احياء ذكرى عزيزة علينا، والاحتفال بها مسالة ليست بحاجة إلى دليل يؤيد القيام بها، فهي حركة إيمانية نابعة من قناعة أي شخص مؤمن بأدائها، تعبيرا عن مدى تعلقه بنبيه، واستحباب احيائها باظهار الفرح والسرور وما شاكل ذلك من مظاهر الغبطة والتبرك بها، كمناسبة دينية متعلقة بأفضل خلق الله صلى الله عليه واله، في ذكرى مولده الشريف، نستحضر من خلالها سيرة إنسان مثال وعقل كامل، حباه الله برعاية وعناية خاصة، ومنحه حبا لم ينله غيره من صفوته من خلقه.
استحضار ذكريات متعلقة بالاسلام هي من صميم الدين معتقدا وأداء، والتعاطي الايجابي بأحداثه وشخصياته، ومن ذهب الى انكار نسبتها، والادعاء عليها أنها بدعة، ناكرا علاقتها الوطيدة بالدين الخاتم، فقد اشتبه عليه مفهوم البدعة، بعدما فصله عن متعلقه بشخص النبي صلى الله عليه واله، ونحن ان فقدنا الاثر الدال على أنه اقامه في اطار شخصي وخاص كمناسبة للاحتفال به، فليس لدينا حسب ما جاءنا من روايات ما ينفي أو يثبت وقوعه في البيت النبوي، وأخص بالذكر هنا بيتا واحدا قد حدده الوحي، وهو بيت فاطمة وعلي بيت اصطفاه الله سبحانه، كما اصطفى من قرله من بيوت الأنبياء والمرسلين، سنة إلهية أجراها في الأمم السابقة: ( إن الله اصطفى ادم ونوحا وآل إبراهيم وال عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض)، (1) فهي ماضية فيهم الى آخر سلسة اصطفائه، وبقوله: ( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا)(2)، تأكيد منه جلّ شأنه على طهارة هؤلاء المصطفين الأخيار وعصمتهم من كيد الشيطان وأحابيله.
هؤلاء فقط من يمتلكون متعلقات النبي صلى الله عليه واله من خصائص وبيانات ومواريث تاريخية خاصة به، والإحتفال بمولده المبارك في زمانه، خصوصية من خصوصياته، لم ي،شأ أن يظهرها خاصته من أهل بيته ويلزم بها تبعا لذلك أمته، وإن منعه حياؤه وشدة تواضعه على اظهار شيء منها، فلن يكون ذلك مانعا لنا من أن نستحضر كل تلك المتعلقات، سيرة وآدابا وقيما عليا، فنحيي ذكراها، كلما حل موعد منها في حياتنا، تيمّنا بحلولها، وتعبيرا صادقا منا على مدى ولائنا لشخصه ومقدار حضوره فينا أجيالا متعاقبة، دليلا نقدّمه لله أوّلا على منّته التي من بها علينا، بأن جعل أفضل خلقه وحبيبه منّا، ولهذا الرسول الذي جاء ليخرجنا من ظلمات الجاهلية الجهلاء، إلى نور الإيمان بالدين الخاتم الذي بشر به أولوا العزم من الرسل، الإسلام العظيم.
قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (3)
فمحبة الله تستوجب علينا أن نتّبع نبيّه في كل متعلقاته الحياتية، باستثناء خصوصياته الخاصة به، واتباعه فيما عدا ذلك تعبير منا على مدى تعلقنا به شخصا وآثارا، ويوم كيوم ولادته يوم مبارك من أيّام الله التي يجب أن تُحيا بالفرح والسرور، علامة إيمان وصدق صادرة عن كل مسلم آمن بما جاء به محمد بن عبد الله، لخير البشرية ودوام سعادتها في الدنيا والآخرة، ومن تجاهل شيئا من خصاله، وما ترتّب عنها فقد جفاه، ولم يكن من أهل اتباعه والاقتداء به
ولو ان منكري الاحتفال بالمولد النبوي ثابوا إلى رشدهم من اشتباههم وغفلتهم، لكانوا أقرب الى الاقرار بفضل نبيهم العميم على الامة، ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (4) فمن تصدى لتلك الاعمال الجليلة، وبذل جهودا مضنية من أجل غرسها فيمن تقبّلها من الأنفس الصادقة، نائيا بها عن جاهلية جاحدة لاي قيمة انسانية ووجودية سليمة، حقيق بأن يُعلى من شأنه، وإن كان ذلك الشأن عاليا بتعظيم المولى له، أفلا يكون تعظيم المولى له حافزا لنا على أن نبادر نحن كأمّة مؤمنة بما جاء إلى إعطائه بعض حقه الذي يستحقّه عن جدارة.
واستغرب واستنكر ممن نسب الاحتفال بالمولد النبوي إلى كونه بدعة يجب الكف عنها، وفي رصيده رواية منسوبة للنبي صلى الله عليه واله جاء فيه: (من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها.)(5) أفلا يكون الاحتفال بمولد خير البرية صلى الله عليه وآله، سنّة حسنة يجب العمل بها، وإن فقدنا أثرها في سيرته العطرة؟ وهي التي تذكّرنا بأفضل خلق الله خلقا وخلقا وسيرة، تتجدد ذكراها كمحطة نستخلص منها معاني الأدب الرفيع، وقيم الانسان الكامل في أخلاقه التي عظمها خالقه بين مجتمعه، وإحياء يوم مولده الذي لم يكن يوما عاديا في تاريخ البشرية، وقد جاء فيه أنّه عند ولادته المباركة ارتجّ إيوان كسرى، وسقطت أربعة عشرة شرفة منه، وانخمدت نار فارس التي كانت تُعبد، وجفّت بحيرة ساوة، وتقع بحيرة ساوة قرب مدينة "ساوة" في بلاد فارس وهي الآن بلدة تقع بين مدينة "الري" (طهران حاليًا) ومدينة همدان، وتبعد كل منهما ثلاثون فرسخاً حسبما جاء في كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي.
ووصفها ياقوت الحموي في كتابه فقال عنها: سَاوَهْ: بعد الألف واو مفتوحة بعدها هاء ساكنة: (مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط، بينها وبين كل واحد من همذان والري ثلاثون فرسخا، وبقربها مدينة يقال لها آوه، فساوه سنّيّة شافعية، وآوه أهلها شيعة إمامية، وبينهما نحو فرسخين، ولا يزال يقع بينهما عصبية، وما زالتا معمورتين إلى سنة 617 فجاءها التتر الكفار الترك فخبّرت أنهم خربوها وقتلوا كل من فيها ولم يتركوا أحدا البتة، وكان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها بلغني أنهم أحرقوها، وأمّا طول ساوه فسبع وسبعون درجة ونصف وثلث وعرضها خمس وثلاثون درجة، وفي حديث سطيح في أعلام النبوة: وخمدت نار فارس وغارت بحيرة ساوه وفاض وادي سماوة فليست الشام لسطيح شاما.) (6)
وتساقطت الأصنام المنصوبة على الكعبة على وجوهها، وخرج نور معه صلى الله عليه وآله أضاء مساحة واسعة من الجزيرة، وفيها رأى كسرى أنو شيروان رؤيا مخيفة أفزعته فلبس تاجه وقعد على سريره وجمع وزراءه ومرازبته وأخبرهم بما حدث ففسروه له بأن حدثًا عظيمًا قد وقع في بلاد العرب وأرسل إلى النعمان ابن المنذر ليرسل له من يفسر ما حدث فأخبره المفسر أن ملكه سيزول بميلاد نبي في بلاد العرب".وكانت ولادة النبي صلى الله عليه وآله على غير ولادات سائر البشر مختوناً مقطوع السرّة، وهو يقول: «الله أكبر، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً» (7)
من الدلائل القرآنية الأخرى التي عبّرت عن قيمة يوم مولد النبي عيسى بن مريم عليه السلام، ونبينا قطعا أفضل منه، ما جاءت به الآية: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) (8) هو في فضله كما صرح به ابن كثير في تفسيره: إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال، التي هي أشق ما يكون على العباد، صلوات الله وسلامه عليه.(9) فعن تلك السلامة والخصوصية يأتي تأكيدنا، على قيمة وأهمية يوم مولد نبيّنا صلى الله عليه وآله، وما جرى فيه ببركته من الآيات العظام، وبالتأكيد فإن أعظمها ساعة ولادته المبشرة بخاتمية الرسالات الإلهية، وما تظهر فيها من دلائل قِيَميّة بواسطة هذا النور السّاطع بالحكمة، نموذجا حقيق بكل إنسان أن يسير على خطاه بيقين تامّ بأنّ السّير في أثره سبب نجاة من غوايات الشيطان.
إنّ في إحياء ذكرى عزيزة كذكرى مولد سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله، هي اعتراف عمليّ باستمرار تعلّق الأمّة بنبيّها، وتأكيد على ارتباطها المتواصل به دون أيّ انقطاع جيلا بعد جيل، فمن دعا بدعوة بدعيّة الاحتفال بذكرى مولده، فقد جفا نبيّه وأخلّ بواجب مودّته ورضي بأن ينساق وراء من دعا إلى انكار الإحتفال به، على أساس بعيد عن الدين وصاحبه صلى الله عليه وآله، وتنتفي بدعية الاحتفال بمولده باتصالها الوثيق بشخصه من جهة، وأنّه يوم من أيّام الله التي يجب أن تراعى بما تستحق من أهميّة من طرف كل مسلم، خصوصا إذا تعلق الأمر بالدين كمعتقد راسخ، حمله المؤمن به ملتزما بأداء تفاصيله، وإن كانت صغيرة في نظر البعض، لكنها كبيرة ومعبرة عند من اعتبرها نابعة من صميم الإسلام، وتفاصيله التاريخية المتصلة به اتصالا وثيقا لا تنفصل عنه بسبب من الاسباب.
فلنحيي ذكرى نبيّنا الخاتم لسلسلة الأنبياء والمرسلين إمامهم وسيدهم، بالذكر الطيّب الجميل وبالاقتداء الحسن، فإنّ في استحضار سيرته العطرة من يوم ولادته حتى يوم شهادته، تعبير عن إيمان والتزام بشخصه ودينه، فلنكن محمّديين في حياتنا أسوة به، واحياء مناسباته هي احياء لقيم عالية المضامين جاء بها ليعلّمها من آمن به واتبعه، خصوصا أولئك الذين قال عنهم بانهم أحبابه الذين سيأتون من بعده، فيجدون صحائف عنه فيؤمنون بها، دون أن يروه شخصا ومثالا للدين الخاتم وقيمه، مولده ليس بدعة، وانما البدعة من هؤلاء الذين افتروا على هذه المناسبة بافتراء جاهلي خاطئ، غنّما يدعون بدعوى انساء المسلمين عن واجب اتباع نبيّهم بما يهديهم سبيل الرشاد، وهي دعوة استمرار عطائه الرباني وان غاب شخصه عنا يبقى القدوة والأسوة الحسنة دائما فسلام عليه يوم ولد، ويوم استشهد مظلوما، ويوم يقوم على حوضه، داعيا خلص اتباعه إلى كاس منه سائغة رويّة، لا ظمأ بعدها أبدا، طوبى لكم أيها المحتفلون بمولد خير البريّة وحسن مآب.
المراجع
1 – سورة آل عمران الآية 33
2 – سورة الأحزاب الآية 33
3 – سورة آل عمران الآية 31
4 – سورة الجمعة الآية 2
5 – سنن ابن ماجه المقدمة ج1 ص 199ح 203 / سنن الدارمي المقدمة ج 1ص443 ح 529 / مسند احمد أول مسند الكوفيين ج31 ص 536ح 19200
6 – معجم البلدان ياقوت الحموي ج2 ص 179.
7 – سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد محمد بن يوسف الصالحي الشامي ج1 ص347 الباب الثامن/ بحار الأنوار المجلسي ج 15 ص 331/ السيرة الحلبية برهان الدين الحلبي
8 – سورة مريم الآية 33
9 – تفسير ابن كثير سورة مريم الآية 33
|