قلة هم اولئك الصادقون المتصالحون مع ذواتهم من الذين لا يطيقون تبديل ملامحهم بالمساحيق والاصباغ البراقة عندما يظهرون امام الاخرين . و اعني بالظهور هنا هذا النشاط الدؤوب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوكا وتويترا . اعرف نفسي تماما بانني لست واحدا من هؤلاء القلة ولا اظنني ساكون يوما ما لعدم وجود الملكة ، لكنني اشعر بوطأة هذا الجلد الغريب الذي البسته مضطرا لاظهر امام الاخرين كانسان نموذجي لا ينافسني في الكرم الا حاتم وفي البلاغة الا قس بن ساعدة الايادي وفي الجمال حتى يوسف وفي الحكمة الا لقمان وكانني قد حويت المجد من اطرافه فلم ادع مزيدا لمستزيد . اتساءل ، ماذا سيحدث بنا لو سقطت عن وجوهنا واجسادنا هذه المساحيق البراقة والجلود المزركشة وظهرنا على حقيقتنا "بغير الحقيقة لم تطبع" كما يقول عبقري الشعر الجواهري . العالم الافتراضي قدم فرصة نموذجية لشرائح "مسحوقة" من البشر ليظهروا وكان الابداع يبدأ بهم وينتهي اليهم ، في فرصة لم تكن متوفرة لهم قبل هذه الثورة الاتصالاتية المذهلة التي اوجدت لنا هذا العالم الافتراضي الواسع . الامام علي عليه افضل الصلاة والسلام قال قبل ولادة الفيسبوك باربعة عشر قرنا ان " المرء مخبوء بين اصغريه قلبه ولسانه " وهذا المرء مهما اوتي من طاقة خارقة في الخداع سينكشف امره على الملأ عاجلا في اول اختبار حقيقي يتعرض له . اما اليوم ففي عالمنا الافتراضي المخادع لا تستغرب ان يدردش معك امي فيظهر لك من خلف حجاب الالكترونات وهو يحمل عظمة المتنبي ، ولا تتفاجأ ان تستلم ابيات شعرية في الحكمة او العرفان الالهي من آخر يتخفى "من خلف ستار" وهو لا يميز بين طه ياسين رمضان وطه حسين . نعمة "الكوبي بيست " التي وفرها عملاق البرمجيات بيل غيتس ومنافسوه "جسرت" الهوة بين من افنى عمره يحفظ امهات القصائد وآخر لا يعي حتى المعنى العام لما ينقله للاخرين عبر التوأمين السياميين "كوبي - بيست" . فهل ستستغرب – والحال هذه - لو قرأت هذا الهراء :
هجرت بعض أحبتي طوعا لأنني
رأيت قلوبهم تهوى فراقي...
نعم اشتاق، ولكن وضعت
كرامتي فوق اشتياقي...
أرغب في وصلهم دوما ولكن!
طريق الذل لا تهواه ساقي
مسكين احمد شوقي ... لو كان يدري بان شعره يروى بهذه الطريقة الكافرة لاطبق جفنيه قبل ان ينظم ذلك الشعر الجميل الذي بوأه امارة الشعر ... مسكين "ابو شهاب" لم يدر ان اصدقاء الفيسبوك سيتآمرون على تراثه الثر عن قصد ودون قصد ، قصورا وتقصيرا ... مسكين صاحب نهج البردة وولد الهدى وسلوا قلبي !!! لم تشفع له تلك القوافي المخلدات الزاهيات المطالع .
|