• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : سِفْرُ مَقَديشو.. أو خِطابٌ في جيبِ جُثّةٍ صوماليّة .
                          • الكاتب : ليث العبدويس .

سِفْرُ مَقَديشو.. أو خِطابٌ في جيبِ جُثّةٍ صوماليّة

 أكتُبُ إليكُم، سادَتي عَرَبَ العِرْقِ والجِنسيّة الأكارِم، وَمُسْلِمي الأسماءِ والهَويّة الأفاضِل، مِنْ كوخيَ المُتواضِعِ البَسيط الذي لا يَمِتُ لِشكلِ الأكواخِ بِصِلة، مِنْ خَيمَتيَ المُهَلهَلَةِ المُتداعيةِ التي تُشبِهُ كُلَّ شيءٍ إلّا الخيام، ولأتوخّى الدِقّة والموضوعيّة فَهيَ "حُفرَةٌ مُغَطّاة" أو" قَبرٌ للأحياء" تُذَكِرُني بِمراحيضِ الهواءِ الطَلْق كُلما دَلَفتُها هارِبّةً مِنْ وَهْجِ شَمسِ بِلادي الحارِقة او تَوارياً مِنْ أعيُنِ المُسَلّحينَ دائِبي الزياراتِ لِمُعَسكرِ النازِحينَ التَعِس، خَيمَةٌ صارَتْ مَهرَبي الوَحيدُ مُذْ غادَرتُ قَريَتي النائيةَ فِراراً مِنْ مَجاعَةٍ أكَلَتْ الأخضَرَ واليابِس وأطبَقَتْ على بَني الإنسانِ بِبراثِنِ الجَفافِ والجَدَبْ، وَهيَ على بؤسِها تُمَثِلُ تَرَفاً جادتْ بِها مُنظَّماتُ الإغاثَةِ الإنسانيّةِ عليَّ وَعلى أطفاليَ، وَلَعَلّي أغتَنِمُ الفُرْصَةَ لإُعَبّرَ عَنْ وافِرِ الامتنانِ وَعَظيمِ العِرفانِ لأولئِكَ القومِ الغُرَباء القادِمينَ مِنْ خَلفِ الصَحاري وأعالي البِحار مُخاطِرينَ بأرواحِهِم وحُرّياتِهِم لِيُعايشوا مأساتي وَيُداعِبوا أطفالي وَيُقَدّموا لَهُم ما جادَتْ بِهِ أيدي الكُرَماء، وَهُمْ – والحَقُّ يُقال – قَدْ بَدّدوا بِحُضورِهم وَبَساطَتِهِم وعَفويَتِهِم ما كُنتُم قَدْ مَلئتُمْ بِهِ رؤوسَنا مِنْ أوهامٍ وَزيف، فَلَم يُصادِروا صِغاري لِمَصلَحَةِ عِصاباتِ الإتجارِ بالأعضاءِ البَشَريّة المُزدَهِرة في الأرضِ البَعيدة، وانتُم الذين حَذرتُمونا مِنْ ضواري الغَربِ المُتوَحِشَةِ التي سَتنْتَزِعُ قَلبَ صَغيري لِتَزرَعَهُ في صَدرِ ثَريٍ "نَصراني" عَليلٍ مِنْ أوروبا، وَلو تَعلَمونَ كَمْ بَكيتُ حُزناً وأنا أتَخيّلُ قَلبَهُ الضَئيل يَنبِضُ في جَسَدِ "عِلجٍ" كافِر! كَما أنَهُم لَمْ يَفرِضوا صَليباً أو إنجيلاً مَعَ أكياسِ الدَقيقِ الشَحيحَةِ أو كؤوسِ الحَساء القَليلَة، وَلَمْ يُقيموا "أبريشيةً" أو مَعبَداً أو كَنيسَةً يُروّجونَ فيها لِدينِهِم، إنَهُم وبِجَزيلِ العِبارةِ خِلافَ ما صورتُموهُم لَنا، جازَفوا وَجَبَنتُم، وأقدَموا وأحجَمتُم، وَواصَلوا حيثُ تَوَقفتُم، شُهورٌ طِوالٌ وَهُم خَليّةُ نَحلٍ دائِبة، مُتفانينَ في تَخفيفِ مُعاناتِنا وآلامِنا، مُتبارينَ لِخِدمَتِنا والتَخفيفِ عَنْ كاهِلِنا، فَهذا يُعِدُّ الطَعامَ وذاكَ يُصلِحُ أنبوبَ المياهِ وَتِلكَ تُعاينُ المَرضى وَغيرُهُم يُفرِغونَ مؤونَة الأسبوع، كانوا بِحَقٍ خيرَ سلوىً وَعَزاءٍ لَنا وَسَطَ تَجاهُلِ إخوَتِنا وَبَني جَلدَتِنا، ثُمَّ خَبَتْ بارِقةُ الأمل وانطَفأتْ شَمعَةُ الرَجاء، وَغادَرَ هؤلاءِ النَفَرُ مُخيَمَنا ذاتَ صَباحٍ بِعَجالَةِ مَنْ يخشى أمراً مُدلَهِمّاً، قَبَلوا الصِغارَ قُبلاً خاطِفة، وَحَمَلوا خَفيفَ المَتاعِ، وَرَحَلوا، تَرَكوا مُخيَمَنا ليَحتَلّهُ ذوو الوُجوهِ العابِسَةِ مِنْ أمراءُ الحَربِ وزُعَماءُ الميليشياتِ المُتصارِعة، مِمَنْ يَحمِلونَ نفسَ أسمائِكُم – سادَتي – وَيَعتَنِقونَ ذاتَ دينِكُم، وَلَستُ بِحاجَةٍ لِسَردِ المَزيدِ، فالبَقيَّةُ مَعلومَة..

 
هَذا آخِرُ خِطابٍ أقوى على كِتابَتِه، فَلَقدْ بَلَغَ الجُهدُ مني كُلَّ مَبلَغ، فَقَدتُ صِغاري الثَلاثَةَ الواحِدَ تِلو الأخر جوعاً وَمَرَضاً مِنْ يومِ غَزتْ أرضَنا أسرابُ جَرادِكُم ، وَكَمْ طَلَبتُ الموتَ من حَرَسِ المُخَيّمِ مَظانّةً فَلمْ أحظَى بِه، قَتَلوني بِرَحمَتِهِم المُتأخِرة ألفَ مَرّة، كَمْ زَحَفتُ خارِج أطلالِ خيمَتي المُتهالِكة التي تَنتَصِبُ بِجوارِها شواهِد قُبورِ أطفالي الثلاثة لأُقَبّلَ أحذيَةَ الجُنودِ لِيَجودوا عَليَّ بِرصاصةٍ، دونَ جَدوى، وَكُلَّ ذَلِكَ حَصائِدُ نِفاقِكُم – سادَتي العربُ مِنْ أدعياء الإسلام –، أسلمتُموني لِمَصيرٍ لَمْ يَخطُرْ على بالِ ألدّ أعداءِ بِلادي المُبتًلاة، ولا أظُنُّ أنَّ بإمكانِ أَحَدِكُم – وَمهما استَطالَ بِهِ العُمُرُ وامتدّتْ السُنونُ أنْ يُزيحَ عَنْ كاهِلِهِ خَطيئَةَ الخُذلان، خُذلانُ شَعبٍ مَسحوقٍ تَلاحَقَتْ عليهِ النَكباتُ والمَصائِبُ واحاطَتْهُ المِحَنُ والرَزايا، خَطيئَةٌ سَتُلاحِقُهُ وَذُرّيَتَهُ حتى أبَدِ الآبِدين أو يَرِثَ الله الأرضَ وَمَنْ عَليها.
 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=9249
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 09 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 16