الثمن البخس!

 
عندما كنتُ عسكريَّاً في معسكر التدريب "حامية النجف" من تسعينيَّات القرن المنصرم وقف على سريّتنا آمر السريّة الرائد محمد – هذا كلُّ ما أذكره من اسمه وصفته – وتحدَّث عن الولاء وطاعة الجندي للضابط، ثمَّ ساق شاهداً على محبّة الجنود لقائدهم، إنَّه في حرب إيران، وفي موقفٍ صعب، وقف جنديٌّ من الجنود أمامه جاعلاً من نفسه ساتراً له من وصول قذيفة، أو رصاصة لهذا الضابط، ومات هذا الجنديّ فداءً لذاك الضابط.
تُرى : ماذا وجد هذا الجنديّ في ذاك الضابط ليفديه بنفسه؟
هكذا تساءلتُ وأنا أمرّر في ذاكرتي القريبة – أتحدّث بلسان تلك الساعة – شريط المشاهد أمام عيني
ضابط أمن الوحدة يضرب أحد العرفاء بالكيبل الكهربائيّ حتى جعله يبكي لسببٍ نسيتُه
ضابط طائفيٌّ من أهل الموصل يأخذ الجنود الغائبين في اليوم السابق إلى الدائرة، وما أدراك ما الدائرة؟
يجعل الجنود في دائرة صغيرةٍ يضرب أحدهم الآخر ويتصارعون، ويدفع أحدهم الآخر خارج الدائرة فالأخير الذي يبقى في الدائرة ينجو من العقاب، ثمّ تعاد الكرّة مرتين حتى يخرج جنديان آخران لأنَّهما بقيا آخر واحدٍ في الدائرة، ثمّ يقوم الضابط الموصليُّ بتعذيب الجنود الباقيين ألوان العذاب، منها أن يحملوا صرفة الدبّابة ويقولوا: .....امهاتكم ياشيعة!!
إنّما أذكر هذه الأهزوجة حتى لا ينسى أصحاب الذاكرة السمكيَّة، وحتى يعرف من لم يعش تلك الحقبة الحقد الطائفيّ المقيت على المؤمنين، وتعذيبهم ،أين؟ في النجف الأشرف نفسها.
ومن كان عسكريَّاً في تلك الأيام في هذا المكان لا بُدَّ أنَّه يتذكّر النقيب "فاندام" الذي كان يُطبّق حركات لعبة الكاراتيه على الجندي المسكين ليرفّه بها عن نفسه المتأزمة.
وأتذكر ذلك الجندي المسكين – من حي الأنصار – الذي وضع سلاحه على حائط المرحاض ليقضي حاجته، فشاهده مسؤول مشجب السلاح فأراد معاقبته فأخذ سلاحه، وصعد محاكمةً عسكريَّة وغُرّم مبلغ هذه البندقية "كلاشنكوف" وكان مبلغها يُعادل سعر بيتهم!! – هكذا ارتأت المحكمة – ثُم أعدم، وكانت الإعدامات تنفّذ من جهة بحر النجف، وشخصيَّاً شاهدت أعواد المشانق في آخر معسكر التدريب جهة البحر.
تذكّرت كلَّ ذلك ثم تساءلتُ في نفسي: لماذا صنع الجندي ذلك؟ وهل يستحق هذا الضابط التضحية؟
بعد الانتهاء من المحاضرة قام الضابط بمعاقبة السرية بعقوباتٍ عنيفة منها أن تنزع ملابسك وتتقلّب على اسفلت المعسكر الحارّ، وأن تمشي بطريقة خاصة بان أثرها ليلاً إذ بدأت الأقدام تؤلمنا جداً.
في تلك السعادة لعنتُ ذلك الجندي الذي ضحّى بنفسه في سبيل "صدَّام" صغير على مستوى آمر سريّة، ما كان عليه لو خلّى بين ذلك الضابط وبين الموت؟ ألم يكن يريح العالَم من ظالِمٍ صغير؟
نفسك غاليةٌ لا تفرّط بها إلّا للنّفيس.
 

502976026_2752016208326460_5048508142647346322_n.jpg