عن دار الروسم ، صدر المؤلف الثامن للكاتب والناقد والمترجم رياض عبد الواحد بعنوان : (اللؤلؤة والمسبار ) - قراءات حرة في قصائد ومجموعات شعرية - وبواقع 223 صفحة من القطع المتوسط . ولقد زحفت بوصلة الناقد لتسلط اضواءها على مجموعة من الشعراء هم : الشاعر فوزي السعد ومحمد صالح عبد الرضا وجواد الحطاب وعلي الامارة وطالب عبد العزيز ومنذر عبد الحر وعلي نوير وهاشم تايه وكاظم اللايذ وعزيز داخل وصدام فهد الاسدي وحبيب السامر وكريم جخيور وبلقيس خالد وكاظم مزهر واسعد الجبوري وعبد الزهرة زكي ومجبل المالكي ونفيسة التريكي .
لعب الناقد رياض عبد الواحد على تضادية العنونة ، ليجعل احالات التفسير موقوفة برؤية القارئ ، ففي الوقت الذي يشهر بعبارة (مسبار) موجه الى الفضاء ، تقبع اللؤلؤة في مجاهل ذلك البحر الغريب الذي ينتظر الطواشين الذين لفتهم مفاجات البحر ، فغابوا ، وراحوا يسهمون في البعيد لتنتشي تلك اللؤلؤة بوحدتها المتالقة . ولربما ارسل الناقد رسالة الى ان معنى (المسبار) يتحدد بكشف الرؤى والتطلعات والعالم الآخر للشعراء الذين شملتهم كشافات مسباره ، فراح يناور بدراسة ورصد غّلب فيه التفسير النفسي وضرب على مجموعة استنتاجات واشتغالات قد تشفع لحيرة العنونة التي ارتضاها وهو يوزعها على امور مهمة جدا في طبيعة توجهات تسعة عشر شاعرا وشاعرة .
كانت استنتاجات العنونة الفرعية للدراسة موفقة تدخل في اطار الافكار البارعة ، لاسيما والقارئ اللبيب يدرك حجم التركيز النقدي الذي اضطلع به الناقد الذي وظف انتقالات عديدة لعل ابرزها تحدد بتجنيد الطفولة والماضي الذي يعني الشيء الكبير لذات وذاكرة الشاعر ، ومعالجة اللاوعي الذي ينتقل من دائرة الشاعر الى وعي الامة الجمعي ، واعتمد الشكل الانتقالي والشكل التكتيكي في قصائد بعض الشعراء الذين افرد لهم اكثر من نص . ولعل الناقد قد كسر تقليدية وطقوس الكتابة بذكاء استثنائي ، وهو يجيب عن سؤال راهن ومشروع هو : لماذا لم يضع الناقد مقدمة او مستهلا لدراسته ؟ لكن من يقرا الكتاب يدرك ولأول وهلة ان فنية المباشرة التي اعتمدها تمتلك ناصية الجواب الشافي ، فهو يدخل فورا الى عنوان جاذب صادم ويحاول من خلال كشافاته ان يجعل معلومته شفيعا لمقدمته التي ضمنها من خلال الدراسة فهو يقول : ( تستدعي اية قراءة لأي نص سبر اغواره والانفتاح على موجهات قراءته التي تفتح بنحو ، او بآخر مغاليق المسكوت عنه ، والمحاط باللغزية ، لهذا ينبغي الدخول اجرائيا لفحص مقتربات ذلك النص ضمن ما هو دلالي ) . من هنا يلقي ازميله كاسرا بذلك جليد التقليد ، وممتطيا مسبارا يمر على اقانيم مفتوحة وعصية في آن واحد ، ولكنه يجعلها ضمن دلالة ونشيد الوصول الى دائرة التلقي بعدما يزيح عنها غمامات لطالما اثقلتها فجعلتها بمعزل عن دائرة القارئ . لذلك يضع جملة من عناوين تسبق نشيد الشاعر ، ولكن بطريقة التورية احيانا من مثل : فوزي السعد تعاضد الجزئي والكلي / محمد صالح عبد الرضا جماليات هندسة التكرار / جواد الحطاب بنية التماهي والخيال المقتصد .. الخ من مشجر العنونة الذي يسهم بنجاح مشروع الدراسة التي لم تتحدد بأحادية في التوجه النقدي ، بل اعتمدت التشظي الايجابي سبيلا لمشروع دلل على عمق الانعطافات الانزياحية التي تضمنتها قصائد المحتفى بهم في الدراسة .
وهكذا يسير مسبار الناقد مارا بعوالم ومضامير منطقية فلسفية مشفوعة بالعود الابدي للشاعر / الخروج من دائرة الانغلاق بعيدا عن تداعيات الوجوم والدخول بالحركية دون الثبوت بعد ان يجعل التكرار متجددا باستشرافات شعرية يعتمدها الشاعر / عملية الانقسام الانوي للذات الموضوعية وما يصاحبها من خيال خصب / نظرية المكان واثرها في ذات الشاعر / والموت كنتيجة حتمية لها العلاقة بنظرية التحدي والاستجابة وهو ما يشغل هم الشاعر بانتقالاته وطوافاته المتنوعة / التوق الى الحرية والتحرر في زمن الانغلاق والتهميش / تجليات الذاكرة واللغز والترميز وعلاقتهما بالزمن واستشرافات المعنى والايغال باللاشعور / تأجيج كرات الذاكرة واتقادها او انطفائها / الخطاب الشعري كنشيد انصهاري يدخل مضمار التلقي / عطف ونبش الذاكرة الانفعالية للشاعر والعودة الى ترسيخ المعنى التفسيري النفسي بين الانا والاخر / العود المنطقي القياسي في ثنائية الضد / انزياحات بنية الاسترجاع الخارجي / الوجوه كإشارات وأمارات تدلل على استشرافات الشاعر / تشكيل الجسد في تداعيات منظومة الوعي / الصمت كلغة ثانية يستخدمها الشاعر في ادواته / عودة الى الذات الموضوعية والانا الاولى لتداعيات الشاعر واثرها في مسح الطوافات والهجرات التي تمر بها مملكة الشاعر / مجموعة رصديات مركزة اخرى يحاول الناقد توظيفها في مشروع النص النقدي الذي ينتقل من دائرة السياحة الشعرية الى عملية الرصد التأويلي المشفوع بأشعار مخصوصة لعلها اثرت بروح الناقد فجعلها محجة لمسباره الذي كشف غمامات كثيرة مرة ، وبشر بولادة مشروع ادبي شعري لشاعر ما مرة ثانية .
في رصده للشاعر فوزي السعد يقول الناقد : ( كلما كان الانسان قريبا من الماء لان طبعه واصبح اكثر عاطفة وحياء وطبع عليه طابع التآلف والمحبة وحب الآخرين والتضحية في سبيلهم اضافة الى نبله وصدق مواقفه . ونقصد بالكائن تحديدا الذات ) :
منذ ولادتنا
نحن رضعنا الخجل البصري المتوارث
في لبن الاثداء
طرقات مدينتنا تخجل
لو لاح لها مشهد اغراء
وشبابيك منازلنا
الشباك يطأطئ راسه
من خجل حين يطل على
نافذة الجيران الحسناء
حتى اسماك شواطئنا تخجل
لو يكشف عنها الصياد
من خجل تستر عورتها
بشباك الصيد
ولا تخشى ان تُصطاد
اعترف ان ومضة كهذه لا تشفع لدراسة مستفيضة ومختزلة مكثفة انبرى بها الناقد لتصبح مبتورة كونها تحمل تشظيات وتوزعات مراصدها العديد من الموضوعات والانزياحات التي تتخلل النصوص ، الامر الذي شغلني لأعرف ان لجنة نشر مشروع الكتاب قد نحت العديد من الموضوعات التي وظفها الناقد ، ولكنها لم تتضمن صفحات الكتاب كمنجز قائم . وهو ذات الامر الذي يشعرنا ايضا بتعمد الاقتضاب على الرغم من الجهد التحليلي الكبير الذي اعتمده الكاتب ، الذي تنوع بمراصده وومضاته التي اخذت قياسات متفاوتة بين شريحة من الشعراء اختلفت في طبيعة توجهاتها الشعرية ومؤثراتها الثقافية وقناعتها الاخرى . الامر الذي حرضني لان اتصل بالناقد نفسه واسأله ذات السؤال الذي يحتمل خلاصة نص الدراسة ، ويؤلف لها نشيدا مكللا لنزعة الناقد في هذا المشروع الذي اتمنى وغيري ان يحقق مراده في احتواء بقية الاسماء التي تضمنها ، فما كان من الناقد الا ان ارسل لي هذا الايضاح :
يعلم جنابكم الكريم ان الكتابة بحسب ديسوسير هي لغة ثانية ، بمعنى احتياجها الدائم لعملية مرجعة الافكار المشكلة للبناتها الاساسية ، لهذه لا يمكن القول بكمال المنجز مهما حاولنا ، بيد ان هذا لا يمنع من القول اننا لامسنا مقتربات ما نطمح الى الوصول اليه حيال المنجز الذي تناولناه ويبقى للمتلقي رايا اخر في استيعاب النصوص التي تناولناها ، او تقييم الجهد النقدي الذي بذلناه ، وفي الحالتين يبقى ديدننا النظر الى الافق الابعد لأي نص . |