يستهجن كل من لم يتعرّف على حقيقية التشيّع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، صدور بعض التصرّفات الشيعية في مناسباتهم الدينية، خصوصا فيما تعلق بذكرى استشهاد سيد شباب أهل الجنة عليه السلام، في خيرة من أهل بيته وأصحابه، يرى فيها عموم الشيعة مواساة للنبي صلى الله عليه وآله بما حصل لأهل بيته من عدوان لا يمكن تبريره بأي حال، وقد جاءت هذه التعابير التضامنية معبّرة عن عمق انتماء متجذر لمنهج إسلامي يُعْتَبَرُ الأول في ظهوره حيث لم يكن هناك على الساحة الإسلامية غير فريقين: فريق صاحب حق وهو علي بن أبي طالب، وفريق صاحب باطل وهو معاوية بن ابي سفيان، ومن لم يكن منتسبا لأحد الفريقين، فهو خاذل للحق محجوج عند الله ولدى عباده دون أدنى شك، ولا حاجة لنا في أن نسترسل أكثر هنا، ولدينا حكم بات من النبي صلى الله عليه وآله قال فيه: ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما) (1) ونحن نعرف أن عليا بويع خليفة للمسلمين بيعة عامة، لم يتخلف عنه سوى من غلبته شقوته عن أداء واجب لا يجب التخلف عنه، فكيف يصبح من بات في حكم المقتول خليفة، يستعبد المسلمين ويمعن في ظلمهم، ويأتي بعد ذلك من يترضّى عنه تحت مبررات واهية، تسقط عند لقب اطلقه النبي صلى الله عليه وآله عليه وعلى أبيه: اذهبوا فانتم الطلقاء؟
ما يجب أخذه بعين الاعتبار أيضا، أن حركة تحريف الأحاديث النبوية بدأت في حياة النبي صلى الله عليه وآله، محذّرا من مغبة الإقدام على ذلك بقوله: (من كذب علي يلج في النار) (2) ولم يكن ذلك ليمنع طلاب الدنيا - وما أكثرهم - عن مواصلة نهجهم التحريفي، خصوصا وقد تهيّأ ذلك لهم، باستيلاء معاوية على الحكم بالمكر والخديعة، فتعاظمت حركة وضع الروايات والمكذوبة ونسبتها إلى صاحب الوحي، وتزامن ذلك مع أعمال تشويه وبطش كبيرين بشيعة علي وأهل بيته، امتدت من المدينة الى الكوفة إلى اليمن، لم يسلم منها سوى من تركوا الديار، وفروا بجلودهم من أعمال بني أمية الانتقامية التي كانت بدافع حقد دفين ظهر ليكشف معادن خبيثة كان النبي قد أشار إليها: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق) (3).
وطبيعي أن تتربى في المجتمع فئة من طلاب الدنيا، مستعدون لتنفيذ ما يأمرهم به سلطانهم، دون مراعاة لأي قيمة إسلامية يمكن أن تمنعهم من تلك الاعمال الموكلة اليهم، فمن قتل عليا، ودس السم لابنه الحسن، ومن حال دون وصول الحسين إلى الكوفة، وجعجع به في كربلاء، وقام بارتكاب مذبحة فظيعة بحقه وحق أهل بيته وأصحابه، ليس من العدل أن يوصب بالإسلام فضلا عن الايمان وأن يُترضّى عنه، لاحظوا هنا إلى أي مدى وصل بنا الأمر في خلط الحق بالباطل، فلا تمييز حاصل بينهما في ذلك الزمن إلا من رحم ربك، في مجتمع رضي بأن يكون مطيّة سوء أمويّة.
وعندما نستعرض ما جاءنا من تاريخ تلك الأزمنة القبيح أفعال اهلها، من انتهاكاتها الإنسانية، نستطيع أن نتبين مدى عمق آثارها المادية والمعنوية، على طائفة واحدة من المسلمين، رفضوا الخضوع لحكم بني أمية، على أساس أنهم مغتصبون ظالمون ومعتدون، وقد قابلهم هؤلاء الحكام ببطش وقوّة شديدتين، كما جاء مُدَوّنا: أخرج المدائني في كتاب الأحداث ما يلي:
(ألا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي وأهل بيته وقامت الخطبة في كل مكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب عليه السلام والبراءة منه والوقيعة في أهل بيته واللعنة لهم بما ليس فيهم عليهم السلام. ثم اشتد البلاء بالأمصار كلها على شيعة علي وأهل بيته، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة، لكثرة من بها من الشيعة واستعمل عليها زيادا ضمها إليه مع البصرة وجمع له العراقين وكان يتبع الشيعة - وهو بهم عالم - لأنه كان منهم قد عرفهم وسمع كلامهم أول شيء، فقتلهم تحت كل كوكب، وتحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل منهم، وصلبهم على جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشردهم، حتى انتزحوا عن العراق، فلم يبق بها أحد منهم إلا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب. (4)
من خلال هذا النص الواضح، نستطيع أن نستجلي حقيقة ما تعرض له الشيعة من أعمال إبادة وتنكيل، لم يراعى لهم فيها أي حق من حقوق الإسلام البديهية في حرمة الأنفس المحترمة، فمحنة المسلمين الشيعة غير متعلقة بالإمام الحسين يوم عاشوراء وحدها، بل هي سلسلة من الإنتهاكات التي تعرضوا لها طوال فترات متباعدة من الزمن، وكانت عاشوراء منتهى الظلم والتعدّي والاجحاف بحق صفوة الإسلام من عترة النبي صلى الله عليه وآله الطاهرة، وبها انفجرت مشاعر الحب والمواساة لهم، وحقيق بمن مات محزونا عليهم أن لا يُلام، بل كان أجدى بمن استنكر أفعال حزن المكلومين، أن يكون عادلا باستنكار ما تعرض له أهل البيت وشيعتهم من اعتداءات، ولا يرى في من حزن على أبي الأحرار غضاضة بما فعله، تعبيرا عن حزنه مهما أتى، فخطب الحسين عظيم لو وعى المسلمين عظم الجريمة وتقصيرهم تجاهها.
من الخطأ الجسيم الإصرار على البقاء تحت تأثير موروثات خاطئة، تسببت في ظهور دابة تكفير الشيعة، لأمكن لهم الإبتعاد عن مجال أسّسه حكامهم، وبالغوا في التنكيل بفرقة إسلامية أصيلة، لا ذنب لها جنته منذ تأسيسها، سوى أنّها رفضت موالاة الظالمين، بدأ ممن اغتصب الحكم من أئمتهم، الذين آمنوا بهم قادة مرحلة ما بعد النبوّة، اصطفاهم الله سبحانه على خلقه، من أجل أن يمارسوا دورهم في حفظ الدين آدابا وأحكاما، ولا يمكن فهم المسلمين الشيعة على هذا الأساس، من دون النظر إلى أمّهات كتبهم، المعتمدة في أصولها وفروعها على روايات أئمتهم - وهي متاحة لمن يريد أن يعرف - وبالتالي تبديد أوهام خاوية، ركّبها عليهم من عملوا على إدانتهم باطلا، وعملوا على التحريض عليهم دهرا طويلا.
لم يطلب أحد من هؤلاء الذين كفّروا الشيعة، أن يخرجوا من حصنهم الفقهي والعقائدي الذي شيده لهم حكامهم، باستبعاد فقه أئمة أهل البيت عليهم السلام، من إطار اعتماده كسائر مدارس فقهية، أقرّوها مناهج تعبّدية، وإن تخللها اختلافات فيما بينها، أدّى الى صدامات افتعلتها العامة، واعتداءات وقعت في مناطق مختلفة من بلاد الإسلام لأسباب تافهة، لا ترقى لاعتبارها مادة خلاف، من شأنها أن تُسبب كل ذلك التحامل والعداء وسفك الدماء عليها، ما كان مرْجُوّا منهم التماس الأعذار التي تسمح بالتعايش بينهم وتستبعد التعصب، وتلغي منهج التطرّف الذي ما فتئ يسوقهم إليه حكامهم.
المصادر
1 – صحيح مسلم ج6ص23ح1853
2 – سنن الترمذي ج4ص395ح2660
3 – سنن الترمذي ج 6 ص 94 ح3736
4 – شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد ج 3 ص 595
|