الحرفي العراقي دائم الإبداع؛ فكل مهنة يمارسها يعطيها كامل حقها لينجز عملا لائقا يفتخر به من يشاهده متمثلا بالحديث الشريف: (رحم الله امرءا عمل عملا فأتقنه) وهذه المهنة خاماتها متوفرة بكثرة، فقد وهبَ اللهُ الجليل الوطن وحباه بالعمة (النخلة) وهي كلها خير وبركة، وقد ذكرها الجليل بسورة مريم في القرآن الكريم: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا). والنخلة كلها فائدة بتمرها ومشتقاته الطبيعية، وجذعها وسعفها وخوصها فيها منافع للناس لا تحصى، وكلامنا حصرا عن جريد النخلة، حيث يعمل منه الحرفي البارع (السررچي) أشكال باهرة، فعندما تراه متربعا على الحصير وأمامه أكداس من جريد النخل الأخضر، وعدته بسيطة سكين (تكريب) حادة و(ساطور) حاد أيضا، ومطرقة من الخشب ومجموعة من (المثاقب – السنب الحديدية) يتناول الجريدة وقد نظفها من الخوص، ويقوم بتثقيبها ثقوبا متقاربة بمسافات مضبوطة لا تقبل الخطأ، فهو مهندس فطري بارع شهادته تجربته وأطروحته نتاجاته المتعددة الأشكال؛ فلا مسطرة ولا (فيته) قياس.
أنامله وعيناه بارعتان في الصنعة؛ فهنا الأعواد المثقبة، وهناك أعواد رفيعة للتشبيك، والنتاج بديع من الأقفاص للبلابل، وطيور الزينة، والحمام، والدجاج، والأقفاص الصيادة للبلابل، وهي مميزة.. وأيضا صنعة الكراسي والأرائك و(المساطب) تراها منتشرة في المقاهي وبعض البيوت وهي تسر الناظر، موزعة بين أشجار الحدائق، كذلك صناعة الأسرّة للنوم، وهنا أدخل بها المهندس الفطري احتياجا مهما لأمن العائلة حيث جعل وسط السرير مشبكا متقنا يقوم مقام (الخزنة، القاصة) لحفظ (المخشلات) والملابس الثمينة؛ كـ(العباءة، والصاية، والچاكيت، وملابس العروس) وما زاد من الاستعمال، فكان مكانا أمينا ينام فوقه الزوجان وأطفالهم فترى الأسرة موزعة في باحة الدار، تفرش عصرا ليرتاح فوقها الأب المتعب مع زوجته، وهكذا كان أمان الأمس راحة وطمأنينة وبساطة وصحة وعافية، ولا ننسى عمل السررچي للعمّاريات التي يتخللها العاقول، ويرش بالماء وتوضع على النوافذ والأبواب لتبريد البيوت، وكذلك (للسوابيط) في الحدائق والبساتين... هكذا كنا بالأمس بساطة ودعة وأمان وإيمان صادق حقيقي ببركة آل البيت الأطهار... والحمد لله على نعمائه.
|