تبقى أزمة الصدام التي تعيشها المجتمعات والأمم والحضارات حاضرة في كل وقت ومثيرة للحروب والفتن والكراهية ونزعات الانتقام والثأر، فقد تعلم الإنسانُ كيف يحارب أخاه لكنه لم يتعلم كثيراً كيف يتعايش معه في إطار مشترك قائم على إدارة المصالح المشتركة بأساليب سلمية، فكيف يمكن تعلم تحقيق العيش المشترك بعيداً عن لغة الصدام والكراهية؟
عرفت الحضارات الإنسانية مفهوم التعايش والحوار السلميين وما يقابلهما من مفهومات العنف والعدوان، وقد تجلى هذا المفهوم في مختلف الآداب الفكرية للأديان السماوية السمحاء والأديان الوضعية الأخرى، فهو يسجل حضوره في عمق التجربة الإنسانية، ويبدو واضحاً في صيغ تتنوع بتنوع المجتمعات الإنسانية في إطار الزمان والمكان والمراحل التاريخية المتلاحقة، ومن يستعرض تطورات هذا المفهوم في التاريخ الإنساني يجد أنه أخذ اشكالاً وصيغاً مختلفة ومتنوعة من حيث البساطة والتعقيد والإمتداد والحضور، وقد سجلت هذه الأشكال والصيغ حضورها بوحي التنوع الحضاري والثقافي للمجتمعات الإنسانية.
نظرة في مفهوم التعايش من خلال ما جاءت به الأديان السماوية، نجده يستند على وجود أرضية مشتركة بين الأطراف من أجل البحث عن حقيقة التعامل والتفاعل والممارسة الإنسانية، فقد أكدت الديانة اليهودية على ضرورة التعايش وسجلت أبهى صورها في الوصايا العشر، وكذلك الديانة المسيحية من خلال ما جاءت به الأحاديث المروية في الانجيل عن المسيح عليه السلام والتي تؤكد على التسامح والعفو والمودة بين الناس بعدها مصداقا من مصاديق التعايش، إلا انها في الاسلام نجدها تأخذ بعداً آخر قريب لما إستقر عليه المصطلح من دلالة وإستعمال من خلال الروايات الواردة عن الرسول محمد (ص) عن طريق بنائه للأرضية التي تعلمنا منها بطريقة وأخرى كيفية التعايش وإحترام أهل الملل والديانات، فقد بنى لنا كياناً إنسانياً خلاقاً، كان بمثابة الدرس الذي أراد أن نوصله اليوم الى كل من يحاول أن يسيء إلى الإسلام ورموزه حينما قال: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، وإصطناع الخير إلى كل أحد برّ أو فاجر)، كذلك هو الإمام السجاد زين العابدين (عليه السلام) حينما سمع أن شخصاً دعا بحضوره قائلاً: اللهم أغنني عن خلقك، فلما سمع الإمام كلامه رد عليه قائلاً: ليس هكذا الناس بالناس، ولكن قل: اللهم أغنني عن شرار خلقك، ولا ننسى بأن الإمام الباقر (عليه السلام) كان أول من صرح بشكل لا يقبل التأويل بأن التعايش هو سنة إسلامية سبقت ما وصل إليه المصطلح في وقتنا الحاضر، وأن صلاح الأمة والناس لا يكون إلا به حينما قال: (صلاح شأن الناس التعايش....).
وتأسيساً على ما تقدم نجد إن المفهوم لم يبتعد كثيراً عما جاءت به الاديان السماوية الانسانية السمحاء فمنذ البداية اقترن المفهوم بحرية التفكير والتعامل والممارسة، وبدأ ينضوي تدريجياً على منظومة من المضامين الإجتماعية والثقافية والعلمية الجديدة التي أوحت بها العصور المتلاحقة بما تضمنت عليه هذه المراحل من صور جديدة لتصورات إجتماعية متجددة أسفر العصر الحديث بتطوراته المختلفة عن وجودها، فالمفهوم ولد ليؤكد تعبيرات جديدة في الذهنية ناجمة عن علاقة إجتماعية جديدة قوامها علاقة الإعتراف المتبادل بين القوى التي إستمرت تتصارع لأجيال من الزمن، فللإنسان الذي يروم العيش مع الاخر عليه أن يلتزم مجموعة من الامور التي تأخذ بيده نحو مجتمع أكثر تحضراً مبني على أسس المواطنة التي تصب في طريقة فهم الاخر، وهذه الامور هي:
1- يجب أن تكون الرغبة في التعايش نابعة من الذات، وليست مفروضة تحت ضغوط، أيا كان مصدرها، أو مرهونة بشروط، مهما تكن مسبباتها، وعلى هذه الرؤيا يكون التعايش بعيداً كل البعد عن الأدلجة المقيتة التي تسيّر الانسان وفق الوجه التي تختارها.
2- الحوار هو أمر آخر من الأمور الواجب التمسك بها للوصول الى التعايش مع الآخرين بشرط أن يكون مبنيا على إحترام الآخر والنظر إليه نظرة المتساوي المحترم، بعيداً عن أية تعصبات أو أية أفكار مسبقة عن الآخر.
3- التسامح بأنواعه المختلفة الديني والإجتماعي والسياسي في كونه ضرورة وجودية تتعلق بالحيثية التي جبل الإنسان على التوافق معها من أجل تحقيق التعايش مع الآخر.
4- العدالة تساهم في بناء عالم يتعايش فيه الناس بسلام وبتفاهم معقول، لذلك نجد إن أغلب الدول الدكتاتورية والتي تنعدم فيها العدالة يكون فيها التعايش معدوما تقريباً فلا مكان للحوار ولا مكان لفهم الآخر المتوافق، فما بالك في الفرد المخالف؟
من خلال ما تقدم نجد إن كل إنسان يتعامل مع نفسه من خلال تعامله مع الآخرين، مهما حاول التظاهر بغير ذلك، ويكشف عن هذه الحقيقة بوضوح أنه لا يشعر بالتناقض بين نفسه وبين الآخرين إلا ويبتعد عنهم استعداداً للهجوم عليهم والثأر منهم وأنه لا يشعر بأن عدواً من أعدائه التأريخيين يساعده في تأمين شيء من هدفه وإلا ويقلب الصفحة معه ويتعلق به وكأنه ولي حميم وهذه هي مصاديق التعايش مع الآخرين.
|