حين يهتز برلمان وطنك أمام صرخة الذين دافعوا عنه، فاعلم أن الحبر تردد حيث الدم حسم.
في الثالث من آب 2025، غابت عن جدول أعمال البرلمان العراقي فقرةٌ كان ينبغي أن تتصدره: قانون الحشد الشعبي. غابت، لا عجزًا عن إدراجه، بل بفعل ممانعات داخلية وضغوط خارجية، في مقدمتها تحذيرات أميركية معلنة ومبطّنة، تحاول إجهاض مشروع تشريعي وطني يراد به تثبيت حق أبناء العراق الذين سطروا بدمائهم تاريخًا جديدًا لهذا البلد الجريح.
الحشد.. حين نادى الوطن
في حزيران عام 2014، كان العراق على مفترق وجود. تنظيم «داعش» الإرهابي اجتاح المدن، وأسقط المحافظات الواحدة تلو الأخرى، واقترب من أسوار العاصمة. يومها، لم تكن بيانات الإدانة ولا طائرات التحالف كافية. نهض أبناء الجنوب والوسط، من كل القوميات والطوائف، تلبية لفتوى المرجعية الدينية العليا التي دعت إلى الجهاد الكفائي. تشكل الحشد الشعبي من دموع الأمهات وصبر الآباء وعرق الفقراء، وكان ولا يزال سياجًا حاميًا للدولة، لا منافسًا لها.
التشريع... استحقاق لا امتياز
قانون الحشد رقم 40 لسنة 2016 كان خطوة أولى، منح الحشد الشخصية المعنوية، وربطه بالقائد العام للقوات المسلحة، لكنه كان قانونًا مقتضبًا، طارئًا على لحظة وطنية، لا شاملًا في تفاصيله لمسؤوليات هذا الكيان وتضحياته.
اليوم، وبعد مرور تسع سنوات على ذلك القانون، يُطرح مشروع جديد لتشريع قانون أكثر تفصيلًا وتنظيما، يضمن ضبط البنية الإدارية والعسكرية للحشد، ويمنع تسييسه، ويوسع انخراطه الوطني عبر فقرات تُلزم بفك ارتباطه عن الأطر الحزبية والسياسية، وتشدد على تبعيته المباشرة للقائد العام، وتعطيه صلاحيات مستحقة بلا انفلات.
هذا القانون ليس تكريسا لـ"نفوذ"، كما تُروج بعض وسائل الإعلام الغربية، بل هو خطوة نحو تقنين ما أصبح واقعا، وإخضاعه للمراقبة، والتزامه بالدستور، بدل تركه في هامش القوانين والتجاذبات.
واشنطن... ازدواجية المعايير
اللافت في الموقف الأميركي، والذي تصاعد مؤخرًا بشكل حاد، هو الخشية من أن "يؤسس القانون لنفوذ إيراني"، و"يشرعن جماعات مصنفة إرهابية"، ويؤدي إلى "ازدواجية في القرار العسكري"، وفق تعبيراتهم. لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح: هل القلق الأميركي موجه فعلًا نحو أمن العراق؟ أم نحو أدوات السيطرة والنفوذ؟
الولايات المتحدة، التي تمتلك قوات على الأرض العراقية، وتدير شبكة مصالح أمنية واستخبارية، لا تملك الحق الأخلاقي في التدخل بصيغة قوانين تُقر داخل مجلس نواب منتخب. فكما لا يعترض العراقيون على قوانين الكونغرس الأميركي، لا يحق للسفارة الأميركية أن تعارض ما يُشرع داخل المنطقة الخضراء. وما وصفته واشنطن بأنه "تهديد للتوازن الأمني"، يراه العراقيون تثبيتا لتوازن دمٍ سفكوه كي يبقى العراق قائما.
الداخل منقسم... لكن لا مبرر للتأجيل
مع الأسف، لا يقتصر الاعتراض على المواقف الخارجية، بل يتداخل مع ممانعات داخلية من بعض القوى السنية والكردية، التي تخشى ما تسميه "ليّ الأذرع".
غير أن هذا التخوف لا يجد ما يسنده في بنية القانون الجديدة، التي تنصّ صراحة على ضرورة فك الارتباط السياسي، والتزام الحشد بتوجيهات القائد العام، ما يعني إبعاد أي شبهة عن كونه ميليشيا أو جناحا لفصيل حزبي.
إن من واجب البرلمان، إذا كان حقًا يمثل إرادة الأمة، أن يُمرر القانون بوصفه عرفانًا لا مجاملة، وعدالة لا صفقة.
الحشد ليس أزمة... الحشد هو الدولة حين غابت
في لحظة غابت فيها الدولة، كان الحشد هو الدولة. حمى الأرض، واستعاد المدن، وخاض معاركًا من الموصل إلى جرف النصر، وكان حاضرًا في الإغاثة، وفي التصدي للجائحة، وفي كل نداء يحتاجه الوطن.
فهل من المقبول بعد كل ذلك أن نبقيه على هامش التشريع؟ هل من المقبول أن يُساوى مَن حرر الأرض، بمن سكت أو تواطأ؟
حسين النعمة كاتب, [06/08/2025 11:03 ص]
نداء المقال: لا تؤجلوا قانون العرفان
إن قانون الحشد الجديد، بصيغته المقترحة، ليس تأسيسًا لدولة داخل الدولة، بل هو خطوة لإدخال الحشد في قلب النظام الأمني، وضبطه ومأسسته. والاعتراض عليه تحت ذريعة النفوذ الخارجي، هو تجاهل لحقيقة أن هذا القانون يُبنى داخل البرلمان العراقي، لا في أزقة طهران أو دهاليز السفارات.
هذا المقال، إذ يعرض وقائع الجدل، ويحلل المواقف، يدعو بكل وضوح:
إلى تمرير القانون فورا دون تردد، إلى الاعتراف الرسمي بتضحيات شهداء الحشد وجرحاه، إلى تحييد القانون عن الصراعات الطائفية والحزبية، إلى رفض الإملاءات الخارجية، مهما كانت الجهة التي تصدر عنها.
لقد آن الأوان أن نرد شيئا من الجميل، أن نوثق الوفاء، وأن نقول لمن قاتلوا بأجسادهم دفاعا عن العراق: لقد كنا أهلًا للعرفان، لا أسرى النسيان.
-----------
الهوامش:
1. قانون الحشد الشعبي رقم 40 لسنة 2016 – جريدة الوقائع العراقية.
2. العربي الجديد، تقرير حول التحذيرات الأميركية من قانون الحشد، آب 2025.
3. القدس العربي، تحليل سياسي حول تمرير القانون ورفض الكتل السنية والكردية، تموز 2025.
4. وزارة الخارجية الأميركية، بيان رسمي، آب 2025.
5. جريدة الشرق الأوسط، تقرير بعنوان "ترحيل قانون الحشد"، 3 آب 2025.
6. مقابلة مع د. غازي فيصل – قناة الحرة، 2025.
7. Washington Post – Michael Knights, 2025.
|