دائما ما استحضر الحادثة التي رواها لي نجل استاذنا الراحل الشيخ (ماجد) وهو يطلب من والده المحتضر ان يوفر له اي وسيلة تريحه في آخر سني عمره ، وكان التلفاز والفديو في حينه يؤلف واحدة من هذه ، الا ان الراحل نظر اليه بعمق قائلا : اذا اردت راحتي فعليك بالكتاب ! اذهب واشتر لي كتبا ، تلك هي راحتي وذاك هو دوائي وانيسي وصديقي . ويؤكد جناب الشيخ ماجد ان الراحل راح يتصفح هذه الكتب والمجلات بشوق وشغف وانتماء عجيب ، جعله يهيم في عالم آخر ومثابات ممتدة ، ويضيف : لطالما وجدته غافيا نائما والكتاب بجنبه ، وكيف لا ، وهو الذي اوصاني بالقراءة وكررها عليّ مرات ومرات .
هذه الحادثة استوقفتني يوم امس امام مثقف واع قال لي : الاحداث كثر ، والمشاهد متنوعة ، والاخبار سريعة متغيرة ، والاوراق مكتوبة بطرق واساليب مختلفة ، والصور تتقافز امامنا تقافز القطط الفزعة ، والفديوات لا عد لها ولا حصر ، والمواقع الفضية والبنفسجية والرمادية والوردية تملأ الدنيا وتشغل الانام ..ولكن نح هذه عن مستخدمها تجده متخبطا بكلامه ، ولا تستوي عباراته ، ولا تتماسك حروفه امام كلامه ، فيفتقر الى الرؤية والنشيد والهدف ، حتى يصيح كلامه شاردا مبعثرا غير مستقر ، يفتقر و يخلو من وحدة الموضوع ، ويبتعد عن ربط الاحداث وتماسك الغايات ..قلت لمحدثي المثقف ان في عالم الشبكة العنكبوتية آلاف العناوين من الكتب وهي حديقة فكرية غناء فاقطف ما شئت من العلوم والمعارف . فأجابني : لا اقدر على قراءة اربع صفحات منها لاسيما وهذا الضوء الفضي يصيبني بالعشو او غيره مما يحول دون الرؤية .
اذن الحل سادتي بالقراءة المجردة من هذه الاجهزة التي تضم الكتب ، لا بل ان الكتب هي التي تضم هذه المواقع والمنصات الالكترونية والانترنيتية .. نعم القراءة الحاجة والقراءة الانتماء والقراءة الرسالة ... ولا اخفيكم ان الراحل (رحمه الله ) لطالما اسمعني عبارات جميلة في هذا الصدد ، ومن الطرائف التي سمعتها منه شخصيا ان ذكر لي يوما اسماء ادباء وكتاب ومفكرين لهم مكتبات خاصة في مكان الخلاء (اجلكم الله ) وهم يجدون في هذا المكان طقسا خاصا وراحة واستمتاعا بالقراءة ، بل انهم يديمون بهذه العملية التي هي جزء من برنامج قراءاتهم اليومية ، ويقيمون لها طقسا خاصا بهم . وذكر لي اسماء ادباء وكتاب اجانب يحتفظون بمكتبات عامرة داخل مرافقهم الصحية ! وبعيدا عن هذا الامر يؤكد الراحل على ان القراءة لها تأثير سحري واستثنائي على القارئ ، كما ان القراءة الواعية لا تعادلها معاهد وجامعات الحياة برمتها ، بل هي من تفتح الآفاق على هذه الجامعات بأنواعها واصنافها الفكري والاكاديمي .
ولمناسبة القراءة التي نحن بضمن دائرتها ، اتذكر ان الراحل قال لي يوما : ان لكل كتاب حكاية خاصة به وعالما مستقلا عن الآخر ، وان بعض الكتب قراءتها لأكثر من خمس مرات ، وكنت امر بها واتصفحها بشغف المحب ولوعة المشتاق .. وهناك كتب تغوص بأعماقها لتجد عوالم وسوح ومضامير بعيدة خصبة تجعلك لا تتخلص منها ، ولا تتركها او تغادر مساحاتها ، بل ان كتابا يسايرك كظلك ويرافقك كالصديق الخلوص والانيس الحبيب . واضاف ان لي مع كل كتاب حكاية وذكرى لطالما ذيّلت بعض عبارات في آخر هذه الكتب التي انتهيت من قراءتها او اعدت قراءتها لأجدها تحمل نصوصا جديدة ، ومعلومات متحفة ، واثراءات لا عد لها ولا حصر ، وهذا يعود الى اسلوب الكاتب الذي يعتمده ، اذ يجعل من كتابه لا ينتهي مع انتهاء عملية القراءة .
كما ان للقراءة اسلوبها المقدس والوقفي والكهنوتي ، فهي تغنيك عن الآخرين ، وتسلخك عن عالمك ، وتقودك لتعيش عالما بعيدا مخصوصا بك لوحدك . واذا شغلتك القراءة عن عالمك صرت عاشقا لها ، وتخليت عن علاقاتك الاجتماعية وواجباتيك العرفية ، وتقاليد حياتك . بل هي تشغلك ، بان تنسيك اهم معارفك ، الامر الذي جعل العامة ينعتون صاحبها بالجنون ، حتى رحنا نسمع من الآخرين ان فلانا جننته القراءة ! وهو فول شائع ما زلنا نكرره ونسمعه وللأسف .
المهم هنا سادتي انني انبه الى ان القراءة تصنع مجتمعا واعيا وناضجا ومنتجا ، لأنها تقف على تجارب وممارسات الآخرين الايجابية ، هذا اذا ما عرفنا ان ابرز الرجالات الذين قادوا مجتمعاتهم الى مضامير الانتاج والعمل والتقدم كانوا قراء عاملين ، استفادوا من تجارب الشعوب ، واستنسخوا اعمالهم ومشاريعهم ، واضطلعوا بطاقاتهم المحلية بعيدا عن دوائر الانزواء والاقصاء والخواء الفكري والثقافي الذي دائما ما يقود الشعوب الى الافلاس والامية والتخلف .
|