مع انطفاء آخر شمعة في درب الأربعين، تلوح على كربلاء ملامح صمت غريب. ليست هي المدينة التي كانت قبل أيام تغصّ بالخطى والرايات والأصوات والدموع. لقد غادرت الملايين، وبقي الأثر أثقل من أن يُمحى. هنا تبدأ قصة أخرى لا تُكتب بالحروف بقدر ما تُكتب بالقلوب: قصة الحزن والوجع الذي يعتصر أصحاب المواكب الحسينية والزائرين، عراقيين وعربًا وعجمًا وأجانب، وهم يودّعون موسم الأربعين المبارك.
أصحاب المواكب: تعب ينقلب فراغا
أصحاب المواكب هم أول من يشعر بالفراغ بعد انتهاء الزيارة. فقد أمضوا أسابيع يهيئون القدور، ينصبون الخيام، يستقبلون القوافل، يوزعون الطعام والشراب والراحة بلا كلل. كانوا أشبه بخلية نحلٍ لا تعرف التوقف. لكن ما إن تنقضي الأربعين حتى ينقلب ضجيج الخدمة إلى سكون ثقيل.
يقول أحد الخَدَمة وهو يطوي رايته: "نشعر أن حياتنا تبدأ مع الأربعين وتنتهي بانتهائها. كأنّ الخدمة هي أوكسجيننا، فإذا انقطع الهواء مات الجسد حيًّا."
الحزن هنا ليس على ما بذلوه من جهد، بل على انقطاع نبع العطاء الروحي. لقد عاشوا أيامًا تغذي الروح قبل الجسد، فإذا بالقدور تُطفأ والطرقات تخلو، فتنهشهم غربة صامتة.
العراقيون: غربة الداخل
بالنسبة للعراقيين، الذين جاؤوا من الجنوب والوسط والشمال مشيًا على الأقدام، فإن الوجع مضاعف. فالأرض هي أرضهم، لكنّهم يشعرون بالاغتراب حين تنفضّ مواسم اللقاء. الطريق الذي امتلأ بالخطى والدموع يصير فجأة صحراء صامتة.
قال شاب من الناصرية: "نمشي ونحن نحلم باللقاء، لكن الوداع أصعب من كل المسافة… كربلاء تُغادرنا ولا تغادرنا."
إنه نوع من الغربة داخل الوطن نفسه، غربة لا يُعالجها إلا وعد العودة في العام المقبل.
العرب: خوف من انطفاء الجذوة
الزوار العرب، القادمون من لبنان وسوريا والبحرين واليمن ومصر وغيرها، حملوا معهم من بلدانهم شوقًا تراكم عبر السنوات. كانوا يحلمون بالوصول إلى كربلاء كما يحلم الغريب بالعودة إلى بيت الطفولة. لكن لحظة العودة تُمزّق قلوبهم.
قال زائر لبناني وهو يتهيأ لمغادرة العتبة: "في بلادي أعيش مع هموم السياسة وضجيجها، أما هنا فأعيش مع نفسي… أخشى أن أفقد هذه الطمأنينة بعد الرحيل."
العجم: دموع على التربة
أما القادمون من إيران والهند وباكستان وأفغانستان وغيرهم، فإن حزنهم يتجلى بصور مفعمة بالرمزية. بعضهم يجلس على الأرض قرب الضريح ويبكي بكاءً لا ينقطع، وبعضهم يحمل قبضة من تربة كربلاء في جيبه كزادٍ يحمله معه إلى وطنه.
يقول زائر باكستاني: "جئنا من أقاصي الأرض لنقول للحسين لبيك، فكيف نعود ونتركه وحيدًا؟ قلوبنا ستظل هنا حتى نرجع."
الأجانب: دهشة الفقد
الزوار الأجانب من أوروبا وإفريقيا وشرق آسيا، أولئك الذين يعيشون التجربة لأول مرة، يشعرون بوجع من نوع آخر. بالنسبة إليهم، الأربعين ليست فقط شعيرة دينية، بل اكتشافٌ مذهل لعالم إنساني غير مألوف. لقد شاهدوا ملايين الناس يخدم بعضهم بعضًا بلا مقابل، فارتسمت في قلوبهم دهشة يصعب أن تُنسى.
قالت زائرة أوروبية: "لم أرَ في حياتي ملايين الناس يخدم بعضهم بعضًا بلا مقابل… حين أغادر سأشعر أني فقدت شيئًا لا يعوّض."
لكن خوفهم الأكبر أن تكون هذه التجربة الأولى والأخيرة، وأن لا يُكتب لهم الرجوع.
وجع عابر للجنسيات..
الجامع بين الجميع، مهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم، هو ذلك الفراغ النفسي والوجداني الذي يملأ القلوب بعد انتهاء الأربعين. وجع يشبه الفقد المؤقت: عراقي يذرف دمعة على دربٍ خلا من الأقدام، عربي يعلّق قلبه بدعاء، أعجمي يضم التربة إلى صدره، وأجنبي يتساءل إن كان سيُكتب له الرجوع.
أبعاد نفسية واجتماعية..
من الجانب النفسي: تنشأ حالة من الانفصال الوجداني بعد انتهاء التجربة، حيث يختفي فجأة الجو الروحي الذي كان يغمر الأفراد، فيدخل كثير منهم في حالة من الحزن والحنين.
من الجانب الاجتماعي: الزيارة صنعت شبكة علاقات إنسانية عابرة للحدود، وحين تنتهي، يشعر الجميع أنهم فقدوا مجتمعًا عالميًا صغيرًا ودفئًا قلّ نظيره.
من الجانب الروحي: هناك إحساس عميق بأن كربلاء لا تُودّع، بل تترك في كل قلب قطعة من النور، تبقى حيّة حتى الزيارة القادمة.
خاتمة: كربلاء لا تُغادر
إنه ليس مجرد موسم ينتهي، بل عرس روحي ينفضّ على وعد لقاء جديد. الحزن هنا ليس نهاية، بل بداية شوقٍ جديد. كربلاء لا تُغادر زائريها… إنها تبقى في أرواحهم كجرحٍ مقدّس، يذكّرهم دائمًا أنهم تركوا خلفهم قطعة من القلب على أمل العودة.
|