• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : فلسفة الجمال عند قسطاكي الحمصي .
                          • الكاتب : د . جوزيف الياس كحّالة .

فلسفة الجمال عند قسطاكي الحمصي

وضع قسطاكي الحمصيّ، في مطلع القرن العشرين، كتابًا في جزأين سمّاه "منهل الورّاد في علم الانتقاد"، ألحقه عام 1935 بجزء ثالث، وقد ذيَّله بكتيِّب صغير سمَّاه "كتاب مرآة النفوس".

يحمل الكتاب في طيَّاته فصولاً في علم الجمال. ويرى الحمصيّ فيه أنَّ الشعر هو أول تلك الفنون، لأنَّه من الفنون الفطريَّة، كالصَّوت الحسن، وليس من الصناعات التحصيليَّة؛ ولذلك يدعو لاتِّخاذه شاهدًا أوَّليًّا على تأثير الأخلاق في الصِّناعات الجميلة"(1). وإنّّ تأثير الفنون البديعة في الأخلاق، بحَسَبه، لا يولِّد عند المتفنِّنين فقط التخيُّلات البديعة والمعاني السامية، بل يجملهم أيضًا بالشمائل اللطيفة والألفاظ العفيفة، ويحبِّب إليهم الجمال على اختلاف أنواعه ومعانيه، في العاقل وغير العاقل، وفي ما لا روح له من المنظورات. بل ان هذا التأثير يشمل كلّ من تعاطى مادّة من موادّه بل يشمل الأمّة كلّها(2).

 

الشِّعرُ نطقُ الألهة

يتابع الحمصيُّ قائلاً إنَّ الفنون البديعة تؤثِّر في أخلاق البشر أحسن تأثير، إذ تألف أبصارهم النظر إلى المحاسن فتنبو عن كلِّ ما هو سمجٌ قبيح، وتتعشَّق الموسيقا والألحان والشِّعر والفصاحة والتصوير والنقش والهندسة.

والأمَّة الّتي تميل إلى هذه الفنون ويكون ديدنَها الاشتغالُ بكلِّ ما له صلة بالمصنوعات الجميلة النفيسة لا يُستكثَر أن ينطبع في أخلاقها الشغف بأنواع الحسن أيّا كان، ولا عجب إذا ما هذَّب هذا الشغف الشَّريف وحسَّن آدابها(3).

هذا، ويركّز قسطاكي الحمصيّ على أثر النفوس في الصناعات الجميلة، ذلك لأنّه أثمار علوم الأمَّة التي صنعتها، ونتائج أذواقها، وقصارى اجتهادها وعصارة عقولها.

وهو يربط فنون الصناعات الجميلة بالمنحى الاخلاقيّ المعنويّ عند الإنسان. فالأخلاق عنده تمثِّلُ الدَّور الأكبر في تنمية النفوس للانخراط في الصناعات والفنون الجميلة؛ ولا سيَّما منها فنّ الشِّعر الذي هو مسرح أفكار الإنسان وسرائره، ومعرض تصوُّراته وضميره؛ علمًا أنَّ الشِّعر عند قسطاكي الحمصي من أقدس الفنون، وهو القائِل: "إذا سمعت الشِّعرَ فانزَعْ سترَ رأسك خاشعًا فالشِّعر نطقُ الآلهة"(4).

 

البيئةُ الصَّالِحَةُ للفنون الجميلة

يعرِّف قسطاكي الحمصيّ الفنون الجميلة بقوله: "إنَّ الفنون الجميلة، ومثلها سائرالمعارف، هي كجميع الصناعات البشرية، لا تنتقل في مراتب النمو، ما لم تتهيّأ لها البيئة الصالحة. ولا ترتقي في درجات الإحسان وتبلغ مقامات الكمال ما لم تتعهَّدها أيدي الجِدِّ والإتقان، وتحوطها عناية الرَّجل النبيه الحاذق بتسهيل الوسائل الموصلة إلى النجاح المطلوب"..

أمَّا أساس فنِّ الروايات وعماده فالمراقبة، "أي مراقبة المؤلِّف أخلاقَ البشر، لينبش عواطفهم وأسرار نفوسهم في حالات الرضى والغضب، أو الحب والبغضاء والحزن والسرور، أو سعة الصدر وضيقه، إلى غير ذلك من كثير من الحالات التي تختلف باختلافها الأحداث النفسانيَّة في الجنسين من النوع الإنسانيّ، لا سبيل لإدراك هذا الغرض، إلاَّ بالمصاحبة والاجتماع والمعاشرة مع مختلف الطبقات المتمدِّنة، ولا يتيسَّر ذلك إلاَّ في الأمصار التي استبحرَ فيها العمران والترف والغنى وسائر أسباب اللهو والسرور، وتوفَّرت فيها الاجتماعات والمحافل ومجامع العلم والشعر وسائر الفنون البديعة...(5).

الأخلاق: أهمِّيَّتُها ودورُها

اللافت في كلام قسطاكي الحمصيّ، أنّه يركّز كسائر الفلاسفة والمفكِّرين على أهمِّيَّة دور الأخلاق في الفنون والأدب.

فأخلاق البشر النبيلة، تضطلعُ بالدَّور الأكبر في إنجاح الفنون المصنوعة، وبالتالي، فإنَّ الفنَّانَ يعكسُ أخلاقَة في عمله الفنِّيّ.

وإنَّ مَن يقرأ قصائد قسطاكي الحمصيّ يَرَ أنَّ تلك النَّفس الوثَّابة كانت صبَّة متيَّمة بالجمال من شتَّى نواحيه الكونيَّة والأدبيَّة، حتَّى ليُخيَّل للمطالع المتثبِّت أنَّ الحُسن المتجلِّي المنتَشِر في الكائنات قد ملك على الشاعر نفسه وأستأثر بهواه. وهو يُمعن، بعَين مداركه، في التأمّل بهذا الجمال الذي يتصبَّى بجلاله وروعته، حتَّى يأخذه العيُّ في التعبير عن أثره البالغ المخامر فؤادَه. وهو يخصُّ النساء بعناية خاصَّة بفنِّ شعره، لأنَّ الجمال، لمَّا كان فيهنَّ، أظهر شكلاً، وكانَ أشدَّ وقعًا في النفوس. كما أنَّ جمال شعرهن لمسَه بمواقفه مع النساء، غزلاً وتشبيبًا وتصابيًا، موقف العاشق الهائم، الغارق في جمالهنّ.

كل هذا يؤكِّد جمال الشِّعر وقدسيَّته عند قسطاكي الحمصيّ، بحيث يرفعه إلى أعلى مراتب علم الجمال. فالجمال، عنده، جمالُ فنٍّ أدبيّ.

 

نماذجُ من شعره

تنوَّعَتْ قصائدُ الحمصيِّ، وطالَتْ كما قَصُرَت، وهنا نماذجُ منها، لا سيَّما في وَصف المدن الَّتي زارَها، ومنها باريس ولندن:

 

أجري ومن فرط سرور

ري رحتُ أجري أدمُعي

أذكرهم وكم أقو

لُ ليتَهم كانوا معي

أشتاقُهم وأنَّهم

في ناظري ومسمعي

بل إنَّ روحي عندهم

فهي معي بأجمَعي

***

سرحتْ في حُسن فرساي النَّواظرُ والـ

آمالُ تنشدُ يا أيَّامنا عودي

هذي الرُّبوعُ سقاها الغيثُ لا بَرِحَت

مخضرَّةَ العيشِ والأوراق والعود(6)

***

زرتُ لندنَّ ربَّة المدن والشمـ

سُ تجلَّت أنوارَها في الرِّياض

إن تكُن شمسُها قد احتجبت فالـ

نُّورُ فيها كالبرق في الإيماض

لو يكونُ الجمالُ في بسطة الجسم

لَحازَته دونَ وجهِ اعتراض

غير أنَّ الجمالَ ليس يروقُ الـ

عَينَ إلاَّ بنسبة الأبعاض

كلّ شيءٍ يبدو بباريزَ في أبْـ

دعِ طرزٍ من الجمال المُفاض

حاز سكَّانها من الذوق أسما

هُ ونال الأنام محضَ النفاض(7)

 

 

الحواشي:

1- لمزيد من المعلومات عن قسطاكي الحمصي، راجع ما كتبناه عنه في مؤلَّفنا "باقة من المؤلِّفين العرب المسيحيِّين"، ص 167-186، الصادر عن دار نعمان للثقافة، لبنان، 2023 / قسطاكي الحمصيّ، كتاب مرآة النفوس، ص 7.

2- قسطاكي الحمصيّ، كتاب مرآة النفوس، ص 21-22.

3- المرجع السابق، ص 26.

4- الحمصي قسطاكي، أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر، ص 259.

5- الحمصي قسطاكي، منهل الوراد في علم الانتقاد، الجزء الثالث، ص 39-40.

6- الحمصي قسطاكي، مختارات من نظم الأديب الكبير الأستاذ قسطاكي بك الحمصي الحلبي، الجزء الأوّل، ص 86-87.

7- المرجع السَّابق، ص87-88.

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=205502
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 07 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 07 / 17