حين تتداخل الأزمنة، تختلط الملامح فيما بينها ،وتبقى التواريخ شاهدة كي لا تغفل البصيرة عن جراح ما زالت إلى اليوم تنزف، من هنا يبدأ المسير، بل المصير، وكل خطوة تحمل في عبقها كربلاء.
كانت خيام المواكب تنتشر على طوال الطريق، أدركت وأنا ابن الثمانين عامًا ، إن هناك علاقة وثيقة بين التاريخ والجغرافية ،؛ تظهر على سيماء الأرض؛ ليحملها الإنسان دمًا واحساسًا وهوية.
أقرأ مشاعر الأرض وما يجول بخاطرها من بهجة و ألم ، من راحة أو وجع،
منذ أول الخطوات بدأت الوجوه تلتقي لتعزيز ألفة المسير، الناس الشوارع والطرق وخيام تتوشم جسد الطريق.
يبدو أن الزمن أراد أن يمتحن الخطوة وإذا بي أرى الصحراء تمر محملة بمرتزقة من جنود جبابرة ،أبواقهم وطبولهم صاخبة وصراخهم يحاصر كل خطوة مسالمة ؛ خشية أن تسعى لنصرة الحسين قلت مع نفسي وكأني أعرفهم أنه (عمر بن سعد )وصرت أخمن تلك الوجوه بأسمائها شمر،شبث ، وصرت أراهم بأزياء مختلفة ، فلكل جيل أزيائه الخاصة، واستغربت حين رأيت في الطف سيارات وطائرات، ومدافع ورشاشات.
الذي أعرفته إن النوايا في هذا المسير توحدت ،وتوحدت الهمم فلا أحد يميز بين خطوات شاب أو خطوات عجوز مثلي ، إن انتقالة الزمن من تاريخ إلى تاريخ جعلني أبحث عن ذاتي :ـ هل أنا كنت في كل هذه الأزمنة أم الأزمنة هي صاحبه من تعيش بداخلي في كل طف.
كيف لي أن أوزان روحي بين تلك الأزمنة ،بين اليقظة والحلم، وبين الماضي والحاضر والغد، بين الأسفلت والرمال، بين الفرات والعطش المر؟
ناس يأتون من أزمة بعيدة ومنهم لم يأتوا بعد، وأمكنة لا تعرف حدود خرائطها. النصرة تحتضن التواريخ كلها
يسألني أحدهم :- ألا تعبت؟
- لا ... ما زالت عصاي في يميني
-ماذا لو لم يكن هذا الطريق يؤدي إلى كربلاء؟
- ماذا لو كانت كربلاء بلا حسين؟
دعني أروي لك أشياء مهمة ما دام الدرب طويل
النصرة ليست أسيرة المكان ولا يأويها زمن دون غيره ،وخطوة الزائر إرادة لا يقلل قيمتها زمان ولا مكان ، رأيت الكثير من أنصار الطف الحسيني في مقدمة المسير . خطوات كونية لا علاقة لها بأي مكون سياسي أو اشتغال دنيوي. والمخزون الشعوري العام هو عمق حضاري لابد أن يستثمر بما يخدم الإنسان.
رسالة وجدانية تحتاج وجدان الكاتب الإعلامي ،من يسألني عليه أن يدرك أن هذه اليقينية أكبر من الكتابة وشروطها. أشعر أحيانًا أن تلك الخيام لا توزع ماء وطعام بل توجه إلى الناس القوة الوجدانية والغفران وجوازات نصرة رابحة .
ومع هذا يسألني
ـ ما الغاية من هذا المسير؟
تمر بين المواكب امرأة عجوز يقودها أحد ابنائها وهي تنادي مع كل خطوة لبيك يا حسين ، مثلما لا يخلو كل زمان من حسين كذلك لا يخلو من يزيد، وابن زياد، وعمر بن سعد وغيرهم، لهذا علينا أن ندرك العمق الوجداني .
على ميمنة الطريق خطيب يعتلي المنبر
ـ من يرتضي سهم حرملة يبات في عنق البراءة ؟ كيف سيقتنع بأن الإعلام الأموي أسس له منهج زيف؟ وقام بتغيير المفاهيم الواقعية إلى ترسبات سياسية تدس أفكارها لتضليل الناس.
نسعى أحيانًا إلى أن نمنح أنفسنا بعض الراحة مجرد استرخاء نعيد به نشاطنا لنستمر في المسير.
ويأتي السؤال: هل تظن أننا بحاجة إلى النوم؟ تحتفظ مثل هذه الأسئلة بقوة غير عادية تتيح له أن يوقظ صمتي
- دعني أحدثك فالطريق ما زال طويلًا
فلسفة المسير الحسيني لم تأتِ من الدراسة الاكاديمية ومطالعة نظرية أرسطو من الوسط الأخلاقي أو المدينة الفاضلة لإفلاطون ومنهج سقراط التهكمي والتولدي في الحوار ولا من الفلسفة الاستبطانية/ برتوغراس أو عقلانية كانت، ومثالية هيجل أو تفكيكية جاك دريدا أو بنويوية ليفي شتراوس ولا غيرهم بل قامت المسيرة الأربعينية بشكل عفوي هو الإيمان المطلق بأهل بيت النبوة .
- إلى أين تريد أن تصل؟
- فهم المعنى الرابط بين المسير الأربعيني والارتقاء إلى سلم الانتظار ، انتظار صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
أحببت أن أجمل التعب، فسألت مجموعة من خدمة المواكب
- لماذا الأربعين؟
توالت الاجابات التي تدل على قضية الاربعين وسعة مدركاتها :
- إشارة إلى قول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (الأرض تبكي على المؤمن أربعين يومًا)
- قال الإمام الصادق عليه السلام هي السماء بكت على الحسين أربعين يومًا
- الملائكة بكت عليه أربعين صباحًا
- رجوع السبايا الى كربلاء
- زيارة جابر الانصاري للحسين عليه السلام
وجاءت اجابة فتى يافع
- هي نبوءة مولاتي زينب عليها السلام
(وينصبون لهذا الطف علما لقبر ابيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يمحى رسمه)
ما إن وصلنا كربلاء ، وإذا بي أشعر بصدمة غريبة ودوران كاد يسقطني ارضًا، تداركني الناس من كل زمان ، ظنًا منهم انني أغمي عليه من الإرهاق
هي ليست رؤية كما فسرها بعضهم ، إنها حقيقة رأيت الحسين عليه السلام نورًا ساطعًا مكللًا بالهيبة يمر من فوق رؤوسنا وهو يتفقد الزائرين
رأيت كربلاء لحظتها مجموعة تلال ،عند كل تل من تلالها تقف امرأة متشحة بالسواد تنادي كربلاء
سمعت صوت انفجار قوي واصوات نداءات انطلقت من كل أزمة الله تنادي:ـ هل من ناصر ينصرنا ؟.
تعرضت المواكب الى إنفجار إرهابي قرب مرقد عون عليه السلام، سيارات الاسعاف تدخل المدينة ،تعيد لذاكرة الناس
صور مطاردات الحزبيين و فدائيو صدام التي كانت تلاحق الزائرين أيام الجور.
سقط المطر بغزارة على كربلاء وسرعان ما عاد كل شيء الى وضعه الطبيعي.
ماء سبيل يا عطشان
أدركت حينها أن هذه المدينة لا تتأثر بشيء ولا يثنيها عن دورها طارئ ما
قمت يافعًا حملت ثمانيني بوقار ودخلت أزور.
|