ينبئ عن مكانةٍ وخصوصيّة ليست لغيره، ومع ذلك لم يُنصفه القوم، وفي هذا المقام يمكن تسليط الضوء على عدّة أمور:
🔴 الأمر الأوَّل: إنّ خروج عبد الله بن الزبير لم يكن خروجاً رساليّاً يحمي دعائم الإسلام وأركان الإيمان، فقد كان سلوكه سلطوياً استبدادياً، وقد رفض بيعته عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفيّة، وأوّل جناياته أنّه جعل البيت الحرام ذريعةً للوصول إلى مراده، وهو الأمرُ الذي كان يأباه سيّد الشهداء (عليه السلام) حتّى رُوي عنه: «لأن أقتل خارجاً من مكة بشبر أحبُّ إليَّ من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجاً منها بشبرين أحب إلي من أن أقتل خارجاً منها بشبر»، وقد احتمى ابن الزبير بالبيت الحرام متحصّناً فيه رغم قوّة الظن بوقوع القتال فيه، ولا سيّما أنّ الأمويين لم يُراعوا حرمةَ المدينة المنوّرة عند وقعة الحرّة. ومن مظاهر سلوكه السياسيّ المستبدّ ظلمه لبني هاشم، حيثُ ذكر المؤرّخون حبسه لمحمد بن الحنفية ومعه جماعةٌ وتهديده إيّاهم بالإحراق إن لم يبايعوه! فكان يريدُ فرضَ سلطانه بقوّة الاستبداد، في حين أنّ أمير المؤمنين وسيد الشهداء (عليهما السلام) رغم ما لهما من الشرعيّة الإلهية لم يقوما بهذا الأمر تجاه أحدٍ من المُسلمين!
وإذا أردنا ملاحظة حال هذا الرجل إجمالاً، فإنّ تاريخَه الدمويّ لا يؤهله كثيراً ليكون حاملاً لأمانة الإسلام فقد شارك في معركة الجمل ضدّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فضلاً عمّا ورد فيه من ذمٍّ نبويٍّ يجعلُ القارئ لصفحات التاريخ مستريباً إزاء هذه الشخصيّة ومدى صلاحيتها لإقامة أمور الدين، وقد روى الحافظ المقدسيّ بإسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير أنّ أباه حدّثه: أنّه أتى النبيّ (صلى الله عليه وسلّم) وهو يحتجم فلما فرغ قال: «يا عبد الله، اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد»، فلما برزت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمدتُ إلى الدم فحسوتُه، فلمّا رجعتُ إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ما صنعت يا عبد الله؟»، قال: (جعلتُه في مكان ظننتُ أنه خافٍ على الناس)، قال: «فلعلك شربته؟!»، قلت: (نعم)، قال: «ومن أمرك أن تشرب الدم؟! ويلٌ لك من الناس وويلٌ للناس منك»، انظر: الأحاديث المختارة، ج9، ص308-309، رقم الحديث 267، قال المحقق دهيش: (إسناده صحيح)، ونقله الحافظ البوصيريّ في (إتحاف الخيرة المهرة، ج4، ص434، ح3884) نقلاً عن مسند أبي يعلى الموصلي، وقال: (هذا إسنادٌ حسنٌ). وكلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حقّه خيرُ شاهدٍ على طبيعة سلوكه المنحرف خلال الفتن التي أصابت الأمّة.
🔴 الأمر الثاني: أنّ الجهاد الحسينيّ كان مورداً للعناية الإلهيّة والاهتمام النبويّ، يتجلّى ذلك في إتيان الملائكة مراراً للنبي (صلى الله عليه وآله) وإخبارهم إيّاه بقتل الحسين صلوات الله عليه، بينما لم يُذكر خروج عبد الله بن الزبير بأيّ شيء يُشعر بالمدح، بل قد رُوي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه سيُلحد بالحرم رجلٌ من قريش لو أن ذنوبه توزن بذنوب الثقلين لرجحت، وهذا الخبر قد صحّحه بعض علماء العامّة، وعبدُ الله بن الزبير أحدُ أبرز مصاديق هذا الحديث، بل يكادُ يكون منحصراً فيه، وفي بعض طُرق الحديث حُدّد المُلحد في الحرم المكيّ باسم (عبد الله)، ولكنهم تكلّموا في أسانيدها.
🔴 الأمر الثالث: إذا قرأنا الخطاب الحسينيّ من المدينة إلى كربلاء نجدُه خطاباً إلهيّاً يُعبّر عن مبادئ دين الإسلام وأخلاقيّاته بوضوحٍ واستقامةٍ، فهو الذي لم يجبر أحداً على متابعته بل جعل أصحابه في حِلّ من أمره، ولم يبدأ القوم بالقتال، ولم يألُ جهداً في السعي لهداية القوم الضّالين بالنصيحة والموعظة الحسنة، بينما ابن الزبير قد هتك حُرمة البيت الحرام باستجارته فيه للقتال، وتسلّط على النّاس في مكّة بالأذى والإكراه، وغير ذلك مما هو مسطورٌ في سيرته.
🔴 الأمر الرابع: أنّ ما نزل بنساء آل النبيّ (صلى الله عليه وآله) كاشفٌ عن الأحقاد الأمويّة القرشيّة التي سبّبها الغيظ من جهاد أمير المؤمنين (عليه السّلام) لآبائهم وأجدادهم في صدر الإسلام وسفكه دماء رؤوس أهل الشرك بسيفه، بينما لم يشهد مقتل ابن الزبير تعرّضاً لأهله رغم شدّة سخطهم على قتله وصلبه في مكّة، ما يكشفُ عن الدّور العظيم لآل أبي طالب (عليه السلام) في إقامة الإسلام على أصوله، وسخافة تاريخ آل أبي بكر الذين لم يأبه لهم موتورو العرب وبني أمية، ولا طلبوا منهم ثأراً من ثارات معارك الإسلام الأولى رغم المزاعم الضخمة بشأن دور أبي بكر وعائلته في تاريخ الإسلام!
🔴 الأمر الخامس: أنّ محض الخروج على الظّلم ليس موجباً للقبول عند الله وأهل ولايته، بل إنّ الموجب للقبول هو رفض الظلّم انطلاقاً من أصول الإسلام ومبادئه: التوحيد، القرآن، السنّة النبويّة. فهذا ابن الزبير قد رفض يزيد وحكمه، ولكنّه لم يكن منطلقاً من المبادئ الإسلاميّة في قتاله، بل كان سعيه وجهده في طريق السّلطة والمال، وقد هلك كجيفةٍ، فما بكته سماءٌ ولا أرض، ولا ضجّت لمقتلته العالمون.
لقد اندثر ابن الزبير وذهب دمُه هدراً؛ لأنه سُفك في طريق طلب الدّنيا، بينما لا زال دم الحسين -صلوات الله عليه- يغلي ويفور في حرارةٍ تسري إلى قلوب المؤمنين، ويضخّ الحياة في روح الإسلام، لا زال هذا الدّم رافعاً لراية القُرآن، ومحامياً عن آثار النبوّة والإمامة، وسيبقى إلى أبد الدّهر ولو كره المشركون
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat