هذه النصوص القصصية اعتبرها مختلفة عن المعتاد والسائد التقليدي , تدخلنا في حوارات وتساؤلات في الصياغة الفنية , وتركيبة الحبكة السردية , بمعنى انها جدلية في عدة مقومات , في الصياغة الفنية , وبناء الرؤية التعبيرية والفكرية , في المعنى والمغزى والرمز الدال , الذي يشع في الجوهر والمضمون الدال , رغم انها واقعية الاتجاه ومن قلب الواقع المعيشي للشرائح الاجتماعية الفقيرة , التي تكافح بعناد واصرار في الصراع الحياتي , لكن تجد نفسها غارقة في المعاناة والظلم والحرمان , لم تستسلم بل تظل تكافح بعرق جبينها بالمكابرة والكبرياء , رغم الاحباط والخذلان , الذي يصيبها ,لتجد نفسها في موقع صعب , في نيل الطموح في معمعة الصراع الحياتي , وابطالها اناس بسطاء يملكون الكرامة ولا يتخلون عنها , مهما كانت صخرة سيزيف على اكتافهم , أنسانيون بحق , هذا جوهر الرؤية الفكرية ورمزيتها الدالة , شرائح انسانية اكثر من الشرائح الاجتماعية اخرى , مكافحون بلا كلل , رغم غصة الالم والوجع في دهاليز الحياة الصعبة والمعقدة , وتحاول ان تخلق البسمة من بئر الاحزان , لانها تملك احاسيس انسانية في طيبتها الشعبية , يشعر القارئ بتعاطف شديد ومؤثر تجاه هذه الشخصيات في النصوص القصصية , واعتقد هذا ما يسعى اليه الاستاذ ( جمال الهنداوي ) وهو يسلط الضوء الكاشف عليها , ويدخل في عمق المشاعر الداخلية , وهو يقدم نماذج حية من الواقع المجتمع , التي تملك الكثير من حكايات المعاناة , شخصيات تحاول جاهدة ان تجد مكاناً تحت الشمس في قلوبهم النظيفة , في تعاملهم الصريح بدون مراوغة , ومن هذا المنطلق الفكري , ينبغي تقديمهم بشكل مختلف , وهنا تكمن قدرة وبراعة الاستاذ ( جمال الهنداوي ) في تقديمهم بشكل مختلف , في بناء القصة , التي تعتمد على اسس ثلاثة : البداية . العقدة او الصراع . النهاية او الحل . نجد في هذه المجموعة القصصية , تبدأ بالصراع وتنتهي بالصراع الدراماتيكي , أما النهاية أوالحل , فإنه معدوم وغائب , يترك النصوص بدون نهايات أو حلول , يتوخى الكاتب من ذلك ضرب عصفورين بحجر واحد , الناحية الأولى . ان يترك النهايات لتأويل القارئ ومدى شغفه وتفهمه لهذه النماذج الشعبية المكافحة , في صراعها مع الحياة والزمن , رغم الانكسار الحياتي , والناحية الثانية . ان يتركها عائمة في بحر الحياة لا حول ولا قوة لها , لأنها تجد نفسها غارقة بصعوبة العوم الى شاطئ السلامة , كأن الزمن يعمل ضدها بكل قوة . رغم انها غارقة في ازمة الصراع , تظل مكابرة بكرامتها وإنسانيتها الطيبة , او مثل ما يقول المثل الشعبي ( تحمل قنبورتها وتمشي ) . .... لنسلط الضوء على بعضها بإيجاز شديد :
× قصة : العطر :
بائع العطر البسيط والشعبي في قلبه الابيض ( ابو خضير ) يبيع العطور في سوق شعبي في محل صغير , كل صباح في ابتسامة تعلو في ملامحه , يرحب بالزبائن لكنه يميز خصائل الناس في أخلاقهم وسلوكهم , مثل ما يميز أنواع العطور , تراه حلو المزاج مع الناس الطيبين مثل صديقه الحميم ( أبو فراس ) الذي يعود به الى الى سنوات العمر الماضية وذكرياتها , مثل العطور لها خيط من الماضي , يرتب عطوره حسب الحاجات الناس , ولكن بعد وفاة صديقه الحميم ( ابو فراس ) حزن عليه بالوجع والأسى , حتى شعر ان الحياة جدبت , مثل العطور التي فقدت روائح عبيرها , وأصبحت روائحها كئيبة لا تطاق , فهجر العطور والسوق .
× قصة : حب .. وحمص .. وثالثهما نيتشه :
الشاب العشريني ( جليل ) بائع الحمص بالعربة , يعتني في بضاعته ونظافة الكؤوس و ويعتني في ترتيبها , فهي مصدر رزقه, يحاول إرضاء الزبائن بالنظافة والديكور اللائق , وهو يتحمل مشقة الشمس , وقد اختار افضل مكان قرب بوابة كلية الآداب ( - الجامعة مكان محترم وآمن... والرزق وفير ) كل صباح تطل عليه فتاة جامعية تماثله في عمره , يخفق قلبه بتسارع ضرباته شوقاً ومحبة , ويحاول ان يرضيها بكأس الحمص , يحاول يجذب اهتمامها وهي تشتري كأس الحمص , تغيبت بعضة أيام , قلق عليها , ولكن عندما أطلت في احدى الصباحات , انفرجت اساريره فرحاُ , لاحظ التعب في عينيها , وحاول ان يستفسر بخجل وارتباك فقالت له ( - امتحان الفلسفة ارهقني جداً , ولكن انتهى والحمد لله ) ثم أردفت ( - بالضبط .... أكثر ما اتعبني هو نيتشه وهيغل , هذان الفيلسوفان يعقدان أي شيء في الحياة ) ليقول لها انه سمع باسم نيتشه مرة في الانترنت , وذهب الى شارع المتنبي يفتش عن كتاب مبسط عن نيتشه , فوجده , لكنه وجد صعوبة في فهمه , رغم أنه قرأه أكثر من مرة , واخذت الفتاة الجامعية تتقطع في مجيئها حتى اتعبه الصبر , لأن الحب كان من طرف واحد , لكن دفعه الفضول إلى قراءة الكتب وشغف بحبها , لتعوض عن حبه الخائب , حتى فتح مكتبة صغيرة , وكسب الوعي والإدراك من اطلاعه على الكتب , بدلاً عن الحب الخائب.
× قصة : بجاه أبي الجوادين :
امرأة فقيرة تعيش على الرزق ما تدره ماكينة الخياطة , منصبة طوال اليوم على القماش الاسود العباءات النسائية, وتنظر الى كوام القماش والعباءات غير المنجزة كل صباح , أحبت ( أحمد ) وكان كل آمالها ان ينتهي الحب بالزواج , ليقف الى جانبها في حياة مشتركة في الحب والوفاء , لكن حبيبها خذلها بعدم قبول الزواج من طرف عدم قبول أمه لها , وتزوج ابنة عمه , مما تجرعت كأس الخيبة والخذلان , وبعد فترة طويلة طلبها في لقاء بموعد في الكافيتريا التي شهدت لقاءات حبهما في السابق , ترددت في قبول الدعوة , رغم ان حبيبها السابق اعلمها بعزمه الزواج منها بعدما طلق زوجته , ذهبت إلى الإمام أبي الجوادين , ليعينها على ترددها وارتباكها , لا سيما وان جرح القلب مازال ينزف من الاحباط , توجهت الى موعد اللقاء , وعرض عليها الزواج لتقول له ( - متأكد انك تستطيع ان تقنع أمك ؟ كما لو كانت لا تحبني ) ثم أردفت ( - هل تذكر عندما كنت بحاجتك في ذلك اليوم ..... وانت اختفيت بلا كلمة وداع ) ثم أردفت وهي تحاول ان تضبط اعصابها ( - كل شيء ممكن ان يرمم..... إلا الخذلان ) وغادرت المكان .
× قصة : دليفري :
عامل توصيل طلبيات الطعام إلى البيوت ( عبدالله ) أحد الايام تأخر كثيراً في توصيل الطلبية بسبب البحث عن عنوان البيت صاحب الطلبية , واخيراً وجده , وحين طرق الباب خرجت امرأة مسنة ( ام علي ) اعتذر عن التأخير كثيراً , فاجاب المرأة ( - لا يا ولدي .. إن مجيئك
في هذا الليل يعد فضلاً منك . هل أسمك علي
- لا يا خاله .. أنا عبدالله
-عاشت الاسامي , ياولدي )
ويعرف عنها بأنها تعيش في البيت وحدها , تقتلها الوحدة والعزلة عن الناس , ابنها ( علي ) مات , وابنتها ذهبت ضحية انفجار ارهابي , ولديها ولدان آخران , أحدهما في استراليا والآخر في المانيا , وهي تصر في البقاء في بيتها ترفض الرحيل عنه , وتكررت طلبياتها من نفس الطعام , وتصر على إيصال الطلبيات ( عبدالله ) وعقد تعارف حميم بين الطرفين , مثل الام والابن , ولاحظ ان طلبيات تكفي لاكثر من شخص , وكان غايتها ان ترى ( عبدالله ) التي تصر تناديه باسم ابنها المتوفي ( علي ) , فاضطر ان يجلب من بيته كل يوم الطعام اليها , وفي احد الايام لم تكن المرأة المسنة في بيتها , واستفسر من الجيران عن سبب الغياب , فقالوا له . نقلت إلى المستشفى في حالة خطيرة , فتش عنها ولم يعثر عليها , فاحس بمرارة الحزن والجزع .
× قصة : خيوط القلب
ام مهدي : امرأة فقيرة من الوسط الشعبي , تعيش في رزقها بما تدر عليها ماكينة الخياطة القديمة, تخيط ( الدشاديش ) الى الاطفال في الحي الفقير , ابنها الصغير ( مهدي ) طلب منها ان تخيط له دشداشة العيد مثل الاطفال الآخرين , ولكن لسوء الحظ تعطلت ماكينة الخياطة , واصرت بعزم ان تلبي طلبية ابنها ,فخاطت الثوب الابرة , ومرات تنغرس الإبرة في اصابعها حتى تورمت , وانجزتها صبيحة العيد , ورسمت فوق الجيب وردة من الخيوط الملونة , فكنت دشداشة ( مهدي ) متميزة عن دشاديش اطفال الحي , لكي تدخل الفرحة في قلب ابنها , رغم تورم اصابعها والتعب والمعاناة .
× قصة : الميت الحي
في ظهيرة الصيف عام 2003 يوم مختلف في تاريخ العراق خرج السجناء وأصبحوا احراراً من كوة الزنازين . وكل منهم يحمل مأساة ظالمة ومؤلمة , احدهم اعتقل وعذب في مديرية الأمن , باعتباره مناهضا للنظام , ظل في زنزانة السجن أكثر من 13 عاماً دون محاكمة ولا محامي , بسبب اقتناء كتاب ممنوع , بوشاية من رفاق المنطقة , خرج في يوم السقوط بعدما اختفى رجال الأمن , ليجد سائق التاكسي ( أبو سليم ) امامه , وطلب منه ان يطوف به في مناطق بغداد شوقاُ وحنيناً للغياب الطويل , وتنتهي رحلته الطويلة في منطقته ( الدورة ) , بسرد حكايته إلى سائق التاكسي ( أبو سليم ) الذي تعاطف معه كثيراً لحالته المزرية , والعقاب المجحف الذي تجرع سمومه , وقال بأنه ايضاً اعتقل بوشاية بسبب اقتنى كتاب الأغاني , ولكن حالفه الحظ بوجد محقق مثقف , واعتبر الكتاب ليس عدواً للنظام , فاطلق سراحه , وتخلص من ورطة السجن طويل الأمد ليقول ( - يقال أن الدولة التي تخاف من الكتاب , تكون مصنوعة من الورق ) وحينما وصل الى منطقته ( الدورة ) الى بيته القديم , وعرف بالفاجعة التي أصابت اهله , والده مات , وامه ايضاً ماتت حزناً عليه , والبيت بيع من قبل الورثة . كانت الصدمة كبيرة بفاجعتها ليقول بحسرة الحزن , بأنه أصبح غريباً , لا بيت , لا وطن , لم يبق له سوى ان يسكن في المقبرة , بالقرب من قبر أمه وأبيه , شعر بالحزن المؤلم , بأنه اصبح غريباً , وليس له سوى التوجه الى المقبرة .
|