إنَّ الشعر الحسينيّ، بوصفه مزيجا فنيّا من العاطفة والتأمل والعقيدة، ينهض بوظيفة نفسية جليلة، تتجاوز حدود التعبير إلى صناعة نوع من السكينة النفسية، والاتساق الوجداني، لدى الشاعر والمتلقي على حد سواء. في هذا السياق، تُستدعى مراثي الإمام الحسين (ع) بوصفها مجرى وجدانيّا عميقا، يستوعب الآلام الفردية، ويحوّلها إلى طاقة جمعية قادرة على خلق توازن نفسي في ضوء المأساة الحسينية الكبرى. فالمرثية هنا لا تُقال فحسب، بل تُعاش، ويتحول معها الحزن من انفعال إلى وقفة تطهيرية، ومن الانكسار إلى الرجاء, ومن الضعف إلى الثورة.
الشعراء وهم ينظمون مراثيهم، لا يفعلون ذلك تعبيراً عن حسّ ذاتي منعزل، بل هم في جوهرهم يعكسون إحساسا جمعيا مركّبا من آلام الحياة والخطيئة البشرية، مما يولد لديهم الحاجة إلى شفاعة الإمام الحسين (ع) للإنعتاق من أسر الدنيا، وهنا يتجلى إيمانهم العميق بعدالة القضية الحسينية، ويقينهم الراسخ بأن الإمام الشهيد هو الشفيع، والمخلص، والرمز الذي يُبنى عليه أمل النجاة، ومثل هذا التوجه يعمّق التفاعل النفسي لدى المتلقي، فيغدو الشعر الحسيني وسيلة لتوحيد المشاعر بين (أنا) الشاعر و(نحن) الجماعة.
إن النفس البشرية، بما تحمله من نزعات وتوترات، لا تجد خلاصها إلا عِبر ما يطمئنها ويمنحها الأمان، والإمام الحسين بما يحمله من رمزية مقدسة عليا، يصبح المرفأ الذي تُلقى عنده تلك النفس المضطربة. يقول عبد الحسين الحلي :
أنت لي ركنٌ شديدٌ يــوم لا يُلتجى إلاّ إلى ركن شديدِ
هذه مني يدٌ مُــدت فخــذْ بيدي منك إلى ظلٍّ مديـدِ
فالركون إلى الإمام هنا ليس ترفا وجدانيا، بل هو حاجة نفسية تشبه التحرر من القلق، إذ أن المرء حين يُحاصر بخطاياه، ويستشعر حتمية الوقوف بين يدي الله، ينشد في إمام الشهداء مأمنًا من تلك القطيعة الأبدية مع الرحمة الإلهية.
في النصوص الشعرية التي تكرس مبدأ الشفاعة الحسينية، نرى تطابقا نادرا بين التعبير الشعري والعقيدة الراسخة، وهذا ما يجعل من الحزن الموجّه نحو الحسين موقفاً روحيا صادقا، يصدر من شعور دفين بالخوف من العقاب، ومن أمل صادق بالرحمة الإلهية. يقول محمد علي اليعقوبي :
لست أرجو سوى حضوركم يـو م وفاتي وفي الحساب خلاصي
وإذا كان الاستشهاد هو أقصى درجات البذل، فإن مَن بُذل لأجله كل شيء وهو الله سبحانه وتعالى، صار يستحق أن يُرجى منه كل شيء بواسطة المضحي وهو هنا الإمام ع. وبناء على هذا المبدأ، يصبح بيت الشعر نفسه أداة للخلاص، وتصبح القصيدة وسيلة لعبور الفجوة بين الخوف والرجاء. يقول محمد علي النجار :
وأرى ببعدي عن رثائك جفـوةً فنظمت أبياتا على مقداري
لأكونَ مصداقَ الأحاديثِ التـي تُروى لنا في جملة الأخبارِ
من قال فينا بيت شعرٍ واحــدٍ فله جنان الخلد دار قـرارِ
ويقول عباس رشيد الخزاعي :
تدخلون الجنات من قال فيكــم بيت شعر وقلبه مسـرورُ
وشعوري لديكم والقوافـــي هي لي عندكم شفيع نصيرُ
هذا التوجّه يجعل من القصيدة الحسينية مرآة لاحتياجات الإنسان الدفينة، فهي ليست تعبيرا عن موقف فكري فحسب، بل هي تطهير من ذنوب محتملة، ورجاء بدخول عالم الخلاص الأبدي، وكل ذلك يمنح الحزن بُعدا وظيفيّا يتجاوز المتعة الجمالية إلى التفاعل الوجودي العميق.
إنَّ الشاعر الحسينيّ، وهو يعيش هذا الانفعال، لا يعزل حزنَه عن أمله، ولا يترك نفسه لليأس المجرد، بل يتخذ من البكاء على الحسين طريقا إلى السكينة. يقول عبد المنعم الفرطوسي :
أنت الشفيعُ وما عندي لما اكتسبت يداَي غيرك يوم الحشر من أملِ
وبذلك تتحد العقيدة مع ظيفة الإبداع مع التطلعات النفسية، فتصير القصيدة مجالا يندمج فيه الدافع الفني مع الرغبة في الخلاص. وقد يمتد أثر الشفاعة الحسينية ليشمل حياة الشعراء اليومية، بما في ذلك شؤون الدنيا ومصائبها، فيطلبون من الإمام أن يكون سندا في كل لحظة. يقول يعقوب جعفر الحلي :
إني لأرجوكمُ في كل نائبـــــةٍ فإنكم خيرُ مرجوٍ ومنتـــدبِ
ويقول محسن أبو الحب :
أنتم رجائي وأنتم عدتي وبكــم أرجو النجاةَ فأنتم علةُ العلــلِ
ويقول عبد القادر رشيد الناصري :
يا ابن رب البيان كن لي شفيعـا يوم لا شافـعَ سـواكم ومطلـب
واذكُرَنّي لدى إلهك إن جئـــ تَ ومن حوله التسابيح تسكب
قل له ... عبدك المشرد يحيـــا في زحام الحياة من غير مأرب
غيره ناعم بدنيا الأمانــــي وهو في عالم الشقــاء معذب
وبهذا يصبح الحسين ع في وعي الشعراء – سيد الشهداءـ ومرفأ أرواحهم المجهدة، وشفاعة أبدية من عذاب الحياة والموت في الوقت ذاته. ومن هذا العمق النفسي، تنبع حرارة الوجد التي تملأ القصائد، وتحيلها إلى وثائق وجدانية بالغة التأثير.
وقد تتجلى وظيفة المراثي النفسية في ما هو أبعد من الشفاعة، فتُستخدم بوصفها وسيلة رمزية للانتقام من قتلة الإمام، لا بوصفه انتقاما دمويّا، بل بوصفه تفريغا لشحنة غضب داخلي تجاه الظلم، وميلا فطريا للعدل. يقول عبد المنعم الفرطوسي :
أما آن للموتور أن يطلب الوتــرا فيشفي بأخذ الثأر أفئــدة حرىَ
وللحق أن تطغى به عزماتــــهُ فتنذر أهل الشرك بالبطشةِ الكبرى
وللعلم المنصور أن يبلغ المنـــى فيخفق منشورا على الطلعة الغرّا
إن مثل هذا التحريض لا يمكن فصله عن الإطار النفسي الذي يعيشه الشاعر، ولاسيما في المجتمعات التي تعرضت إلى التهميش والاضطهاد. فالشاعر – في لحظة الكتابة – لا ينطق باسمه فقط، بل بصوت جماعة كاملة، تمثل في وعيها الجمعي أن المأساة لم تنتهِ بعد، وأنَّ القصيدة نفسها، حين تنفجر بالتساؤل أو الصراخ، فإنما تنوب عن جموع المكبوتين.
بل إن بعض الشعراء ذهب إلى حدود الشك ذاته، لا بوصفه ترديدا لعدم الإيمان، بل بوصفه حفراً في صخر المسلمات، لبلوغ حقيقة أصفى. يقول الجواهري :
وقلت : لعل دوي السنيــــنِ بأصداء حادثك المفجــــعِ
وما رتل المخلصون الدعـــا ة من مرسلين ومن سجــعِ
يدا في اصطناع حديث الحسيـن بلون أريد له ممتــــــعِ
أريد الحقيقة في ذاتهـــــا بغير الطبيعة لم تطبـــــعِ
ثمَّ يقول :
وجاز بي الشكُّ فيمـــا مع الـ جدود الى الشكّ فيـمـا معـي
ثم ما يلبث أن يعود إلى اليقين الهادئ:
فأسلم طوعا إليك القيـــــاد وأعطاك إذعانة المهطـــعِ
فالشعر هنا لا ينقل حالة وجدان فقط، بل يمارس دور الفلسفة، إذ ينتقل بالحزن من لحظة الألم إلى لحظة التأمل، ومن ظلمة السؤال إلى نور الإذعان، وهذه وظيفة نفسية عليا، تجعل من الحزن وسيلة لاكتشاف الذات، لا لمصادرتها.
ولعلّ أهمّ ما في هذه المراثي أنها تجمع بين فردانية الحزن وجماعيته، بين (أنا) الشاعر و(نحن) الجماعة، حيث ينصهر الجميع في لحظة وجدانية واحدة. وهذا ما يمنح الشعر طابعه الجمعي، ويجعله ذا وظيفة اجتماعية، حتى تنطق على لسان الشاعر ما لا يستطيع قوله كل فرد من الجماعة بمفرده. يقول مسلم الحلي :
لقد مضيتَ وقد خلفتها مُثُلا بقين فينا مثال العز والعظمِ
دروس تضحية للمؤمنين بها إذا مضت أمم تلقى إلى أممِ
ويقول حسين علي الأعظمي :
دمه الذكرُ الذي ننشـــــده كلما لاح صباحٌ ومســــاءُ
فكل بيت شعري في هذا السياق ليس انعكاسا لحزن فردي فقط، بل هو مشاركة وجدانية في المأساة، وتمثيل جماعي لعقيدة، وانتماء، وقلق مشترك.
إنّ الشعراء، وهم يصوغون حزنهم في القصائد الحسينية، لا يفعلون ذلك بوصفه فعلا أدبيّا جبلوا عليه، بل بوصفه تأكيداً لموالاة الإمام, ومحاولة لتأويل المعاناة، وإعادة بناء الذات المتشظية، وتوجيه الألم إلى حيث يصير طاقة روحية وثّابة لا تعرف النكوص. يقول عبد الحسين الأزري :
لا غرو إن طوت المنيةُ ماجــداً كثرت مآثره وعاش قليـــلا
ويقول يعقوب الحلي :
وموسى راح وهو به كليـــمٌ وفيه أسـىً بكى عيسى المسيحُ
وأكرم أنبياء الله طــــــه وأشرفهم غدا فيه ينــــوحُ
ألا تهوي السماء وذا حسيــن على الغبراء منعـفر طريـــحُ
ويقول محسن أبو الحبّ :
فرضٌ علينا ثياب الحزن نلبسها على الحسين بن طه سيد الرسلِ
ونذرف الدمع حزنا لأبن فاطمةٍ من القلوب دماءً لا من المقــلِ
هذه القصائد، إذ تتوسل الحزن وتستدعي العظماء ليشاركوها الألم، فإنما تفعل ذلك لتعلي من شأن الحزن الإيجابي الذي يتقاطع تماما مع الضعف؛ فهو وعي يرتقي بقيمة الإنسان ويستعيد من ينبغي أن يُحزن عليه حقّاً.
إنّ الحسين (ع) في وجدان الشعراء مثلما هو شهيد حيّ وقضية عادلة وثورة دائمة ورفض للطغيان، فإنّه مرآة كبرى لكل ما هو مكسور في نفوسهم، وملجأ يحتمون به من صقيع العزلة، وشريك في مواجهة عبث العالم. وفي هذه الشراكة، تتحول القصيدة إلى مأوى نفسي، تطمئن فيه النفس القلقة، وتتحول الدموع إلى مجهر يرى فيه الشاعر أسرار الوجود، كما قال السيد محمد جمال الهاشمي :
فعذرا أبا السجاد طفحةَ شاعــرٍ يحاول أن يرمي إليك بسلـــمِ
وأنت الذي قد حاول الفكر سبـره ففاض ببحر من معانيك مفعـمِ
لذلك اتخذت الدمع للشعر مجهـرا يرى فيه أسرار الوجود المطلسمِ
فما كنت إلا عالما متراميــــا يشع بأقمارٍ ويزهو بأنجـــمِ
هكذا يصير الحزن عند الشعراء بابا إلى الفهم، وسلوكا إلى الطُمأنينة، وليس شكوى. فالشاعر في رثاء الحسين لا يهرب، بل يعقل الوجود من خلاله، ويفتش عن المعنى في مراياه المتكسّرة، لأن الحسين هو الشاهد على أن للدمع وظيفة، وللحزن رسالة.
تنويه: اقتصرنا في مقالتنا هذه على نماذج من الشعر العراقي في النصف الأول من القرن الماضي .
المصادر
أدب الطف، أو شعراء الحسين من القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر، جواد شبر، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت, ط1، 2001.
الحسين في الشعر الحلي، تراجم وقصائد، سعد الحداد، دار الضياء للطباعة والتصميم، النجف، 2007.
ديوان أبي الحب( الصغير) تحقيق سلمان هادي الطعمة، مطبعة الآداب، النجف، 1966.
ديوان الجواهري، محمد مهدي الجواهري، تحقيق د.إبراهيم السامرائي و د. مهدي المخزومي, و د. علي جواد الطاهر, ورشيد بكتاش، مطبعة الأديب البغدادية، 1973.
ديوان الفرطوسي، عبد المنعم الفرطوسي، مطبعة الغري الحديثة, النجف، ط2، 1966.
ديوان عبد الحسين الأزري، تحقيق مكي السيد جاسم وشاكر هادي شكر، تقديم علي الشرقي وترجم للشاعر جعفر الخليلي، مؤسسة النعمان، بيروت .
ديوان عبد القادر رشيد الناصري، ج1، جمعه وضبطه كامل خميس، مطبعة شفيق ، بغداد 1965، وحقق الجزء الثاني الذي عنون بـ ( ديوان الناصري )، هلال ناجي وعبد الله الجبوري، مطبعة العاني، بغداد، ط1، 1966م .
ديوان يعقوب الحاج جعفر النجفي الحلي، عني بجمعه والتعليق عليه ولده محمد علي اليعقوبي، مطبعة النعمان، النجف، ط1، 1962.
الذخائر، مجموعة قصائد ومقاطع في مدح ورثاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ع، محمد علي اليعقوبي، جمع وتصحيح ولد الناظم موسى اليعقوبي، المطبعة الحيدرية، النجف، 1955.
مجلة البيان، النجف، العدد ( 11، 12 ، 13 ، 14 ) السنة الأولى، 14 ك2، 1947, عدد خاص بالإمام الحسين (ع) والعدد 57، 58 السنة الثالثة في 22، ك1، 1948، عدد خاص بالإمام الحسين (ع).
مع النبي وآله، ( ديوان شعر) السيد محمد جمال الهاشمي, مطبعة بهرز، إيران، ط1، 1985.
يوم الحسين، مجموعة القصائد والخطب التي ألقيت بمناسبة ذكرى الإمام الحسين (ع)، للسنوات 1947ـ1950، مؤسسة دار السلام، لندن، ط2، 1999.
