بسقوط نظام بشّار المثقل بالمظالم، خرجت سوريا من بوابة محور المقاومة، وتبيّن أنّ تموقعها الأوّل كان مجرّد لافتة، حملت عنوان المقاومة، فيما دخلت مجالا آخر بعيدا كل البعد عن الثورة، بمفاهيمها التغييرية للأفضل، وعن قيم الشعب السوري، الذي بدا كأنّه فقد هويّته وعراقته، ليتحوّل من شعب عاش دهرا بمكوناته المختلفة والمتآلفة، إلى عناصر عرقية ودينية بدت تتفكك، ويعادي مكوّنها الأكبر رفقاء أرضه وتاريخه، يَرْتَكِّبُ عناصرهم الحاقدة والمتطرّفة فيها مجازر مروّعة، أزهقوا فيها أرواح أُسَرٍ بأكملها، موثّقة من نفس من أجرموا بحقّها، في الساحل كما في ريف حمص، بدعوى تورّطها في مساندة النظام السّاقط، وهي لعمري دعوى باطلة من أساسها، جُعِلت مبرّرا ساغ للجماعات التكفيرية المسلحة، المنضوية تحت قوى الأمن العام، ارتكابها بكل وحشية ودون محاسبة.
سوريا ما بعد بشار ونظامه البعثي الفاسد - وكل نظام بعثي فاسد بطبعه- لم يبقى فيها ما يفيد أنّها دولة، تحتفظ بأمل ما في استقرارها وبناء مستقبلها، كما تُبني الدّول ذات الأنظمة الشعبية، القادرة على السّير على طريق الإصلاح والبناء، مع أنّ الشعب السوري لا تُعْوِزه القدرة على الإمساك بزمام أموره في التقدّم والرُّقيّ، وهو يختزل عناصر جيّدة من الكفاءات، هي بحاجة إلى عناية وتشجيع واعطائها فرصة للعمل الجادّ.
إن أخطر ما ابتلي به الشعب السوري في هذا الزمن، تغلغل الفكر الوهابي التكفيري بين مشايخه وعوامه، إلا قليل ممن أدرك خطورة المسار الذي ابتلوا به، مع وجود عدوّ شرير متربّص، حشد خلفه أعرابا داعمين له بإصرار وقوة، من أجل استكمال بسط هيمنته على المنطقة، هذا العدوّ استغلّ عدوانية قسم كبير من الشعب، ليعمّق من هوّة التنافر والعداء العرقي والطائفي بين مكوناته، وقد تجسّدت المجازر المرتكبة في الساحل السوري، وفي ريف حمص وفي السّويداء غيرهما من مناطق كانت تتعايش فيها بأمن وأمان وروح مواطنة، ظاهرة خطيرة كان من العقل والمنطق أن تعالج بحكمة، وليس كما شاهد العالم نماذجه المسربة وقائعه المسجلة، معبّرة عن وحشيّة موغلة في الجاهلية.
جهل السوريين وغيرهم من الشعوب العربية بحقائق دينهم وأدبيات أحكامه، فسحت المجال لظهور بؤر تطرّف هنا وهناك، أسهمت بشكل فعال وخطير في نشوء مجاميع تكفيرية، زاد من استفحالها وهابية السعودية، حيث كانت منطلق دعوتها، وراعية انتشار لفحة نار تكفيرها، ممولة لها بالأموال والكتب ( ابن تيمّة الحرّاني وابن عبد الوهاب النجدي)، والدعاة من مختلف الأعراق والأجناس، ادّعوا وحدهم أنهم أصحاب سنة وتوحيد، وأن غيرهم أصحاب بدعة وشرك، يجب استتابتهم وإدخالهم فيما دخلوا فيه من منهاج لا يسمح لأيّ مذهب غيره بالوجود، وتاريخ الوهابية المعاصر شاهد على ذلك السلوك العدواني، فكيف به اليوم وقد وجد فيه سوريا نظاما يتبنّاه ومكوّن شعب تعالت أصوات قادة فصاله بأنّه أمويّ النزعة، وكنّا نعتقد أنّها ذهبت مع التاريخ؟
ما شهدته الأقليات السورية من اعتداءات تعرض لها ابتاعها قبل أحداث السويداء، وبعد سقوط بشار وتسليم السلاح الذي كان بأيدي بعض من هؤلاء، بدأت مرحلة جديدة من الانتقام والتصفيات العرقية والمذهبية، ارتكبتها عناصر من الامن العام المتكون من المجاميع التكفيرية التابعة للحكومة السورية الحالية، انطلقت من الساحل السوري وما عاناه أهله من اعمال إجرامية، وتواصلت سياسة العدوان على البقية وهذه السويداء مدينة الدروز تنال نصيبها من العدوان، وما اقترف فيها من اعمال قتل يثبت طبع النظام الجديد المؤسس على عامل الانتقام الغير مبرر.
ان استنفار مجاميع البدو من مختلف مناطق سوريا، وخارجها من البدو في الأردن، والذين تجنّسوا في السعودية، يدعونا إلى التساؤل بإلحاح: أين عقول هؤلاء مما يجري في غزة، من قتل بدم بارد، وتجويع لحد الموت لأهلنا في القطاع المنكوب؟ أليست جرائم عدوّ صهيوني فاقد للإنسانية معتبرة عند هؤلاء؟ ام أن الغزاويين ليسوا إخوانهم في العرق والدين والإنسانية، وليسوا أهلا للنجدة والنصرة؟ فكيف ساغ استنفار هؤلاء البدو للنفير الى السويداء، ولم يسغ لهم نصرة فلسطين، مع أنّها أولى بالتضامن والدفاع عن حقوق مسلوبة بسبب تواكل الأعراب الأقل زندقة والأشد كفرا شعوبا وحكومات؟
حركة البدو التي جدّت هذه الأيام، أعطت لإسرائيل مسوغا ومبرّرا للدخول في الشأن الداخلي السوري، فبعد استيلائها على مساحات شاسعة من الجنوب السوري، حشرت أنف جيشها في المعركة بدعوى حماية الأقلية الدرزية، ليس في السويداء وحدها، بل ستكون جرمانا في ريف دمشق محميّة إسرائيلية، بسبب جهل وغباء الحكومة السورية فيما أقدمت عليه، والنتيجة سقوط دمشق ناريّا في مرمى الجيش الصهيوني، وهي منذ مدّة ساقطة جوّيّا، بفعل الغارات المتواصلة على مناطق مختلفة من الأراضي السورية جنوبا وشمالا.
الفرصة التي أعطاها البدو لإسرائيل لن تتركها، دون أن تحقق بها توسّعا جديدا، ليشمل احتلال السويداء بتعلّة حماية دروزها، وهي فرصة لكي يلتحق بقية الدروز بإسرائيل طواعية، بسبب الاستنفار الذي دعت إليه الحكومة السورية، وحماقة البدو في الاستجابة لها، وما أسفر عن ذلك من تجاوزات وجرائم، يندى لها جبين كل انسان لم يخرج من ثوب انسانيته، وفيما يعاني الغزاويون من ظروف قاسية جدا لم تحصل من قبل حتى في العصور القديمة من قتل ممنهج للمدنيين، رتعت فلول البدو في السويداء فسادا وافسادا في الأرض، وأقصى ما برهنت بأفعالها أنّها قدمت من أجله كان السّلب والنهب، وقد وثّق الصحفيون الأجانب تلك الاعمال بالصوت والصورة.
تفكيك سوريا ولبنان عرقيا وفكريا، جار على قدم وساق، وهو بداية مرحلة جديدة من المواجهة التحريضية بين مكونات شعوب المنطقة، بعد أن تعطّل البرنامج العسكري الغربي الصهيوني في اجتياح لبنان، بصمود وكفاءة قوى المقاومة في جنوب لبنان، ويبدو أن لمجاميع الإرهاب والتكفير الحاكمة في سوريا بمؤازرة البدو سيكون لهم دور مشاغلة قوى المقاومة من الحدود الشرقية للبنان عند توفّر فرصة تعاون يبدو شيكا بين إسرائيل والنظام السوري القائم، لكن هل سينجح هذا التحالف الخبيث في انهاء المقاومة في لبنان؟ يبدو أن الحسابات تستعصي على محتمليها، خصوصا وهناك إيران داخل المعادلة، ولها كلمتها الفصل في أي حرب قادمة، ولن تكون أبدا كما يأمل الغرب الصهيوني.
|