الحزب الديمقراطي الكردستاني خلال وبعد المؤتمر الثامن ، ولماذا أطلقت تسمية [ حزب البارزاني ] عليه ..؟!
تطورات ماقبل المؤتمر الثامن :
منذ بدايات تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان فإنه كان يعاني من حالة عدم الوفاق والتجانس ، بل كان فيه الخلاف والتناقض بين قياديه على الصعيد الفكري والثقافي والسياسي ، إذْ كانت تنشط فيه ثلاثة تيارات بارزة :
التيار الأول : التيار اليساري الذي كان يمثله أحد المؤسسين للحزب ، وهو المحامي حمزة عبدالله .
التيار الثاني : التيار القومي الثقافي وكان يمثله المحامي والكاتب الكردي المعروف المرحوم ابراهيم أحمد وصهره جلال الطالباني ورفاقهم ، علما إن جلال الطالباني يميل أيضا الى اليسارية في أفكاره .
التيار الثالث : التيار القومي العام وكان يمثله مصطفى البارزاني . كان التيار الثالث أقوى وأكثر شعبية في إقليم كردستان . أيضا كان ضمن هذا التيار الكثير من الشخصيات الثقافية التي لم تحبِّذ العمل مع التيارين الأول والثاني .
في عام [ 1964 ] وقع الإنشقاق الأول في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، بخاصة بين غالبية أعضاء مكتبه السياسي بقيادة سكرتيره يومذاك إبراهيم أحمد وجلال الطالباني ، وبين الرئيس الراحل مصطفى البارزاني .
وقد علَّل المنشقون أسباب إنشقاقهم في سوء الإدارة والعشائرية في الحزب ، وفي كيفية إدارته . خلال الإنشقاق إتصل جلال الطالباني بالنظام الملكي الإيراني السابق . في البداية تم إستقبالهم وأقام لهم نظام الشاه المخلوع معسكرا في مدينة همدان الإيرانية ، لكن لما لاحظ نظام الشاه إن شعبية الرئيس مصطفى البارزاني هي الأقوى والأوسع إنتشارا بين الكرد أهمل جلال الطالباني وجماعته ونصحهم بأن يحاولوا التفاهم والوئام مع الرئيس مصطفى البارزاني .
في هذا الصدد يروى أيضا بأن نظام الشاه الايراني توسط لرأب الصدع والتصالح بين الرئيس البارزاني ، وبين إبراهيم أحمد وجلال الطالباني ، فتمت المصالحة بينهما على أيِّ حال ، لكن كان التصالح مؤقتا ، إذْ قد بقي الجمر ملتهبا تحت الرماد كما دَلَّت الأحدات والتطورات السياسية بصورة عملية فيما بعد . الدليل على ذلك هو حدوث الإنشقاق الثاني عام [ 1966 ] بينهما . لقد كان هذا الإنشقاق أقوى وأكثر عمقا وهوَّة من الإنشقاق الأول .
أما أسباب الإنشقاق فهي نفس الأسباب التي ذكرناها آنفا ، مع الإضافة إن الصراع على السلطة كان العامل الآخر والوجه الآخر للصراع بينهم . وقد عرف الانشقاق الثاني ب[ إنشقاق عام 66 ] ، وتم إطلاق تسمية [ الجلاليين ] على المنشقين من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني ، وذلك نسبة الى جلال الطالباني ، بالمقابل فإن المنشقين أطلقوا تسمية [ الملاليين ] على أتباع الحزب الديمقراطي الكردستاني ، وذلك نسبة الى رئيسه السابق الملا مصطفى البارزاني .
لقد إرتكب المنشقون في الانشقاق الثاني خطأً فادحا كما الإنشقاق الأول ، وهو إلتحاقهم بالحكومة العراقية وقتها ، ثم الأكثر خطأً وسلبية هو إستلامهم السلاح والأموال لمحاربة خصمهم الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه مصطفى البارزاني الذي كان يقود الثورة الكردية يومذاك في إقليم كردستان . بسبب ذلك إندلعت بينهم مصادمات ومعارك دموية ، لكن قوات الرئيس مصطفى البارزاني تمكنت من دحرهم وتشتيت شملهم وإلحاق الفشل الذريع والكامل بهم . هكذا فقد أسس المنشقون حزبا جديدا منافسا للحزب الديمقراطي الكردستاني تحت عنوان : [ حزب الإتحاد الديمقراطي الكردستاني ] ، لكن هذا الحزب الجديد لم يحالفه النجاح والتطور حينها في إقليم كردستان .
بقي جلال الطالباني وجماعته في مَعية الحكومة العراقية وقتها حتى عام [ 1970 ] ، حيث بيان الحادي عشر من آذار الذي أعلنته . وذلك لوقف الحرب الدائرة بينها ، وبين الثورة الكردية بقيادة مصطفى البارزاني يومئذ . وقد إعترفت الحكومة العراقية البعثية السابقة بشكل رسمي ، ولأول مرة منذ تأسيس الكيان العراقي عام [ 1921 ] بالحكم الذاتي لاقليم كردستان العراق ! .
بعد صدور بيان الحادي عشر من آذار إتخذ الرئيس مصطفى البارزاني خطوة سياسية حكيمة وذكية للغاية ، وهي إصدار العفو العام عن جميع المنشقين من الحزب الديمقراطي الكردستاني ، وعن المرتزقة من الكرد أيضا الذين كانوا يحاربون الثورة الكردية بتمويل وتسليح وتوجيه من الحكومة العراقية .
هذه الخطوة من البارزاني الأب كانت بمثابة المفاجأة للحكومة العراقية ، لأنها كانت تتوقع العكس . إذ إنها ظنت بأنه سوف يكون هناك صراعات مسلحة بين المنشقين والحزب الديمقراطي الكردستاني . وفي ذلك فإنها سوف تصطاد من الماء العكر ، وإنها سوف تضرب الطرفين بعضها ببعض ، وبواسطة قواتها فيما بعد ، أو انها سوف تدعم طرفا ضد الآخر حتى يمكن تضعيفه ، وبهذا فإنها تستطيع فيما بعد التحكم بإقليم كردستان وبسط سيطرتها عليه ! .
عليه ، من البداية لم تكن نوايا الحكومة العراقية البعثية صادقة ونزيهة وسليمة من بيان الحادي عشر من آذار لعام [ 1970 ] الذي آعترفت فيه رسميا بالحكم الذاتي لإقليم كردستان . وذلك لأجل الأسباب المذكورة من جانب ، ومن جانب آخر ، وهو الأهم هو الفشل العسكري لها بسبب قوة وآقتدار الثورة الكردية والإنتصارات العسكرية التي حققتها في جبهات الحرب . يومها كانت مدينة كركوك المشكلة والقضية الأكثر خلافية بين الثورة الكردية والحكومة العراقية البعثية المنحلَّة ، ربما حتى اليوم بقيت كركوك وغيرها من المناطق المستقطعة من إقليم كردستان هي القضايا الخلافية بين إقليم كردستان والحكومة العراقية الحالية التي يترأس مجلس وزارتها السيد نوري المالكي ! .
في [ 6 ] مؤتمرات كاملة تم إنتخاب مصطفى البارزاني رئيسا للحزب الديمقراطي الكردستاني ، لكن الأكثر دهشة وآستغرابا هو إنتخابه رئيسا للحزب حتى في فترة غيابه الكامل والطويلة جدا التي آمتدت نحو إثني عشر عاما ، حيث منفاه في الاتحاد السوفيتي السابق من عام [ 1947 ] ، الى عام [ 1958 ] كما ذكرنا سابقا ، أي إن النخبة الكردية المثقفة إنتخبت في مؤتمر عام [ 1951 ] وفي مؤتمر عام [ 1953 ] مصطفى البارزاني رئيسا للحزب غيابيا ، وكان في تلك الفترات يعيش في المنفى بعيدا عن الساحة السياسية والاجتماعية والحزبية والقيادية ! .
فهل كان ذلك صحيحا وصائبا على الصعيد الديمقراطي والسياسي ...؟ . برأيي كان ذلك أكبر خطإ سياسي إرتكبته النخبة الكردية القيادية المثقفة حينها . وهذا ليس بمعنى أن الرئيس الراحل مصطفى البارزاني لم يكن أهلا لقيادة الحزب والثورة الكردية ، بل بالعكس إنه كان أهلا لها ، بخاصة في أوضاع إستثنائية لشعب وبلاد كالتي كان ومايزال عليها الشعب الكردي وبلاده كردستان من الناحية الجغرافية ، ومن ناحية السياسة الدولية .
كان على النخبة القيادية الحزبية إنتخاب شخصية أخرى لرئاسة الحزب بعد عام [ 1947 ] محل الرئيس مصطفى البارزاني ، لأنه كان غائبا عن الساحة كليا ، ولأجل بلورة مفاهيم الديمقراطية وتطبيقها عمليا في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، وهي التداول السلمي والسليم والسلس والديمقراطي للقيادة . ذلك أن من أهم مفاهيم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية هو إنتخاب الرئيس بين كل دورة ودورة ، بخاصة اذا كان الرئيس منفيا كحالة الرئيس الراحل مصطفى البارزاني ، أو معتقلا كحالة السيد عبدالله أوجلان رئيس حزب العمال الكردستاني الذي يعيش منذ عام [ 1999 ] من القرن الماضي رهن الأسر والإعتقال في تركيا !..
ومن ثم كان عليهم الإحتياط كثيرا في عدم حصر الحزب ومصيره في عشيرة واحدة ، أوفي عائلة واحدة ، أو في في شخصية واحدة فقط والى مدى الحياة ، حيث ذلك يتناقض مع المفاهيم الأساسية للعدالة الاجتماعية والديمقراطية التي تمت إستعارت إسمها في تكوين الحزب منذ تأسيسه عام [ 1946 ] من القرن الماضي .
ولما لاحظ الرئيس مصطفى البارزاني ان النخبة القيادية الحزبية تنتخبه في مؤتمرات الحزب الواحدة تلو الأخرى ، بل إنهم إنتخبوه رئيسا وهو في المنافي ، بعيدا عن الوطن وتطوراته وأوضاعه وأخباره ، وبعيدا عن الحزب وقضاياه . كان هذا ربما مفاجأة له أيضا ، ولم يكن يتوقعه . لهذا آزداد قناعة بأنهم بدونه قد لايتمكنون من قيادة الحزب ، ولا من قيادة الثورة الكردية كذلك . إذن ، فإن نصف الخطإ – برأيي - ، وربما أكثره تتحمله النخبة القيادية الكردية الحزبية وقتها ، فهم مهَّدوا الطريق للنظام العشائري ونمطه في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، وإن لم يكن كذلك فما هي الأسباب التي دعتهم الى إنتخاب الرئيس الراحل مصطفى البارزاني في ست مؤتمرات متتالية ، بخاصة في مؤتمرين كان البارزاني الأب يعيش في المنفى ، وكان غائبا عن الساحة السياسية والاجتماعية والحزبية بشكل كامل ...؟!
المؤتمر الثامن وتطوراته :
إنعقد المؤتمر الثامن للحزب الديمقراطي الكردستاني عام [ 1970 ] ، وذلك بعد مرور أربعة أشهر على إعلان بيان الحادي عشر من آذار الذي تضمن آعتراف الحكومة البعثية السابقة بالحكم الذاتي لإقليم كردستان وحل القضية الكردية في العراق حلا سلميا . وهذا ما إستقبلته ورحَّبت به الثورة الكردية والشعب الكردي بشكل عام .
في هذا المؤتمر تم إنتخاب المرحوم مصطفى البارزاني – كالعادة ! – رئيسا للحزب والمرحوم حبيب كريم سكرتيرا له . أما التطور الهام الذي جرى فيه هو وصول مسعود والمرحوم إدريس نجلي الرئيس مصطفى البارزاني الى سُدة القيادة دفعة واحدة ، مع أنهما بالحقيقة كانا يقومان بالأدوار القيادية في الحزب والثورة منذ منتصف الستينيات وما بعده ، لكن تم الإعتراف رسميا بهما كعضوين قياديين أساسيين في المؤتمر الثامن ! .
بالإضافة الى ما ورد فإن الكثير من المسؤولين والقيادات العسكرية البارزة كانوا من العشيرة البارزانية سواء في حقبة الستينيات وما بعدها ، وبقي الأمر على منواله حتى نكسة عام [ 1975 ] ، حيث إتفاقية الجزائر بين الحكومة العراقية البعثية السابقة وحكومة الشاه الإيراني المخلوع وبمباركة وتمهيد من هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق . لهذا ولغيرها من العوامل الداخلية إنهارت الثورة الكردية في إقليم كردستان في العام المذكور .
ومن التطورات السلبية الأخرى الذي حدث في الثورة الكردية في إقليم كردستان بعد المؤتمر الثامن هو تنصيب زبير محمود آغا الزيباري رئيس العشيرة الزيبارية قائدا عسكريا لمنطقة عقرة ، للعلم إن زبير محمود آغا الزيباري هو خال رئيس إقليم كردستان السيد مسعود البارزاني . المعروف إن زبير محمود آغا كان منذ بداياته وحتى بيان الحادي عشر من آذار لعام [ 1970 ] من أكثر المناوئين للقضية الكردية والثورة الكردية ، بحيث إنه كان دائما مع الحكومات العراقية ضد الثورة الكردية ، وكان أيضا يستلم الأسلحة والأموال الضخمة لمحاربة الثورة الكردية ، وذلك جنبا الى جنب الجيش العراقي . لهذا السبب حدثت خلافات حادة بين العضو القيادي البارز والعسكري الكردي المعروف المرحوم الجنرال عزيز عقراوي الذي عارض بشدة تنصيب زبير محمود آغا قائدا عسكريا ، وبين الرئيس الحالي لإقليم كردستان السيد مسعود البارزاني ، حيث آنتهت الخلافات بترك الجنرال عزيز عقراوي الحزب الديمقراطي الكردستاني نهائيا في عام [ 1974 ] ! .
في هذا العام غادر عزيز عقراوي إقليم كردستان متوجها الى بغداد ، حيث أقام فترة ضيفا عند المرحوم صالح اليوسفي القيادي المعروف في الحزب الديمقراطي الكردستاني . يُذكر إن الرئيس مصطفى البارزاني حاول من خلال رسالة ومبعوث له الى عزيز عقراوي أن يسترضيه ، لكنه أبى وأصرَّ على موقفه الرافض العمل مرة أخرى في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني . بعدها سلَّم عزيز عقراوي نفسه للسلطات الحكومية العراقية السابقة فتم توزيره في إحدى الوزارات ، لكنه غادر العراق الى سوريا عام [ 1976 ] ، ومن ثم الى ايران عام [ 1980 ]. في عام [ 1982 ] ، لأن الحكومة العراقية كانت تنوي آستهدافه وتصفيته جسديا مثل صالح اليوسفي التي قتلته بواسطة طرد بريدي مُلغَّم . إلتقيت بعزيز عقراوي في مدينة قم الايرانية الذي أقام فيها فترة من الزمن ، وذلك لتركه العمل السياسي الحزبي على الراجح . كان يقيم في منزل في مدينة قم ، وكان يخدمه في المنزل إبن أخت له ، ولما تقابلنا صدفة في إحدى الدوائر الحكومية الايرانية في مدينة قم رحَّب بي ورحَّبتُ به أكثر فلم يأذن لي بالإنصراف ، وقال : أنت ضيفي لعدة أيام . بالفعل أقمت عنده لنحو أسبوع ، وكان حينها مشغول بمراجعة ثانوية لمخطوطة قاموسه الكردي الضخم الذي ألَّفه ، علما إنه في عام [ 1976 ] نشر وطبع قاموسا كرديا – عربيا في لبنان . لقد إستفدت وآستمتعت كثيرا حينما كنت مدة أسبوع تقريبا في ضيافة وخدمة المرحوم عزيز عقراوي ، حيث كنا نتحدث طويلا بالليل والنهار عن شتى القضايا السياسية والفكرية والثقافية ، بخاصة قضايا الكرد وكردستان والثورات الكردية ، لقد تحدث لي أيضا عن أسباب الخلاف وتركه النهائي للحزب الديمقراطي الكردستاني ! .
في عام [ 1975 ] أقدم عزيز عقراوي وصالح اليوسفي ورسول مامند على تأسيس حزب كردي جديد بإسم [ الحزب الإشتراكي الكردستاني ] ، وبدأ بنشاطه السياسي والتنظيمي والإعلامي ، ثم العسكري فيما بعد ضد الحكومة العراقية البعثية السابقة .
[ كيف ، ولماذا آنهارت ثورة أيلول الكردية في إقليم كردستان عام 1975 ...؟! . هذا الموضوع وغيره من المواضيع ، مثل تأسيس الإتحاد الوطني الكردستاني برئاسة الرئيس جلال الطالباني وتجديد الحزب الديمقراطي الكردستاني نشاطه بإسم القيادة المؤقتة في إقليم كردستان سنتاوله بالبحث في الجزء القادم ]
|