• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : على مشارف الطف دمع لا يغادر .
                          • الكاتب : وفاء الطويل .

على مشارف الطف دمع لا يغادر

القصيدة التي سنتناول بعض أبياتها بهذا العدد للشيخ محمد حسن أبو المحاسن الكربلائي الحائري
بلغ عدد أبياتها (68) بيتاً، من بحر الطويل، حرف الروي الفاء المرفوعة، قافية متداركة، لغتها جزلة، عميقة، مشبعة بالمجازات والرموز.
وهي تنتمي إلى شعر الرثاء الذي يزاوج بين العاطفة الجيّاشة والصور الشعرية المكثفة،
حين نقف على تخومها نجد في حلقها غصَّة، كأنَّ اللغةَ ذاتَها تخشى أن تلامسَ جراحات ما برئت، ولا استراحت...
وقـفـتُ بـه والـدمـعُ يـجـري كـأنــنـي     وإن جلَّ رزءُ الطـفِّ بالـطـفِّ واقفُ
يستدعي الشاعر وجدانًا مشحونًا بتاريخ الطف وما يحمله من مآسي وفجائع بتصوير شعري حزين
لفظة "وقفتُ" تضعنا مباشرة في موقف المراقبة والمشاركة الوجدانية.
"رزء الطف" و"بالطف واقف" تكرار موضعيّ يُضفي على البيت طابعًا طقوسيًّا مشحونا بحالة الفقد والدهشة.
عـلـى مـربـعٍ روَّتْ دمـاءُ بني الـهدى     ثـراهُ ولـم تـروَ الـقـلــوبُ الـلـواهـفُ
تصوير الأرض المروية بالدماء والقلوب الظمأى
المربع: لفظة تشير إلى أرض المعركة والمصارع، صورة مشبعة بدلالة الشهادة.
الدماء تروي التراب لا القلوب، مفارقة بلاغية موجعة. الدم سال بغزارة فارتوى التراب، وبقيت "القلوب اللوَاهف" ظامئة.
فـكـمْ غُـيِّـبـتْ فـيـه نـجـومـاً وحُـجِّبتْ     بـدورُ عُـلًا فـيـهـا المنـايا الخـواسـفُ
كثافة الرموز الفلكية والموت الكاسف
النجوم والبدور: رموز للأئمة والأبطال، ترمز لعلو المقام وسمو الرفعة، وقد جمع بين النجوم والبدور للإيحاء بشمول الفقد.
الخسوف: استعارة بديعة للموت؛ وكأن المنايا تتسلل كخسوف يطمس الأنوار، فيقتل النجوم ويحتجب بها القمر.
التضاد بين "العُلا" و"الخسف" خلق صدمة شعورية، فكيف تسقط القمم؟!
إلى الطفِّ مِن أرضِ الحجازِ تطلّعتْ     ثـنـايـا الـمـنـايـا مـا ثـنتـها الـمـخاوفُ
الزحف من الحجاز إلى الطف، تطلعتْ ثنايا المنايا، تصوير درامي مرعب؛ فالموت يتطلع، يمدُّ أنيابه متحدّيًا، ما ثنتها المخاوف، تأكيد على أن هذا الموت لم يكن عاديًا، بل زاحفًا بإرادةٍ لا تُرد.
تـرحّـلَ أمـنُ الـخـائـفـيـن عن الـحمى     مـخـافـــةً أن لا يـأمـنَ الـبـيتَ خائفُ
تبدد الأمن بعد استشهاد الحسين "عليه السلام"
ترحّل الأمن، التعبير يصور الرحيل لا كحدث مكاني، بل كتحول كوني، لقد غادر الأمان الديار حين رحل الحسين "سلام الله عليه".
البيت: يمكن أن يُقرأ البيت هنا على مستويين: البيت الحرام، وبيت النبوة؛ كلاهما أصبح موضع تهديد.
وقـد كـان شـمـسـاً والـحـجـازُ بـنورِهِ     مـضـــيءٌ فـأمـسى بعدَه وهـوَ كاسفُ
الشمس/الكَسوف: من أروع وأبلغ صور التحوّل، حيث كان الحسين شمسًا، والإشراقُ بنوره، لكنه غاب، فكُسف كل شيء.
والكَسوف هنا ليس ظاهرة سماوية، هو حالة روحية ووجودية، ألمٌ شامل يظلمُ بعده كل نور.
تتغلغل بنصه في لبِّ المأساة الحسينية إلى أن يقول:
قضى عطشاً دونَ الفراتِ فلا جرى     بـوردٍ ولا بــلَّ الـجـوى مـنـه راشـــفُ
"قضى عطشًا": افتتاح مأساوي مباشر، يقرر المصير قبل أن يسرد الحكاية، لتكون الضربة الأولى في وجدان المتلقي
"دونَ الفرات": قرب الماء، والمفارقة هنا أن النهر موجود لكنه ممنوع مما يجعل الصورة كابوسية!
"بورْدٍ ولا بلّ الجوى": يكثّف من صورة الحرمان من الماء، "منه راشف": لم يُسمح له حتى بالرشف
وظـمـأنَ لـكــنْ مــن نــجـيـعِ فـؤادِهِ     تُـروّى الـمـواضـي والرمــاحُ الـدوالفُ
الدم بدل الماء، والموت يروي الحديد
"نجيع فؤاده": نزيف القلب، لا أي الدم، "تُروى المواضي والرمـاح السيوف والحراب.
"الدوالف": أي الرماح التي تدفع إلى الأمام.
ومـرتـضـعٌ بـالـسـهمِ أضحى فطامُه     فـذاقَ حِـمـامَ الـمـوتِ والـقلبُ لاهــــفُ
"بالسهمِ أضحى فطامُه": أقسى ما يُقال في فطام رضيع، الصورة هنا تتجاوز الألم إلى الصدمة.
"فذاقَ حِمامَ الموتِ": الجمع بين الحمام والطعم، فبدلًا من لبن الحياة ذاق كأس الفناء.
"القلبُ لاهفُ": ختام البيت بكلمة "لاهِف" أي متقطع
أتى ابـنُ رسـولِ اللهِ مـسـتـسـقـيـًا له     فـمـا عـطـفـتْ يـومـاً عليه الــعــواطفُ
"ابن رسول الله": توكيد شريف النسب لإبراز الظلامة، "مستسقيًا": طلب بسيط، إنساني شربة ماء.
"فما عطفتْ... العواطف": استخدام "العواطف" مجرّدةً يسلّط الضوء على تبلّد المشاعر، وكأن الإنسانية انخلعت من قلوبهم.
فأهوتْ عـلـى الـجـيدِ المخضَّبِ أمُّه     تـقـبِّـلـه والـطـرفُ بـالـدمـــــعِ واكـــفُ
"الجيد المخضَّب": استعارة جمالية/مروّعة؛ فالجيد لا يُخضّب بالحناء، بل بالدم!
"تُقبّله": لحظة وداع/حب/حداد كلها في فعل واحد، "الطرف بالدمع واكف": كناية عن حزن الذي يغمرها
جـعـلـتـكَ لـي يـا مُـنيةَ النفسِ زهرةً     ولـمْ أدرِ أنّ الـسـهـمَ لـلـــــزهـرِ قاطفُ
"منية النفس": تعبير أمومي رقيق ومفعم بالتعلّق الروحي، "زهرة": استعارة للطفولة، البراءة، الجمال، القرب من القلب.
"السهم قاطف": قلبٌ للوظيفة الطبيعية: المفترض أن الزهر يُقطف للزينة أو العطر، لا ليُقتل!
وصولا إلى سويداء المأساة، جانبًا مهملًا من الملحمة، خدور العقائل والسبي:
وأعـظـمُ مـا قـاسـى خـدورَ عـقـائلٍ     بـهـا لـم يـطـفْ غـيـرُ الـمـلائـكِ طائفُ
"أعظمُ ما قاسى": أي الحسين "عليه السلام" ويختار الشاعر أن لا يبدأ بالمذبحة، بل بما بعدها، المأساة في "خدور عقائل" تصوير للعفاف المصون، و"العقائل" لفظة ذات هيبة، تخص الحرائر الشريفات، "لم يطف غير الملائكة طائف" صورة غاية في الطهر والرهبة.
وعـزَّ عـلـيـهِ أن تـهـاجــمُـها العدى     وهـنَّ بـحـامـي خــدرهــنّ هــــواتــــفُ
"وعزّ عليه" العبارة تنضح بالقهر، قلب الحسين يتمزق وهو يرى حالها ولا يملك الدفاع عنها.
"تُهاجمها العدى" لفظ الهجوم يشير للعنف، "هواتف" اسم فاعل من "هتف"، أي لا حامٍ لهن 
ينادين يا حسين إن كنت حيا أدركنا.
يـنـوءُ لـيـحـمـي الـفـاطـمياتِ جهدَه     فـيـكـبـو بـه ضـعـفُ القوى المتضاعفُ
"ينوء" يدل على ثقل المهمة، حيث أن جسده لا يكاد يحمل نفسه، وهو يحاول أن يحميهن، "جهدَه" يدل على أن كل ما عنده قد بذله.
"فيكبو به ضعف القوى المتضاعف" وصف لحال الحسين "عليه السلام".
وفـي الـسـبـيِّ مـن آلِ الـنـبيِّ كرائمٌ     نـمـتـهـا إلـى الـمـجـدِ الأثـيـلِ الـخلائفُ
"كرائمٌ" ليس فقط نساء، بل نفائس، درر، "نمتها... الخلائفُ" امتداد نسبهن فهن ليست أي نسوة، بل بنات المجد والوراثة النبوية.
هـواتـفُ يـبـكـيـنَ الحسينَ إذا بكتْ     هديـلاً حــمـامـاتُ الــغــصــونِ هـواتفُ
"هواتف" بمعنى الأصوات الناعمة، الباكية، والمرتبطة بالطير.
"هديلًا حماماتُ الغصون" تشبيه راقٍ يجمع بين الرقة والحزن، إذ أنهن صرن حمامات مكسورات الجناح، "إذا بكت" تلازم وجدني.
وفـوقَ الـقـنا تزهو الـرؤوسُ كأنّها     أزاهـيـرُ لــكـنَّ الــرمــاحُ الــقــواطـــفُ
"تزهو" مفارقة جارحة! الرؤوس المقطوعة تزهو على الرماح!
"كأنها أزاهير" استعارة مذهلة وموجعة، الرأس الشريف يشبّه بالزهرة، لكن الرماح قطفتها.
ارتكزت البلاغة في النص على (المفارقة، الطباق، المجاز، التكرار الدلالي، والجناس الاشتقاقي الرمزية العالية) وتميز النص بالتوتر الشعوري الحاد.
كل بيتٍ فيها صرخة مكتومة، وكل صورة جرحٌ لا يندمل، إنها مأساة كربلاء مكتوبة بالدمع والذهول.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=209150
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 10 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 10 / 16