من عادة دول الغرب أن تجيد حساباتها، كلما أقدمت على القيام بعمل عدائي أمْلتْه عليه مصالحها، استوجب تدخلا عسكريا، من شأنه أن يحقق مطلبا ضروريا، يزيد من حظوظ هيمنة حلفها العسكري الغربي، ممتدّا طولا وعرضا، كشبكة عنقودية محيطة بالقارات الخمس، وأولويات قدّمتها خططهم الخبيثة، من أجل بسط نفوذ أمريكا، رأس الدجل المسيحي الغربي المتحكم في العالم بالتعدّي والظلم، والانتهاك السافر لحقوق الانسان، ومخطئ كل من يرى في البيت الأبيض، عنصرا أو قوة نفوذ مستقل في قراراته عن اللوبي الصهيوني، وهو اللاعب الأوّل المؤثر في السياسة الخارجية الأمريكية وتبّعها من الدول الأوروبية خصوصا الثلاثي ( بريطانيا / فرنسا/ ألمانيا)، صاحب النفوذ الذي لا تُرّدّ له كلمة، ويحظى منذ أن قام كيانه الإجرامي بأولوية مطلقة، في تلبية طلباته، وغض الطرف على اعتداءاته، فهو لا يعدُو كونه قاعدة الاستكبار العالمي المتقدّمة في عقر بلادنا.
سقوط المنظومة الغربية أخلاقيا وقانونيا، بات محسوما في نظر غالبية شعوب العالم، وساعة هذا السقوط باتت مسألة وقت فقط، من شأنها أن تكشف لنا كيفية حصول ذلك الانهيار المرتقب، وعلى يدي من سيقع الخلاص من قوى شيطانية، تجّندت من أجل الوقوف في وجه حركة إصلاح عالمية، بدأت ارهاصاتها تظهر بانتصار الثورة الإيرانية، وتنتشر دعوتها الصالحة، من خلال أفكارها ومواقفها الثابتة والعادلة، تجاه استحقاقات شعوب العالم المستضعف، لا تزال ترزح إلى اليوم تحت هيمنة وإرهاب قوى الغرب الظالمة المستبدّة، غارقة حكوماتها وشعوبها في أوهام ديمقراطية وحقوق الانسان - جنة الغرب الكاذبة- تبيّن منذ مدّة مدى بعدها عن الواقع الذي أكّد بما لا يدع مجالا للشك، زيف الغرب وبطلان دعاويه كلّها.
سقوط قناع المنظومة الغربية - كان من المفروض أن يكون باكرا بانكشاف وجه دولها الاستعماري لولا حكام عملاء زرعهم بيننا - وضع أتباعها من الدّول الأخرى في مأزق حقيقي مع شعوبها، فلم تبادر إلى التنصّل من تبعيّتها، خوفا من عواقب من شأنها أن تتضرر منها اقتصاديا، انتقاما عادة ما تلجأ إليه، في معاقبة كل من يعبّر عن براءته من سياساتها المنحازة للظلم دائما، ولا ترى حقّا لشعب من الشعوب في استقلال أو حرّية، بعيدا عن أجواء الغرب الفكرية والثقافية، لا تقيم وزنا للقيم والمبادئ الدينية والإنسانية عامة، كأنّما مقياس الغرب اعتبار الرجل الغربي أساسها ومحرار اعتبارها، ولا قيمة لغيره من الأعراق فيها.
هذا السقوط الأخلاقي سيستتبعه سقوط أشد إيلاما وتأثيرا، وهو السقوط المادي الذي يُتَوقّع حدوثه بين فترة وأخرى، لكن هل سيكون بأيد أهل الغرب انفسهم، عن طريق آخرين من خارج المكون الغربي، بما يعني أن الحرب مع المنظومة الغربية قادمة دون أدنى شك، وفيما تتجهز الأطراف المتصارعة للمعركة الحاسمة، يبدو أن أطرافا أخرى دخلت حلبة الصراع، وتريد أن تثبت أنها ليست مع سياسة الغرب المتطرّفة، ففي مؤتمر سياسي دعائي، أقامه (تشارلي كيرك) الرجل الغربي اليميني المتطرف، المعروف بمواقفه المساندة بلا تحفظ لغلواء رئيسه دونالد ترامب وتبيعه ناتنياهو، دوى صوت رصاصة قناص اخترقت عنق كيرك لترديه قتيلا في مشهد لم يكن متوقعا من الجمهور الحاضر، وما أحدثه من دلالات على أن السياسة الأمريكية المتبعة بشأن غزة خاطئة تماما، ومن شأنها أن تسبب خسارة كبرى من الجانب الأمريكي، في صورة مواصلة نهج مساندة المشاريع والخطط الصهيونية، بإفراغ القطاع من اهله، باستعمال طرق القتل والتدمير والتجويع لمن بقي منهم.
منفذ عملية الاغتيال قناص محترف متقاعد من الجيش الأمريكي، وقد قام بتنفيذ ما خطط له بمحض إرادته وعن قناعة تامة، بكون ضحيته بمثل خطرا على أمريكا نفسها، في صورة استمراره في بث مزاعمه الكاذبة، ونشر أفكاره المتطرّفة على مستمعيه، القاتل تبيّن أنّه مناصر للقضية الفلسطينية، ويعتبرها عادلة نابعة من مظلومية شعب لم يجد له ناصرا في حكومات الغرب التي رضيت بأن تكون مع إسرائيل الظالمة والمعتدية بدل أن تقف مع الحق الفلسطيني.
غضب الرئيس الامريكي بلغ مبلغا أمضى فيه على إقرار أقصى عقوبة بحق منفّذ عملية الاغتيال، دون أيّ إمكانية لتغيير الحكم إلى المؤبد، مقابل الدعوة للصلاة على (كيرك)، وكيرك ليس مجرد صحفي بل كان متطرفا طموحا ببلوغ مراتب عالية من الوظائف السياسية، وهو المرشح بأن يكون أصغر نائب بجوار فينس في الانتخابات القادمة، صاحب أفكار شديدة الغلوّ، داعيا فيها إلى الغاء قانون الحريات والمساواة، وأمريكا بالنسبة له خاصة للبيض فقط، وأنّ غير المسيحيين – ويقصد هنا المسلمين – لا مكان لهم في الدولة ولا حتى في مجالاتها التعليمية والإعلامية .
عملية اغتيال (كيرك) لا يمكن أن ينظر اليها على أنها عابرة، أو عمل فردي معزول عن المجتمع الأمريكي، بل يجب أن تُرى بعين الخبير الفاحص لخلفياتها، على أنّها بداية شرارة سيكون لها تأثير كبير على الأمريكيين عموما، من شأنه أن يضعهم في حالة صدام بين مختلف شرائحهم، خصوصا أولئك الذين تغيّرت مواقفهم من فلسطين خصوصا، ومن سياسة بلادهم من القضايا العالمية عموما، وعملية تصحيح مساراتها المعوجّة سيكون لها تداعيات خطيرة في أقل تقديرها على مستوى ارباك الشأن الداخلي الأمريكي، قد يؤدّي إلى نشوب حرب أهلية، تفتح باب تفكك الولايات الأمريكية بحيث لا تعود أبدا كما كانت عليه من قبل.
قناعتنا أن شعوب الغرب فيها من أمثال القناص ما يفوق أمثال كيرك، ويمتلك من العقلاء ما يرجّح إمكانية تراجع حكوماته، عن مواصلة دعم مشروع حكامهم الفاسد في مناصرة إسرائيل، فمقياس الربح والخسارة مع ضغط جماهير الغرب، الواعية والمدركة لمخاطر التطرف وآثار ظلمه ، سيكون لكل ذلك تأثير كبير في حسم المواقف لصالح الحق وأهله
|