انه لمن غير الممكن ان تقرأ قصيدة النثر الجديدة بممعزل عن التراكم المعرفي والفني الذي خلفته خلال عقدين مهمين من الزمن/ أعني ما رسخته من اشكال ومضامين لافتة للنظر وبحاجة دائمة الى الدراسة والبحث.. ومن البديهي ايضا ان ننظر دائما الى تجاربها العديدة والمتنوعة بمنظار يتجرد من المعيارية التي تأخذ النصوص الى منطقة افقية غير مسوغة وغير مجدية ذلك ان التنوع الذي أفرزته التجربة الجديدة في قصيدة النثر جديربأن ينظر له الآن باهتمام بالغ. ما يدفعنا الى هذا القول هو الانطباع الذي تشكله (قصائد مخططة) المجموعة الشعرية الاولى للشاعر عبد الحسين بريسم/ بغداد/ دار الشؤون الثقافية 2001 بدءا من العنوان فأن الشاعر يحاول ان يضع تكوينا صوريا لقصائده راسما لها خطوطا وهمية ربما لتحفيز القارئ ودفعه الى البحث عن اهمية تلك الخطوط التي تمثل استعارة تشكيلية تبحث عن مقترب لعلاقة خارجية تفترض العالم ورقة بيضاء والمتن (النصوص) عبارة عن خطوط تشكل النسيج الشعري لهذا العالم. هذه الفكرة تمثل استجابة حسية لوحشة شاسعة لا يمكن ملأها وفق تصور الشاعر ووعيه الا من خلال النصوص (الخطوط) او العلاقة التي افنتحت على الرسم منذ الموجه القرائي كإختيار مقصود يشكل الملامح الأولية لصورة النصوص. حيث يتبادر الى ذهن القارئ مدى الجدوى التي يمثلها التجاور الفني بين الكتابة لفظا/ والخطوط (التشكيل) تقنية مستقلة لا يشتركان معا الا من خلال المغزى الذي يبثه كل منهما..
وعلى ضوء ما تقدم يمكننا عد النصوص في هذه المجموعة على انها اعادة للموجة او ترجمة للفكرة التي انبثقت النصوص على اساسها وهي قصيدة التشكيل بغية تحقيق اكبر قدر من الانزياح على مستوى المحتوى وهي صفة تاد تكون مشتركة في اغلب النصوص تدفعها الى منطقة جمالية ليس من السهل التعامل معها على اساس التوتر في العبارة الواحدة (الصفة الثمانينية في قصيدة النثر) بل يجب ان ينظر لها على اساس استفادتها من الانفتاح على تقنيات فنية مستعارة بوصفها جزءا من استراتيجية الشاعر في التجريب:
إحداهن فقدت ذراعيها في غارة جوية
والآخر فقد ساقيه في لغم أرضي
ومع ذلفك يتبادلان قبلا طويلةص9
يتاكد لدينا هنا ان الاستفادة من التشكيل يمكن ان يمنح النص الثدرة على استدراج المفارقة كونها جزءا من التحرر من السرد الذي يلازم المفارقة بل ويشكل عنصر تحققها حيث يكون من الممكن جدا ربط المفارقة بسياق المشهد وهكذا.. فالذراع المقطوعة بفعل من الاعلى (الطائرة) والساق المقطوعة بفعل من الاسفل (اللغم) تمثلان الاشارة المروعة لمخلفات الحرب. ومشهد الاشلاء هذا لا تفضه سوى القبلات كونها مفارقة لا تضع معنى محددا بقدر ما تجترحه من افاضة للشعور الانساني الذي يحيل الى الابدية والذي يشير الى دقة التقاط تكوينات المشهد الذي يتشكل في ذاكرة الشاعر. يقول ميرهوف: المظاهر المختلفة للابدية تمتلك اساسا حقيقيا وتجريبيا. انها تقف على ارض حقيقية مفادها ان لا شيء في التجربة الانسانية ينسى ابدا. لاصوت لا اثر الخ..
كذلك يفعل الشاعر في نصوص اخرى مثل/ عائلة المستقبل/ الوقوف على الاطلال/ ديون سابقة.. اذ ان الكتابة/ اللفظ تتزامن بناء على التكوينات التي اشرنا بها وكأن الشاعر هنا يصر على ان البوح في تدوين ما يمكن التقاطه من الواقعة لا يمنع من إستخدامها لهذه التقنية التشكيلية التي تضيف للنصوص بعدا تجريبيا وجماليا يجتهد في تجسيد تنوع الخطاب الشعري:
وقف على الوطن
وهو مشبع بالحنين
وصاح –يا وطن-
فكان صوته غربة
ص17
الكتابة هنا تعمل على خلق مكونات لا تتحدد بمدى الاستجابة لموضوعة ما بل تتعداها الى ثيمات متعددة في النص الواحد.. اذ يتمثل الاختراق في العبارة التي تشير الى المكان دون ان تسميه كما في المقطع اعلاه. ذلك ان الوطن المكان يستجيب هنا لدلالة الزمن/ حالة اشباع بالحنين فيتحول المكان عندئذ الى ناطق عاقل يستجيب هو الآخر ولكنه لا يتحدث فيتجسد صوته (غربة) وهكذا. ان هذه النصوص تؤكد مدى استفادة قصيدة النثر التسعينية من مجاورتها لأنماط وتقنيات متعددة من شتى الاجناس والفنون مما يجعل منها نصا رصينا ومتجددا دائما..
|