قبل ردحٍ من الزمان في اللا مكان، وقبل الوجود، شاءت يد القدرة إيجاد قوةٍ جاذبةٍ للأرواح، ووثقت ذلك بعبارةٍ كُتبت على ساق العرش: (الحسين مصباح هدًى وسفينة النجاة)
وكل مصباح لابد أن تنجذب نحوه فراشات النور، شخصية الحسين الجذابة أسرت أرواحًا لنخبةٍ واعيةٍ تفردت بفضائل عديدةٍ ووعيٍ والتزامٍ لا نظير له ولا مثيل، وقد أكد على هذا بمقولةٍ تخلدت على مدى التاريخ: (لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي).
ضمّت هذه النخبة رجالاً اجتمع فيهم الولاء، وامتلكوا قدرةً على التأثير لتغيير المعادلات وقلب الموازين، مما جعلها تحتل مكانة مميزة في التأريخ الإسلامي.
من بين هذه النخبة يُسطر اسم زهير بن القين بأحرفٍ من نور.
هو زهير بن القين الأنماري البجلي، كانت الكوفة مهد ولادته حيث نمى وشب بين قومه محاربًا شجاعًا، قادته هداية الله إلى أشرف الصفوف في ساحات المعارك، وليزداد الشرف مكانة اختير من بين تلك الثلة المباركة ليكون قائدًا على ميمنة جيش الحسين (عليه السلام).
في الطريق إلى معركة كربلاء أثبت زهير ولاءه والتزامه بقضية الحسين (عليه السلام) ، وساهم بجرأته وشجاعته في دعم جيش الحق، قد تبدو قصته كغيرها من قصص البطولة لكنها تتجسد بروح السعي للحقيقة مهما كانت الأثمان.
قصة زهير هي تذكير بأن الإيمان الحقيقي لا حدود له، بل هو يتجاوز كل الحدود ليصل إلى أسمى معاني الوفاء والولاء للمبادئ.
حين استدعاه الإمام الحسين (عليه السلام) أجابه على كره وما لبث أن عاد مسرعًا متهللًا، ثم أمر بفسطاطه وما كان عنده من ثقلٍ ومتاعٍ فحوّله إلى ركب الإمام (عليه السلام)، لماذا وكيف؟!
ربما ذكّره الإمام بحديثٍ طالت عليه الأيام حيث صرح لأصحابه: "من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد وسأحدثكم حديثًا: غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا، وكان معنا سلمان الفارسي فقال لنا: "إذا أدركتم سيد شباب آل محمد فكونوا أشد فرحًا بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم" فأما أنا فأستودعكم الله" ثم طلق زوجته ولزم الحسين حتى قتل معه.
المثير للانتباه أن سلمان، الذي قال فيه أمير المؤمنين: «امرؤٌ منا وإلينا أهل البيت، مَن لكم بمثل لقمان الحكيم، علم العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرًا لا ينزف» سلمان كان عنده علمٌ بأن الحسين (عليه السلام) يقتل وأن بعض الذين كانوا معه في فتح بلنجر سيدركون خروجه.
لقد حدث تحولٌ سريعٌ في موقف زهير فبعد أن كان كارهًا لقاء الحسين (عليه السلام) وبعد تردده تفكر جيدًا حتى تذكر ووصل للنتيجة الصحيحة فانضم لركب الحقيقة بيقينٍ وشوقٍ كأنه وجد ضالته في كلام سلمان معه قبل ثمانية عشرة سنة.
وفي لحظةٍ من تاريخ الإنسانية حيث الحق والباطل يتواجهان، برز زهير بن القين كأحد الأبطال الذين وقفوا بثبات أمام جيش الظلم والطغيان، وبينما كان يستعد للمعركة حاور الحسين (عليه السلام) أصحابه مؤكدًا لهم أهمية الثبات والصمود في وجه الأعداء، فكان تفاعل زهير إيجابيًا كاشفًا عن وصوله للحقيقة: "والله لو كانت الدنيا لنا باقيةً وكنا فيها مخلدين إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها"
ليس هذا فحسب، بل صرح مقرعًا الأعداء: "والله للموت معه أحب إليّ من الخلد معكم... والله لا تنال شفاعة محمدٍ قومًا أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم"
فناداه رجل من خلفه: يا زهير، إن أبا عبد الله يقول لك: «أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ» فرجع.
وحين حان وقت تحقق بشارة سلمان المحمدي، تقدم زهير فجعل يقاتل قتالًا لم ير مثله ولم يسمع بشبهه، حمل على القوم وهو يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين *** أذودكم بالسيف عن حسين
إن حسينا أحد السبطين *** من عترة البر التقي الزين
ذاك رسول الله غير المين *** أضربكم ولا أرى من شين
يا ليت نفسي قسمت قسمين...
ثم رجع فوقف أمام الإمام، وقال:
فدتك نفسي هاديًا مهديا *** اليوم ألقى جدك النبيا
وحسنًا والمرتضى عليا *** وذا الجناحين الشهيد الحيا
فكأنه ودعه، وعاد يقاتل فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه، ولما سقط في ساحة المعركة أبّنه الإمام بكلماتٍ تحمل في طياتها عظم الفاجعة، ونبل الشهيد "لا يبعدنك الله يا زهير، ولعن الله قاتلك، لعن الذين مسخوا قردةً وخنازير" هذه الكلمات لا تعكس الحزن لفقد هذا البطل فقط، بل تعكس التكريم والتقدير للرجل الذي اختار الحق على الرغم من كل التحديات.
قصة زهير تجسيدٌ للتضحية والشجاعة وروح الإنسانية التي تسعى لنصرة الحق مهما كانت التضحيات، فهي ذكرى لأجيالٍ قادمةٍ بأن الحق دائمًا ما يجد من يدافع عنه، وأن الشجاعة الحقيقية تأتي من الالتزام بالمبادئ والقيم، وأن التفكر سبيل التذكر والوصول للحق والحقيقة.
................................................
أعيان الشيعة للشيخ محسن الأمين /ج ٧
أنصار الحسين ثورة والثوار محمد علي الحلو
الإمام الحسين وأصحابه للشيخ فضل القزويني
حياة الإمام الحسين للشيخ باقر شريف القرشي/ ج ٣
قراءة جديدة للفتوحات الإسلامية للشيخ علي الكوراني/ج٢
|