ما لم تفصح عنه الحكومة التونسية أخيرا، ظهر من خلال تصرّفها المعقول، تفاديا لما هو أسوأ بخصوص الإحتجاجات الشعبية التي وقعت في مناسبات وأماكن عدة من البلاد، وهي في حركاتها المنظمة تعابير متكررة من شعب عبر عن موقفه المبدئي من القضية الفلسطينية، برهن من خلالها الشعب التونسي عن تضامنه ومساندته لإخوانه الفلسطينيين، من بداية محنة احتلال أرضه وتوسع الاستيطان الصهيوني عليها، إلى طوفان الأقصى وما حققه من مكاسب معنوية ومادّية هامّة، رغم الخسائر البشرية و دمار البُنى التحتية التي لا يمكن لشعب مقاوم أن يتفاداها، فلكل حركة تحرر ضريبة تدفعها الشعوب المقاومة للإستعمار مهما بلغ حجمها، لكنّها تهون عندما تكون الغلبة على أعداء الأوطان محققة، وفي طريق استكمال خطواتها المظفّرة، وهذا ما نرى مؤشراته اليوم تتحقق، وتبشر بقرب موعد النصر والخلاص النهائي من كيان مجرم بغيض.
ولست هنا مبرّرا سياسات تونس التي سبقت العهد الجديد بخصوص فلسطين، فتلك مظاهر خداعة لنظامين ( بورقيبة وبن علي) لم يقدما شيئا من أجل فلسطين، شأنهما في ذلك شأن بقية حكام عرب، اتخذوا سبيل خداع شعوبهم، ومارسوا من وراء الكواليس سياسات غير نزيهة بشأنها، ولا أفادت مساعيهما الدبلوماسية بشيء، خصوصا اجتماع اريحا في 3/3/1965، الذي دعا فيه بورقيبة الى قبول ما يقدمه الكيان الصهيوني من تنازل عن الأراضي المحتلة، فكان جواب الفلسطينيين أن قذفوه بالبندورة احتجاجا على مقترحه الخبيث، وكان ذلك بمثابة التمهيد لمشروع حل الدولتين، وهو مشروع تقدّمت به بعد ذلك جامعة الدول العربية إلى الأمم المتحدة، كحل دبلوماسي يستبطن استسلاما لإسرائيل، افضى الى اتفاق (أوسلو)، بعد سنوات من المفاوضات، انتهى إلى قيام سلطة فلسطينية على مساحة 22% من أرض فلسطين ( قطاع غزة وبعض من الضفة الغربية)، بينما كان نصيب كيان إسرائيل 78% منها.
ولم يكن هذا الكيان الغاصب ليرضى انتصاب سلطة فلسطينية، محدودة الإمكانيات على تلك المناطق، بغير تنازلات ترضي غطرسته، فكانت من أهمّها القبول بتلك المساحة القليلة من الأرض الفلسطينية، وعدم المطالبة بغيرها من الأراضي المحتلة، والعمل بآلية التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة والأجهزة الأمنية الصهيونية، من أجل كبح جماح حركات المقاومة المتواجدة على الأراضي الفلسطينية، بتقديم معلومات ضافية عنها بطريقين، القبض على عناصرها المعروفة لدى عناصر السلطة، أو تقديم معلومات كافية عنها للمخابرات الصهيونية، لتتولى متابعتها والقبض عليها، أو تصفيتها حسب ما تراه تلك الاجهزة مناسبا لها.
سكوت ورضا الدول العربية بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، كان خيانة للقضية الفلسطينية العادلة، لكنّ أبعاد الاتفاق وما سيترتب عليه من مساوئ كان خطا أحمر، لم يسمح للإعلام العربي الرسمي التطرق اليه، كشف مدى تواطؤ خطير، برز واضحا بين الدول العربية وعدوّتهم اللدودة إسرائيل، التي أصبحت بين عشية وضحاها شريكة المنطقة في السلام والأمن، وصديقة يُعْتمد عليها على كل حال كأنما صفحة إجرامها طُوِيت معفِيّا عنها ومضت بغير حساب، قائمة المطبعين طويلة، وهناك الى اليوم من لا يزال على قائمة المنتظرين لأمر أمريكا بالدخول في القائمة، ومن بين هؤلاء كل الذين صوتوا في هذه الدورة لفائدة مشروع حل الدولتين، وهم يعلمون بطلانه تماما واستحالة تطبيقه، مع تفاقم الاستيطان في الضفة والقدس، وأنّه مجرد ذر رماد على عيون المغفلين.
دولة وحيدة تحمّلت مسؤوليتها التاريخية تجاه فلسطين، وتسبب موقفها من القضية الفلسطينية في تنمّر دول العالم عليها، وتعرّضها لعقوبات اقتصادية قاسية هي إيران، التي لم تتردد قيادتها ممثلة في قائد ثورتها الامام الخميني في إعلان موقف بلاده من فلسطين، كأرض محتلة يجب أن تتحرر بالقوة من البحر الى النهر، بحيث لا يبقى أثر لكيان إسرائيل بعد ذلك، وقد نجحت ايران في بناء محور مقاومة عتيد أثبت بمرور الزمن أنّه السبيل الوحيد الذي بإمكان من يسلكه أن يحقق الغاية منه وهي تحرير فلسطين من مشروع غربي خطير، يهدف إلى الهيمنة على المنطقة بأسرها، وليس فلسطين وحدها.
ولم تكن تونس والعراق بعيدتين عن موقف إيران فقد أثبتتا نفس الموقف، وقد عبّرتا عن ذلك بكل وضوح، بمقاطعتهما التصويت الذي قام منذ يومين بالجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث قاطعت جلسة التصويت التي أقيمت بالمناسبة، بينما شاركت فيه بقية الدول العربية، وأيّدت مشروعا خبيثا غير قابل للتحقيق أبدا، في ظل غطرسة إسرائيل، وتماديها في تنفيذ مشروعها إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وقد برهنت عن ذلك باستمرار عدوانها على لبنان وسوريا، وما قطاع غزة والضفة سوى دلالات واضحات مضافة إلى أهدافها العدوانية التوسعية.
- على حل الدولتين هو بحد ذاته موقف خيانيّ، صدر قديما من حكام العرب عبر جامعتهم العقيم، التي لم تلد لشعوبها شيئا مفيدا لفلسطين، وهؤلاء مدركون في قرارة أنفسهم أنه ليس بحلّ عمليّ، ولا هو يلبّي طموح الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه من مغتصبها، وهو عبارة عن مسكّن عملية جراحية، استأصلت خريطة فلسطين من حاضرة الوعي العربي، لتحل محلّها مساحة وهميّة لسلطة عميلة، انتصبت من أجل خدمة بقاء الكيان الصهيوني جاثما على أرض فلسطين، متوسّعا فيما حولها من الأراضي المجاورة، كالجولان وجنوب لبنان، مستمرّا في تحقيق مشروع الهيمنة الخطير على المنطقة بأسرها، مهددا أمنها ومواردها وحقوق شعوبها.
عودة احياء مخطط حل الدولتين، يبقى مجرّد محاولة لتطويق وتسكين الصراع القائم بين إيران ومحورها، وبين إسرائيل وأمريكا، وحلفائها من الدول المناصرة لبقاء هيمنة الغرب الصهيوني على فلسطين ومنطقة شاسعة، تشتمل على مدّخرات العالم من الطاقة الباطنية ( نفط وغاز ومعادن ثمينة أخرى)، وطاقات بديلة نظيفة كالشمس، وما ستوفره من طاقات جبّارة، من شأنها أن تحقق كفاية ورفاهية لشعوب المنطقة.
|