فيما تواصل الدول الصناعية الكبرى برامجها العسكرية النووية وصناعة أسلحة الدمار الشامل، دون حسيب ولا رقيب، تبذل أدواتها السياسية و الاستخبارية والإعلامية جهودا مكثّفة، لمجرّد شكوك باطلة تناهت اليها، من أجل اتهام ايران بإخفاء قسم من مشروعها النووي وعدم الإفصاح عنه، فما أعاد ذكره مدير وكالة الطاقة الذرية الدولية (رافائيل غروسي) هو تكرار لما كان صرح به سابقا، من توهّم مقصود به افشال أي اتفاق ممكن بين إيران وأمريكا، بينما بقي الاتحاد الأوروبي خارج الاطار التفاوضي، مما يدعونا إلى التساؤل، ان كان له ولإسرائيل دور في الدفع بمدير الوكالة الى نشر تقريره المشبوه في هذا الظرف من المفاوضات الإيرانية الامريكية الغير مباشرة.
ما لا يجب أن يُسكَت عنه في مجال الإعلام المسموم، ما جاء في صحيفة الصباح اليومي التونسية، في عددها الصادر يوم السبت 31 ماي 2025 الموافق ل4 ذي الحجة 1446 العدد 24280 السنة 75، مقالا تحت عنوان (النووي الإيراني وحرب الجواسيس في أوروبا) من دون ذكر اسم الكاتب – وهي عادة غير بريئة – لا تعبّر عن مصداقية، مستندة إلى تقرير نمساوي، يبدو أنه مفبرك متزامن مع تصريحات مدير وكالة الطاقة الذرية غروسي السيئة الذكر.
ففي مفتتح المقال، اشادة بتفوق نمساوي في تقريره الاستخباري على التقارير الأمريكية، كأنما الوكالة النمساوية تُعْتَبر أكثر كفاءة من المخابرات الامريكية، وهذا بحدّ ذاته مدعاة سخرية من كاتب المقال، الذي خبط خبط عشواء، دون ميزان فكر واقعي، من شأنه أن يجعل القارئ يصدّق ما كتبه في هذا الشأن، مع أنّ المخابرات الامريكية نفسها مزروعة بشكل كبير وبقدر أكبر، من القدرة والكفاءة في تحصيل المعلومات الدقيقة، على غيرها من أجهزة المخابرات الدولية الأخرى، بل ولها قدرة استخدام وتسخير عناصر مخابرات الدول الأخرى لتلبية مطالبها، بعد انتدابهم من داخل معسكرات تدربها في أمريكا نفسها، وهي سياسة دأبت عليها منذ عقود عديدة، ودول العالم تعلم ذلك وتدركه جيدا، لكنها لا تتخذ حياله أيّ موقف، وتبقى عاجزة على منعه.
هذا ولم تقم الثورة الإيرانية وتنتصر، إلا من أجل قطع النفوذ الأمريكي، المسيطر على إيران داخليا وخارجيا، وقد كشفت الوثائق التي استولى عليها الطلبة الإيرانيون الثوريون، من داخل السفارة الامريكية بطهران، عن مدى خطورة ما جاء فيها من معلومات تخص الشأن الداخلي الإيراني، وحسنا فعلت نُخَبُ الشعب الإيراني، استجابة لقيادتها الحكيمة في قطع دابر السفارة حينها، بعد أن أطلقوا عليها لقب وكر الجاسوسية.
كان على وكالة الطاقة الذرية الدولية - ان كانت صادقة - أن تسعى بجدّ إلى طرح برنامج فعلي، يعمل على نزع أسلحة الدمار الشامل، المهدد للحياة على وجه الأرض بصفة عامة، والذي يشكل بقاءه بين أيد لا تتسم بالحكمة وحسن السياسة، وعقول ركبها التطرّف، واستولت عليها عنصرية مقيتة، وليس أن تتخذ سياسة متآمرة على إيران، وهي بمديرها (غاروسي) هذا مدركان تماما، أنّها صادقة في برنامجها النووي السلمي، وليس فيه ما من شأنه أن يدعو إلى شك في وجود سعي يؤدّي إلى حيازة سلاح ذرّيّ.
سياسة وكالة الطاقة الذرية بشأن إيران بقيت متحاملة، منذ أن بدأت في بث أوهامها الى العالم، وهي ليست مخصوصة بهذا المدير - الذي فاق سابقيه في سعيه لإدانة إيران وتحويل ملف وكالته إلى مجلس الامن من أجل اتخاذ إجراءات ضدّها - فقد سبقه الى مساعيه المحمومة مدراء آخرون، أسهموا في تأزيم العلاقة بين إيران والوكالة، مثل (محمد البرادعي) المصري، الذي لم يدّخر جهدا في التشكيك بالبرنامج النووي السلمي الإيراني، ففي سنة 2008 اتهم البرادعي طهران في آخر تقرير بعرقلة جهود الوكالة، بزيادة اجهزة الطرد المركزي.(1)
المدير الوحيد الذي اتخذ من مواقفه خطا وسطا أكثر اعتدالا من سابقه هو (بوكيا أمانو) الياباني ، فمع اتهامه إيران بانتهاك بعض الالتزامات النووية، أكد أيضًا أن إيران كانت ملتزمة بالكامل بـخطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA)، وبالتالي رفض الانسياق إلى رغبات دول الغرب في التآمر على ايران، وعرقلة برنامجها النووي السلمي، ويبدو أن اتهام ايران إسرائيل باغتيال مدير الوكالة بعد أعلان وفاته بيومين(2) كان مؤسسا على خلفية مواقفه الرافضة للإنسياق وراء مخطط اتهام ايران بعسكرة برنامجها النووي، وقد بات واضحا للعالم بأن من يتقلد منصبا أمميّا في احدى منظماتها الدولية يجب أن يكون مرضيّا عنه من طرف أمريكا ودول الغرب.
المنظمات الدولية جميعها مسيّسة ومنحازة، وخاضعة لإرادة أمريكا وحلفائها من الاتحاد الأوروبي، ومن يروا فيها منبرا لنشر العدل، وحماية حقوق الشعوب فهُم واهمون، ولا اعتقد أن شعبا من الشعوب الغير خاضع للهيمنة الغربية، يأمل خيرا في جميع هذه المنظمات، وهي التي لم تتأسس من أجل الحفاظ على القيم الإنسانية، بل من أجل مصالح القوى الغربية الاستعمارية، وتكريس مزيد من هيمنتها على العالم.
ولا يبدو في أفق ما أسس أعداء إيران من سياسة متحاملة عليها، أن أمريكا بمقترح (ترامب) الدخول في مفاوضات معها، ستُقِرّ وتعترف بحقوقها النووية السلمية، خصوصا مسألة تخصيب اليورانيوم، وها أن أمريكا كشفت عن نواياها الخبيثة، في مقترحها الذي قدمته أخيرا المتعلق بوقف التخصيب، وقوبل اليوم بالرفض القاطع من طرف إيران، في مسألة لا يمكن المساومة فيها، باعتبارها حقا من حقوقها الذي يكفله القانون الدولي، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتنازل عنه، وحريّ بأمريكا أن تعي اليوم قبل الغد، أن ايران ليست سهلة الهضم بخصوص حقوقها في مجالاتها المشروعة، وهي مستعدة للدفاع عنها بكل الوسائل المتاحة، وهذا ما صرح به وأعلن عنه المسؤولون السياسيون القادة العسكريون، وعلى استعداد لكل طارئ قد يطرأ مستقبلا، وعلى أعداء ايران أن يفهموا أن وقت كبحها قد انتهى، ولا يمكنهم إعادة عجلته إلى الوراء.
المراجع
1 – البرادعي يتهم طهران بعرقلة جهود الوكالة الدولية للطاقة الذرية
https://arabic.rt.com/news/20040-
2 – إيران: اسرائيل اغتالت مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية
https://samanews.ps/ar/post/382563/
|