بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من المحرّم سنة 61 للهجرة (يوم الجمعة 9 تشرين أوّل 680 م) بقِي عمر بن سعد مع جيشه في كربلاء إلى الزّوال من اليوم الحادي عشر، ثمّ أمر بالخروج إلى الكوفة ومعه السبايا من نساء أهل البيت خاصّة، إذ أنّ القبائل والعشائر عملت على استنقاذ نسائها اللّواتي كنّ في عداد الرّكب الحسيني.
قال المحدّث الشيخ عباس القمّي قدّس سرّه في كتابه (نفَس المهموم): «ثمّ رحل [ابن سعد] بمَن تخلّف من عيال الحسين عليه السلام، وحمل نساءه صلوات الله عليه على أحلاس أقتاب الجمال بغير وِطاء، مكشّفات الوجوه بين الأعداء وهنّ ودائع الأنبياء، وساقوهنّ كما يُساق سبيُ الترك والروم في أشد المصائب والهموم.
وفي (كامل البهائي) للشيخ عماد الدين الطبري: أنّ حُرَمَ رسول الله كنّ عشرين نسوة، وكان لزين العابدين عليه السلام في ذلك اليوم اثنان وعشرون سنة، ولمحمد الباقر عليه السلام أربع، وكانا كلاهما في كربلاء فحفظهما الله تعالى».
قال الشيخ إبراهيم الكفعمي في (المصباح) والشيخ البهائي في (توضيح المقاصد) وغيرهما أنّ دخول السّبايا إلى دمشق كان في غرّة صفر، وفي (كامل البهائي) أنّه كان يوم الأربعاء السادس عشر من ربيع الأوّل سنة 61 للهجرة.
قال السيد ابن طاوس قدس سره في (اللّهوف): وسار القوم برأس الحسين عليه السلام والأُسراء من رجاله، فلمّا قربوا من دمشق دَنَت أمّ كلثوم من شمر وكان من جملتهم، فقالت له: لي إليك حاجة. فقال: ما حاجتك؟ قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النّظّارة [النظّارة: القوم ينظرون إلى الشيء]، وتقدَّمْ إليهم أن يُخرِجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحوّنا عنها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال. فَأَمَرَ في جواب سؤالها أن تُجعَل الرؤوس على الرّماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً، وسلك بهم بين النّظّارة على تلك الصّفة حتى أتى بهم باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السّبي.
وفي (أمالي) الصّدوق، أنّ الرأس الشريف نُصِب على باب مسجدِ دمشق.
وفي (الكامل البهائي) عن سهل بن سعد -أدرك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسمعَ حديثه، وكان في الشّام يومَ وصلها موكب السبايا فشاهدَ مظاهر الفرح- أنّه قال: واعجباً يُهدى رأس الحسين عليه السلام والناس يفرحون. [ثمّ قال]: من أيّ بابٍ يدخل؟ فأشاروا إلى بابٍ يُقال له باب السّاعات ".." [أضاف سهل]: ورأيت الرّؤوس على الرماح ويقدمهم رأسُ عبّاس بن عليّ عليهما السلام. ورأسُ الإمام عليه السلام كان وراءَ الرؤوس أمامَ المخدّرات، وللرّأس الشريف مهابةٌ عظيمة ويُشرق منه النور، بِلِحيةٍ مدوّرة قد خالطَها الشّيبُ وقد خُضبت بالوسمة، ".." مُتبسِماً إلى السّماء شاخصاً ببَصره إلى نحو الأُفُق، والرّيحُ تلعبُ بلحيتِه يميناً وشمالاً كأنّه أميرُ المؤمنين.
ثم بعدما أقيمت مراسم الفرح والابتهاج من قبل الأمويين أُذِن للسبايا والأطفال ومعهم الإمام زين العابدين عليه السّلام بدخول مجلس يزيد، ثم أسكنوهم بعد ذلك في خربة شمالي شرق المسجد الأموي عند باب الفراديس، فباتوا فيها عدة أسابيع قبل أن ينقلهم إلى قصره ويعودوا إلى مدينة جدّهم المنوّرة.
أما رأس الحسين عليه السّلام فقد نُصب على باب مسجد دمشق فترة من الزمن ثم أعاده يزيد إلى قصره. وقد ذُكِر في مكان دفنه روايات متعددة وأصح الرويات بأن الرأس أعيد إلى الجسد في كربلاء، ولكنّ بقية الرؤوس، وبعدما عُلِّقت على أبواب دمشق أياماً، أعيدت إلى مقبرة باب الصغير ودفنت فيها.
قال السيد محسن الامين - قدس سره - في أعيان الشيعة ج1 ص 627 :
" مشهد رؤوس العباس وعلي الأكبر وحبيب بن مظاهر بدمشق رأيت بعد سنة 1321 في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهدا وضع فوق بابه صخرة كتب عليها ما صورته : هذا مدفن رأس العباس بن علي ورأس علي بن الحسين الأكبر ورأس حبيب بن مظاهر ثم أنه بعد ذلك بسنين هدم هذا المشهد وأعيد بناؤه وأزيلت هذه الصخرة وبني ضريح داخل المشهد ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء ، ولكن الحقيقة أنه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المقدم ذكرها بحسب ما كان موضوعا على بابه كما مر . وهذا المشهد :الظن قوي بصحة نسبته لأن الرؤوس الشريفة بعد حملها إلى دمشق والطواف بها وانتهاء غرض يزيد من إظهار الغلبة والتنكيل بأهلها والتشفي لا بد أن تدفن في إحدى المقابر فدفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة باب الصغير وحفظ محل دفنها والله أعلم ."
ونختم بهذه الحادثة التي ينقلها الدكتور لبيب بيضون في موسوعة كربلاء ج2 ص 626 قال :
"روى لي المرحوم الحاج حسن أبو ياسر الخياط ما يُؤيّد وجود رؤوس الشهداء جميعاً في هذا المشهد العظيم قال : إجتمعت بالسيد سليم مرتضى جد السيد سليم مرتضى متولي مقامات الستات اليوم فقصّ علي هذه القصة ، قال :
كنّا نجدد مقامات أهل البيت عليهم السلام في الستات ، ولما أردت التعمير مقام رؤوس الشهداء عليهم السلام ـ أتيت بمعلم مسيحي ينحت الاحجار لعمل سور جديد حول المقام . وكان العامل يأتي صباحاً باكراً ، أفتح له المقام ثم أتركه وأذهب الى البيت .
ثم أرجع العصر لأنظر ما أنجزه من عمل . وفي يوم من الأيام جئت فوجدت المسيحي قد جمع أغراضه في السلة يُريد إنهاء عمله .!
قلتُ: ما بك ؟
قال : إذا أنا أردت الاستمرار في العمل عندكم ، أخاف أن أترك ديني وأصير مسلما !
قلتُ: لماذا ؟
قال : البارحة بينما كنت أحرر التراب حول مقام الرؤوس ، لأاضع الاحجار الجديدة ، انفتحت أمامي ثغرة ، نظرتُ منها فإذا بي أرى غرفة تحت الأرض فيها عدة رؤوس ، بعضها أمرد ، وبعضها بلحية ، وبعضها مغمض عينيه ، وأحدها مُعصّب رأسه .
ثم جاء السيد سليم [ ت 1349 هـ = 1931 م ]ٍونظر من الكوة ، فرأى الرؤوس وعددهم ستة عشر رأساً مصفوفة بشكل دائري وكأنها مدفونة لساعتها ، كل رأس منها ما زال بشحمه ولحمه لم يصبه أذى أو بِلى ، والدماء ظاهرة عليه .. ثم سدّ المسيحي الثغرة ورحل .
والظاهر أنّ العلامة السيد محسن الامين الذي عاصر تلك الحادثة ، لم يكن حاضرا في دمشق في ذلك الوقت ، بل مسافراً الى لبنان ، وكم كنتُ متمنياً لو رأى الرؤوس بعينه ووثّق تلك الواقعة المهمة . " انتهـى
أقول: من القوي جدا أن رؤوس بني هاشم الشريفة قد دفنت في الديار الشامية في مقبرة باب الصغير ، وليس هناك ما يدل على أن تلك الرؤوس ما عدا رأس الامام الحسين قد أعيدت الى الأجساد الطاهرة وعليه فلا مانع أن الله تعالى حبى ذلك المكان بأن حلت في ربوعه رؤوس الشهداء من بني هاشم . |