• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع :  أنا من خيام زينب .
                          • الكاتب : حسين النعمة .

 أنا من خيام زينب

 أنا الكاتب.. أستجدي القلمَ أن يكون لسانَ قلب أرملة الشهيد المُنهار، وأستعيرُ حروفَ التاريخِ لتُعبرَ عن لوعةٍ لا تُحتمل.. أتوسلُ إلى الذاكرةِ الجمعيةِ لأمتي أن تمنحني شرعيةَ البكاءِ تحتَ سقفِ الخيمةِ نفسِها. 

نعم، أدّعي – بكلِّ ما في الصوتِ من جرأةِ الألمِ وجنونِ الفخرِ – أن تكونَ ارملة الشهيد في معارك فتوى الدفاع المقدسة صوتا لنساءِ ذلكَ المخيمِ الأبديِّ على ترابِ الطفوف.  

فكما وقفتْ زينبُ الكبرى (عليها السلام) شاهدةً على فجيعةٍ غيّرتْ مسارَ الزمنِ، كما جثمنَ أخرياتٌ على الجمرِ تحتَ خيامِ السبيِ يندبنَ أطهاراً سُفكتْ دماؤهم ظلماً.. ها أنذا صوتا لمن جثت اليومَ على أرضٍ مرويةٍ بدماءِ زوجها الشهيدِ، ترددُ صرخةً واحدةً عبرَ القرون:  
"مصابٌ يقاسمني إياه نساءٌ سبقنني بقرون.. فأنا من خيامِ زينب!".
 
ليس ادعاءً بالقداسةِ، بل إعلانٌ بأنَّ دموعَ الثكالى على الشهداءِ تُروي سيرةَ الجرحِ نفسِه، فدمعةٌ على شهيدِ كربلاءَ ودمعةٌ على شهيدِ الموصلَ تنبعانِ من نبعٍ واحدٍ: (دمٌ يُسفكُ دفاعاً عن الحقِّ، ووجعٌ يُخلّفُ أرملةً تطحنُها العزلةُ في ليالي الأسى).
أليسَ زوجها – برفضهِ لِداعشَ الظلاميةِ، واقتحامهِ معاقلَ الإرهابِ في صلاح الدينَ والفلوجةِ، وتضحيتهِ وهو يلبّي نداءَ فتوى الجهادِ الكفائيِّ – قد سارَ على الدربِ ذاتِه؟ دربِ منْ لبّى النداءَ يومَ الطفِّ؟  
في هذا المقالِ، لا أروي سيرةَ بطولةٍ فحسبُ.. بل أُذيبُ الحروفَ في مِلحِ دموعي، وأحفرُ كلماتي بإزميلِ الوجدِ.. لأنني أعلمُ يقيناً أنَّ خيمةَ سيدتنا زينبَ ما زالتْ قائمةً.. تُظلُّ كلَّ ثكلى شهيدٍ ضحّى بنفسِه في معركةِ الحقِّ ضدَّ الباطلِ. وها أنذا أدخلُها اليومَ.. حاملا فخري كشمسٍ، وحزني كسحبٍ لا تنقشعُ. فليشهدْ قلمي أنني:  
صدى لابنةُ الملحمةِ نفسِها.. ومدادا لأختُ دمعِ التاريخِ.. وحبرا لأرملةٌ من خيامِ سيدتي زينب.

هنا، حيث يُضَرم الشوق جمرةً في الصدر، وتُخيَّم الذكرى كسحابةٍ داكنةٍ لا تنقشع.. أنتفضُ أنا ابن  هذا التراب الطاهر كقرطاس يدوّن فيه التياع أخواتي ثكالى شهداء العراق الكرماء في ميادين التحرير.. وكصوتٍ يصدح بوجعهن: أنا... من خيام زينب.
وكأني بثكلى تأنُّ: لم يكن رحيله مجرد فراقٍ عادي، بل كان انزياحاً كونياً مزَّق نسيج وجودي، جاء الخبر كسكين باردة تنزع القلب نزعاً، فتارةً أسبح في بحر من نشوة الفخر – فخرٌ بالرجل الذي وقف كالطود الشامخ في وجه إرهاب داعش الآثم، الذي دنس تراب العراق الطاهر، أتذكر صلابته وهو يخوض غمار تحرير تكريت والموصل ورمادي، تلك المواقع التي طهَّرها هو وإخوته الأبطال بدمائهم الزكية، دماءٌ سالت أنهاراً لتعيد الحياة لأرضٍ كاد الجهل والظلام يخنقان أنفاسها، كان بطلاً بكُلِّ ما تحمل الكلمة من معنى، بنخوته التي تشبه نخوة الأوائل، بتضحيته التي لم تتردد طرفة عينٍ حين لبى نداء الفتوى، نداء الدفاع الكفائي، كمن لبى النداء عند سفح الطفوف.

نعم، أُفاخرُ به! أُفاخرُ بكل طلقة رصاص صَدَّ بها غُلاةَ الضلال، بكل خطوةٍ مشاها على أرضٍ ملغومةٍ لاستعادة كرامة وطنٍ ذُبح. كان درعاً واقياً، سيفاً مُهنداً، قلماً كتب بدمه أحرف الحرية على جبين التاريخ. إباؤه كان كإباء الجبال، وشموخ روحه يُذكرني بمن وقفوا مع الحق رغم قلَّتهم، رغم حتمية المصاب.
ولكن... يا للتناقض الإنساني الْمُدمِّر! تحت هذا الاباء، تحت هذا الفخر العاصف، ينفجر بركانٌ من الوجع؛ فورة دمي لا تُهدأ! دمٌ يغلي في العروق، دمٌ يصرخ من الأعماق: لماذا فارقني؟ لماذا تركني وحدي في صحراء هذا الفراق القاسي؟ إنَّ حزني ليس ندبةً على الجلد، بل هو كسرٌ في فضاء الروح، شقٌّ يصل إلى الما وراء. كل صباح أستيقظ على فراشٍ بارد، ألمسه بيدٍ مرتعشة كأنما أبحث عن دفءٍ أدركُ أنه صار سراباً، وصوته الذي كان ملاذي صار صدىً يأتي مع الريح، يُذكّرني ثم يغيب، تاركاً جرحاً أعمق.

أترى؟ إنَّ وجعي هذا، وتضحيتي – تضحية العيش في ظل غياب لا يُملأ، واليتم الذي يرتدي ثوب الأرملة – أليست هي نفسها حبات المسبحة التي دارت بين أصابع التاريخ منذ ذلك اليوم المشؤوم في كربلاء؟ ألسن نحن – نساء الشهداء – في خيام زينب؟..
خيمةٌ واحدةٌ تجمعنا عبر القرون؛ مصابي بمصابها، دمعي بدمعها، صرختي المُكتومة بصرختها التي هزت عروش الطغاة، فالذي ذاد عن تراب العراق المقدس، عن أهله المستضعفين، عن حرماته المنتهكة، إنما كان يسير على درب من ذاد عن إمامه الحسين (عليه السلام) تلبية النداء واحدة: نداء الحق ضد الباطل، نداء الشهادة ضد الذل، نداء "هيهات منا الذلة".
في جراح زوجي الشهيد – تلك التي قبّلتها جبينه وقلبه قبل أن تقبلها الأرض – أرى انعكاساً لجراح ناصرٍ من انصار سيد الشهداء (عليه السلام) في دمه المسفوك لتحرير أرضٍ تدنسها عصابات الظلام، أشمُّ عبق دمٍ سال على ثرى الطفوف ليبقى دينُ الله عزيزاً، الراية واحدة، والهدف واحد، وثمن النصر واحد: الروح.
فهو – رحمه الله – لم يمت.. بل صار نجماً في سماء الشهادة، وردةً حمراء في بستان الخلود. وأنا هنا، في خيمتي التي تشبه خيمة سيدتي زينب، أحمل وجعي كتاج عزٍّ، وإبائي كسيفٍ أصدأ من البكاء لكنه لن ينثني، أحمل فخري به كشمس لا تغيب.. نعم، الفراق قاسٍ، والوحشة موجعة، لكن صوت الحق الذي لباه، ودم الشهادة الذي ارتواه تراب العراق، هما اللذان يمنحاني القوة لأقول للعالم:
أنا أرملة شهيد... أنا من خيام زينب. هنا، حيث يمتزج رمل النجف برمل كربلاء، حيث الدم يصير نوراً، والوجع يصير إباءً، هنا... أبقى. صابرةً كزينب، مفتخرةً بمن جعل من روحه فداءً للوطن والعقيدة، شاهدةً على أن دماء الأبطال هي التي تُنسَجُ بها رايات الخلود.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=206290
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 08 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 08 / 2