• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : (عذابات صعصعة )2 .
                          • الكاتب : وفاء الطويل .

(عذابات صعصعة )2


 يتصدر الرثاء فنون الشعر العربي، فهو كان وما زال أحد أبرز أغراض الشعر من حيث صدق التجربة وحرارة التعبير الوجداني ودقة التصوير، ورغم التحولات التي مر بها شعر الرثاء على مر العصور حتى يومنا الحاضر ظل محافظًا على طابعه الخاص وخطابه المميز. 
ويحفل تاريخ الرثاء بمخزون تراثي ضخم من المراثي التي تعكس الملامح الاجتماعية والدينية للشعوب العربية. 
ويبقى رثاء رسول الله صلى الله عليه وآله الأطهار والأئمة والمعصومين عليهم السلام الغرض الأسمى والتيار المتميز الذي يحظى بعناية خاصة في تاريخ الشعر الولائي. 
حيث بلغنا عنهم سلام الله عليهم الحث على كتابة الشعر فيهم 
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): من قال فينا بيت شعر بنى الله تعالى له بيتًا في الجنة (1) 
وعنه (عليه السلام): ما قال فينا قائل بيتًا من الشعر حتى يؤيد بروح القدس (2) 
والرثاء في النص الشعري الذي سنتناوله بهذا العدد له خصوصيته 
فهو ينسب لبطل تحدث الكثير من المؤرخين عن شجاعته وفصاحته، وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، أطلق عليه الإمام عليه السلام لقب "الخطيب الشحشح" 
إنه (صعصعة بن صوحان العبدي) وقد تطرقنا لترجمته في عدد سابق 
وهو أحد حواريي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) 
حيث كان يصف لوعته بفقد أمير المؤمنين عليه السلام، ويرثيه بنص شعري غاية في الألم  
ومازال النص يحتفظ بحرارة التجربة والصدق الوجداني وجمال المبنى الشعري. 
"عذابات صعصعة" 
ينتمي النص للشعر الرثائي، من بحر الوافر، القافية متواترة، حرف الروي الياء المنصوب  
أَلا مَنْ لِي بِأُنسِكَ يَا أُخَيَّا *** وَمَن لِي أن أَبُثَّك مَا لَدَيَّا 
بدأ الشاعر النص بتساؤل مجازي، واستخدم مفردات عميقة جدًا منتقاة، تعبر عن الهواجس التي تسكن في وجدانه وتجسد الصورة المقاربة وتعبر عن تأثر القلب بالوداع الأخير لأمير المؤمنين عليه السلام، مع استحالة الأنس بعده أو نسيانه وإنما يريد أن يبث له شجونه 
طَوَتْكَ خُطُوبُ دَهرٍ قَد تَوَالى *** لِذاك خُطُوبُهُ نَشْرًا وَطَيَّا 
خطوب جمع خطب وهو الشأن أو الأمر، صغر أو عظم، فنقول: هذا خطب جليل، وخطب يسير. 
صور خطوب الدهر التي توالت على أمير المؤمنين عليه السلام طوت عمره الشريف، بقت آثارها نشرًا وطيًّا. 
والنَّشْر: الريح الطيبة مثل ريح المسك 
مفردات سلسة، سهلة، متماسكة، ومتوافقة، والإيقاع الداخلي والمحسنات البديعية أضفت على النص جمالًا. 
نلاحظ جمالية تكرار الأجراس، جرس الياء بالبيت الأول وجرس الطاء بالبيت الثاني، كما استخدم جمالية الطباق (النشر والطي) أيضا أسلوب اللف والنشر 
ذكر الخطوب على سبيل التفصيل، ثم ذكر النشر، فقدم خطوب الدنيا التي عانى منها أمير المؤمنين عليه السلام، وخص النشر لإيضاح فضله ومزيته وأنه الأثر الباقي عند الله وعند الناس بعد الرحيل عن هذه الدنيا. 
فَلَوْ نَشَرَتْ قِوَاكَ لِيَ المنايا *** شَكَوْتُ إليكَ ما صَنَعَتْ إليَّا 
نلاحظ أنه استخدم (لو) التي تفيد التعليق في الماضي أو المستقبل، تستعمل في الامتناع، أي: امتناع الجواب لامتناع الشرط، فهو يستبق معنى استحالة تحقق أمنيته التي لا تتحقق أبدًا. 
بَكَيتُكَ يَا عليُّ بِدُرِّ عَيني *** فَلَمْ يُغنِ البُكاءُ عَلَيكَ شَيَّا 
نلاحظ استمرار الشاعر بأسلوب النداء الذي لا يخلو من دلالة شعور الشاعر بسطوة المنيّة التي تخطف الأحياء على حين غرة، وشبه انهمار الدمع بالدر، بيد أن كثرة البكاء لم تعد له شيئًا، ولعله تمنى أن يكون فداء لأمير المؤمنين عليه السلام. 
كَفَى حُزنًا بِدَفنِكَ ثَمَّ إنِّي *** نَفَضْتُ تُرابَ قَبرِكَ مِن يَدَيَّا 
وهنا يظهر الشاعر الوجه المؤلم للموت فهو المفرق بين الأحبة والأهل والأصدقاء، والمغيب لصورهم، وحالة اليأس من حضورهم. 
ونجد التراكيب الإيقاعية واللفظية تجسد هذا المعنى وتشارك في قوته ومتانته. 
وكانت في حَياتِكَ لي عِظاتٌ *** وأنتَ اليَومَ أوعَظُ مِنكَ حَيَّا 
هنا يجسد قول النبي صلى الله عليه وآله (كفى بالموت واعظًا) 
استجابة لحالة الحزن الأسى. 
تميز هذا البيت بجرسي (الياء والتاء) واستخدام الشاعر جرسًا بعينه أو مجموعة من الأجراس له دلالة وينعكس ذلك على شعور المتلقي 
فَيا أسَفًا عَلَيكَ وَطولَ شوقي *** ألا لَو أنّ ذَلِكَ رَدَّ شيَّا 
ولو عدنا لنتأمل استخدام الشاعر لـ (لو) للمرة الثانية التي أثرت الدلالة  
ليطفو الحزن الذي غرق فيه الشاعر على وجه النص، ولتزيد الخطاب ائتلافًا ونسقًا.  
أرى أن صعصعة رضوان الله عليه حقق نجاحا باهرا على صعيد الرؤية والبناء الفني للقصيدة. 
من قلب دهشة الفاجعة ولدت قصيدته المفعمة بالعمق، الموشاة بالصور والدلالة والرؤى التي لا زال المتلقي يشعر بضراوة حالة الفقد والألم التي كانت تفترسه حتى الآن. 
 
 
(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 1 / 7 / 1 و ح 2. 
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 1 / 7 / 1 و ح 2. 
(3) تحف العقول




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=201901
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 04 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 04 / 20