كيف يمكن لديمقراطيةٍ وليدة أن تشق طريقها وسط عواصف الانقسام والتجاذبات؟ سؤال يفرض نفسه كلما تأملنا التجربة العراقية الحديثة، التي وإن جاءت بعد عقودٍ من الاستبداد، إلا أنها لم تزل تعيش امتحاناً يومياً في مواجهة أزماتٍ تهدد كيانها ومحتواها.
أولى هذه الإشكاليات تكمن في التناقض بين التعددية السياسية التي يُفترض أنها مصدر غنىً وتنوع، وبين الوحدة الوطنية التي يجب أن تبقى السور الحامي للجميع، فبدل أن تتحول التعددية إلى منبعٍ للإثراء، كثيراً ما تتحول إلى ساحةٍ للاستقطاب، مما يجعل سؤال التوازن بين التنوع والتماسك الوطني سؤالاً معلقاً بلا جواب.
ثم تأتي معضلةٌ أخرى أكثر تعقيداً، التشريع والتمثيل في مجتمعٍ متعدد الهويات، ففي العراق، حيث التباينات القومية والمذهبية والدينية، يصعب دوماً ترجمة إرادة الشعب إلى قوانين عادلةٍ تُرضي الجميع، وقد رأينا هذا مراراً في أزمات تشكيل الحكومات، وتعثر إقرار تشريعاتٍ حيوية بسبب تقاطع الإرادات السياسية.
لكن التحديات لا تتوقف هنا، إذ تبرز محاولاتٌ منظمة لإفراغ الديمقراطية من مضمونها الحقيقي عبر الفساد والمحاصصة، فتحولت العملية السياسية في كثيرٍ من الأحيان إلى طقوسٍ شكليةٍ بلا جوهر، يضاف إلى ذلك ضعف الأداء المؤسسي وسوء الإدارة وغياب الشفافية، وكلها عوامل تستنزف الموارد وتفتت ثقة الناس بالدولة، أما التدخلات الخارجية، سواءٌ الإقليمية أو الدولية، فتظل الحاضر الغائب الذي يؤثر في القرار الوطني، ويضعه في كثيرٍ من الأحيان على غير مساره الطبيعي.
ولكي تقف الديمقراطية العراقية على أرضٍ صلبة، فهي بحاجةٍ إلى أن تستمد شرعيتها السياسية من انتخاباتٍ نزيهةٍ صافية تعكس الإرادة الحقيقية للناس بعيداً عن التزوير أو الترهيب، وأن تُرسخ في الوقت نفسه مفهوم المواطنة الفاعلة التي تجعل الفرد شريكاً في القرار، وولاءه للوطن يتقدم على كل الانتماءات الضيقة، وأن تُبنى فوق ذلك مؤسساتٌ رصينة تقوم على الشفافية والكفاءة وتضمن الفصل بين السلطات وتكافؤ الفرص، فلا يشعر أي مواطن بالغبن بسبب موقعه أو انتمائه.
من دون هذه الركائز ستبقى الديمقراطية هشةً وعرضةً للتشويه، وربما تتحول إلى أداةٍ لمكاسب ضيقةٍ بدل أن تكون ضمانةً لكرامة الإنسان، ومع كل ما يحيط بها من عراقيل، فإن الخيار الديمقراطي يظل المسار الأوحد لبناء عراق الغد، ديمقراطيةٌ لا تُختزل في صناديق اقتراع، بل تُترجم إلى عدالةٍ في توزيع الفرص، وإلى مؤسسات تحمي الحقوق، وإلى وطنٍ يجد فيه المواطن كرامته وموطئ أملٍ لحياته، فتغدو الديمقراطية في النهاية مرادفاً للحياة الكريمة قبل أن تكون مرادفاً للحكم.
|