بسم الله الرحمن الرحيم
كلُّ ما في هذا الوجود قد يدخلُ في باب الأعداد، ويُمكِنُ أن يُضَمّ إليه مِثلُه، فيصير الواحد اثنان، والاثنان ثلاثة وأربعة، وهكذا.. إلا الله تعالى!
فالله واحدٌ لا ثانيَ له، لا يدخل في باب الأعداد كما قال عليٌّ عليه السلام: فَقَوْلُ القَائِلِ: وَاحِدٌ، يَقْصِدُ بِهِ بَابَ الأَعْدَادِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الأَعْدَادِ (التوحيد للصدوق ص83).
وقد خَلَقَ الله الأعداد، وجعل لها سماتٍ وخصائص، تشتركُ تارةً وتتمايز أخرى.
وقد تنوَّعت استخداماتها، فقد تستخدم للمبالغة، كما في قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾، قال الشيخ الطبرسي: الوجه في تعليق الاستغفار بسبعين مرة المبالغة لا العدد المخصوص، ويجري ذلك مجرى قول القائل (لو قلت لي ألف مرة ما قبلت) والمراد: إني لا أقبل منك (مجمع البيان ج5 ص84).
وقد تستخدم لغير ذلك كالتنبيه على معنىً من غير أن يكون مقتصراً على العدد.
لكنَّ كلَّ هذا خلاف الأصل، فإنَّ الأصل في استخدام الأعداد هو وجود خصوصيَّةٍ فيها، إذ أنَّ مقتضى حكمة الحكيم أن يفعل كلَّ شيءٍ لحكمة، فكيف بالإله العليم الحكيم؟!
ومن أوضح صُوَر ذلك قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام﴾ (هود7)، قال الإمام الرضا عليه السلام: كَانَ قَادِراً عَلَى أَنْ يَخْلُقَهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلَكِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لِيُظْهِرَ لِلْمَلَائِكَةِ مَا يَخْلُقُهُ مِنْهَا شَيْئاً بَعْدَ شَيْءٍ، وَتَسْتَدِلَّ بِحُدُوثِ مَا يَحْدُثُ عَلَى الله تَعَالَى ذِكْرُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّة (التوحيد للصدوق ص320).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهَا فِي أَقَلَّ مِنْ لمحِ البَصَرِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الأَنَاةَ وَالمُدَارَاةَ أَمْثَالًا لِأُمَنَائِهِ، وَإِيجَاباً لِلْحُجَّةِ عَلَى خَلْقِهِ (الاحتجاج ج1 ص254).
لقد صارَ إكمال الحجة آناً بعد آن، وإثباتها وإتمامها بأوضح السبل، وتعظيمها وبيانها بأوضح بيان، أمراً يستدعي أن يخلق الله الكون في ستَّةٍ أيامٍ لا في طرفة عين.
وكان لهذا الأَمَدِ المعلوم حكمةً يعلمُها الحكيم، فاختار أياماً سِتَّةً بدل السبعة..
فيما خلق سبع سماوات وسبع أرضين بدل الثمانية..
وجعل حملة العرش ثمانيةً بدل التسعة..
وجعل لفاطمة عليها السلام عنده تسعة أسماء بدل العشرة..
وجعل الإيمان عشر درجاتٍ لا أكثر..
وهكذا مَايَزَ تعالى في الأعداد، بدءً من أمور الكون والتكوين، وانتهاءاً بأمور العبادة والتشريع.
وأنتَ إذا نظرت إلى الشهور والزمن والوقت رأيت الله قد أوجده على هيئةٍ خاصةٍ موقوتة لها سماتها وأعدادها، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْض﴾ (التوبة36)، وجعل تأويلها في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام (راجع الغيبة للنعماني ص88).
وإذا نظرت إلى أحكام الشريعة وجدت كثيراً منها قد قُيِّدَت بعددٍ خاص، كالصلوات الخمسة الواجبة، وإطعام المساكين الثلاثة، أو العشرة، أو الستين، وتحديد الشهود بشاهدين أو أربعة، وهكذا بدءً من الطهارة وانتهاءً بالحدود والديات، والتي تختلف باختلاف الموارد والأحوال.
بل ترى ذلك في بدء تكوين الإنسان بنفسه.. فإنه: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً نُطْفَةٌ، وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً عَلَقَةٌ، وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً مُضْغَة (الكافي ج6 ص16).
لقد اقترن هذا العدد (40) بالإنسان منذ بدء مراحله إذاً، إلى أن يبلغ أشُدَّه (أربعين سنةً)، وكانت الحكمةُ جاريةً فيه كما جرت في خلق السماوات والأرض في ستة أيام: وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الأَنَاةَ وَالمُدَارَاةَ أَمْثَالًا لِأُمَنَائِهِ، وَإِيجَاباً لِلْحُجَّةِ عَلَى خَلْقِهِ..
لا نزعمُ نحن ولا غيرنا الإطلاع على أسرار الغيب، ومعرفة وجه الحكمة في كلِّ عددٍ من هذه الأعداد، فهذا ما اختصَّ الله تعالى به أولياءه الكُمَّل، وجعله دليلاً على موفور علمهم وعظيم فضلهم وسموِّ شأنهم..
لكنَّنا نعلم أنَّه تعالى كما واعَدَ كليمه موسى عليه السلام، وجعل له ميقاتاً أربعين ليلة، وكما حرَّم الأرض المقدَّسة على بني اسرائيل لمّا قعدوا أربعين سنة، وكان في ذلك إيجاباً للحجَّة على خلقه..
كما نعلمُ ذلك..
نعلَمُ أنَّ ما جرى منذ يوم العاشر من المحرَّم، إلى يوم الأربعين، هو واحدٌ من (أعجب وأبرز مظاهر الأناة) من الله لعباده، رغم اقترافهم لأفظع الجرائم وأبشعها على الإطلاق!
في هذه الأيام الأربعين ارتكبت هذه الأمَّة المنكوسة ما لا يحصى من الرذائل، فبعد كلِّ أحداث عاشوراء الطويلة الفجيعة اجتثوا الرأس الشريف وفصلوه عن البدن الطاهر..
البدن الذي لطالما قَبَّله رسول الله باكياً على ما يجري في تلك الساعة.. وهو الذي كان (ص) إِذَا دَخَلَ الحُسَيْنُ (ع) جَذَبَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (ع): أَمْسِكْهُ!
ثُمَّ يَقَعُ عَلَيْهِ فَيُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي!
يَقُولُ: يَا أَبَتِ لِمَ تَبْكِي؟
فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ، أُقَبِّلُ مَوْضِعَ السُّيُوفِ مِنْك! (كامل الزيارات ص70).
في ذلك اليوم انفصل الرأس عن الجسد..
واستعظم الكونُ بأسره الحدث..
ففي الزيارة الجامعة: فَانْزَعَجَ الرَّسُولُ، وَبَكَى قَلْبُهُ المَهُولُ، وَعَزَّاهُ بِكَ المَلَائِكَةُ وَالأَنْبِيَاءُ، وَفُجِعَتْ بِكَ أُمُّكَ الزَّهْرَاءُ، وَاخْتَلَفَتْ جُنُودُ المَلَائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، تُعَزِّي أَبَاكَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَأُقِيمَتْ لَكَ المَآتِمُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَلَطَمَتْ عَلَيْكَ الحُورُ العِينُ، وَبَكَتِ السَّمَاءُ وَسُكَّانُهَا، وَالجِنَانُ وَخُزَّانُهَا، وَالهِضَابُ وَأَقْطَارُهَا، وَالأَرْضُ وَأَقْطَارُهَا، وَالبِحَارُ وَحِيتَانُهَا، وَمَكَّةُ وَبُنْيَانُهَا، وَالجِنَانُ وَوِلْدَانُهَا، وَالبَيْتُ وَالمَقَامُ، وَالمَشْعَرُ الحَرَامُ، وَالحِلُّ وَالإِحْرَامُ (المزار الكبير ص506).
كلُّ كلمةٍ من هذه الكلمات تحتاجُ وقفةً لتصوُّرِها.. ثم محاولة فهمها..
بكاء قلب الرسول المَهول.. وفجيعة الزهراء البتول.. أمورٌ تفوق قدرتنا على الإدراك..
وهي أعجب من بكاء السماء وسكانها والجنان وخزانها.. فإنهم عليهم السلام أئمة الوجود وسادته، بهم حفظه وبقاؤه!
لذا حَقَّ للكون أن يبكي ونبكي مضاعفاً:
تارةً لما جرى على إمامه وإمامنا الحسين عليه السلام.
وأخرى لبكاء الرسول.. وفجيعة البتول.. وحزن الإمام.. فكلُّه مما يزيد القلب همَّاً وغمَّاً وألماً وحزناً..
ولكن..
لستُ أعرفُ ما هو الأعجب؟!
عظيم المصاب وأثره!
أم عظمة أناة الله وحلمه!
فإذا تَعَجَّبنَا من صبره تعالى على الأرجاس، استحضرنا قولهم عليهم السلام: وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الأَنَاةَ وَالمُدَارَاةَ أَمْثَالًا لِأُمَنَائِهِ، وَإِيجَاباً لِلْحُجَّةِ عَلَى خَلْقِهِ!
ولقد ظهر في عاشوراء من أناة الحسين عليه السلام ما يثير العجب، ففي زيارته عليه السلام: لَمْ يَبْقَ لَكَ نَاصِرٌ، وَأَنْتَ مُحْتَسِبٌ صَابِرٌ، تَذُبُّ عَنْ نِسْوَتِكَ وَأَوْلَادِكَ!
هذا لونٌ من ألوان البلاء، الإمام المعصوم المطهَّرُ لا يجدُ ناصراً! ثم يحتسب ذلك عند الله ويصبر! ذابَّاً عن نسوته وأولاده! فالقوم أولادُ أحقادٍ ورذائل.. لا يؤمن جانبهم حتى على النساء والأولاد!
وللبلاء لونٌ آخر يدمي القلب، حيث أنَّ الإمام في آخر لحظاته، عندما رشح للموت جبينه، كان بحالٍ عجيب، ففي زيارته: تُدِيرُ طَرْفاً خَفِيّاً إِلَى رَحْلِكَ وَبَيْتِكَ، وَقَدْ شُغِلْتَ بِنَفْسِكَ عَنْ وُلْدِكَ وَأَهْلِك! (المزار الكبير ص504).
ما أعجب هذه الكلمات! وما أصعب هذا الموقف!
إنَّ صاحب هذه الكلمات هو الإمام الحجة المهدي عليه السلام، يخاطب فيها جدَّه الحسين عليه السلام!
إذا ما قرأه المؤمن خنقته العبرة، وغلبته الدمعة، وانكسر قلبه، وتعجَّب من أناة إمامه وحلمه وتسليمه، وهو الذي: سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِمُهْجَتِهِ!
لكنَّ البلاء بعد تلك الساعة ما ارتفع، وما انتهت الرزايا.. ومن أعظمها ما في زيارته عليه السلام: وَسُبِيَ أَهْلُكَ كَالْعَبِيدِ! وَصُفِّدُوا فِي الْحَدِيدِ، فَوْقَ أَقْتَابِ المَطِيَّاتِ، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ حَرُّ الْهَاجِرَاتِ، يُسَاقُونَ فِي الْبَرَارِي وَالْفَلَوَاتِ، أَيْدِيهِمْ مَغْلُولَةٌ إِلَى الْأَعْنَاقِ، يُطَافُ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ (المزار الكبير ص506).
كان الإمام في حياته يذبُّ عن نسائه وأطفاله!
وفي ساعة وفاته يُديرُ طرفاً خفياً إليهم!
وبعد ذلك يرقبُ مِن على الرُّمح أهله سبايا كالعبيد!
فإنا لله وإنا إليه راجعون..
أربعون يوماً ظلَّ الرأس الشريفُ شاهداً على هذا السبي!
أربعون يوماً ظلَّ الرأس غريباً عن بدن الإمام السليب!
أربعون يوماً.. ظهر فيها من أناة الله الشيء العجيب.. حيثُ أمينُ الله على وحيه يطاف به على رأس رمحٍ!
أربعون يوماً تمت فيها أعظم حجَّةٍ لله على خلقه.. ومَيَّزَ الله فيها بين فئتين:
الأولى: فئةٌ رضيت بقتل الحسين عليه السلام، وبما جرى على ذريته، أو تقاعست عن نصرته، وتخاذلت عن إجابته، وهم جلُّ أهل تلك البلاد التي طافوا بالرأس عليها.
والثانية: فئةٌ قليلة اختارهم الله في كلِّ زمان، يَوَدُّون لو افتدوا الحسين عليه السلام بنفوسهم، وأهله بأهلهم!
هو معنىً حفظوه عن إمامهم المهدي عليه السلام، وصاروا يسلِّمون فيه على الحسين عليه السلام:
سَلَامَ مَنْ لَوْ كَانَ مَعَكَ بِالطُّفُوفِ لَوَقَاكَ بِنَفْسِهِ حَدَّ السُّيُوفِ، وَبَذَلَ حُشَاشَتَهُ دُونَكَ لِلْحُتُوفِ، وَجَاهَدَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَنَصَرَكَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْكَ، وَفَدَاكَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ، وَمَالِهِ وَوُلْدِهِ، وَرُوحُهُ لِرُوحِكَ فِدَاءٌ، وَأَهْلُهُ لِأَهْلِكَ وِقَاءٌ (المزار الكبير ص500).
كلُّ كلمةٍ من كلمات الزيارة في هذا المقال تستحقُّ الوقوف عندها طويلاً، والتأمُّل في معناها.. فليس كالحسين أحدٌ، ولا كمواقفه موقفٌ، ولا كأحداثه حدث، ومن ذلك الأربعين، فإنَّ فيها سِرّاً من سرّ الله، ولقد ظهر فيها من حُجَج الله على عباده ما لا يكاد يحصى، ومن أناته عليهم ما لا يكاد يوصف.
ولمّا كان الله تعالى لا يعجل لعجلة العباد.. وإنما يعجل من يخاف الفوت..
وبما أنَّ الله لم يُعصَ مغلوباً..
فقد أمهلَ الظالمين حتى ساعة ظهور المهدي أوَّلاً.. ثم ساعة القيامة ثانياً..
فنسأل الله أن يوفقنا لنكون في الآخذين من الثار في الأولى.. ومع الحسين على موائد النور في الثانية..
وعظم الله أجورنا وأجوركم
وإنا لله وإنا إليه راجعون
الخميس 19 صفر 1447 هـ الموافق 14- 8 - 2025
|