
كانت الأوضاع السياسية قبل تولّي الإمام الرضا (عليه السلام) شديدة جداً على الشيعة خاصة العلويين منهم، وذلك جراء التعامل الفظّ من العباسيين معهم وتشديدهم عليهم حتى آل الأمر أن يقول قائلهم:
يا ليت ظلم بني أمية دام لنا --- وعدل بني العباس في النار
ومن هنا وجد المأمون العباسي المعروف بدهائه نفسه أمام خيارين: فإمّا يحذو حذو من مضى قبله من الحكام العباسيين ويفتك بالشيعة والعلويين، أو ينهج نهجاً آخر يخمد من خلاله غضب الشيعة وفي مقدمتهم العلويين، فاختار النهج الثاني وابتدع حيلة ولاية العهد التي فرضها على الإمام الرضا (عليه السلام).
عدم رغبة الإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد
كان الإمام الرضا (عليه السلام) عارفاً بأهداف المأمون، لذا رفض في البدء ولاية العهد ولكنُه أُرغم في الأخير على القبول مكرهاً، ففي الحديث عن الريّان بن الصلت، قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فقلت له: يابن رسول الله، إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا!
فقال (عليه السلام): قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أنّ يوسف (عليه السلام) كان نبيّاً رسولاً، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قال له: اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان (1).
بالطبع قبل الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد بشرائط أشار إليها في حديث له قائلاً: قد نهاني الله تعالى أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أني لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه (عليه السلام) بذلك (2).
كيفية البيعة
جلس المأمون، ووضع للإمام الرضا (عليه السلام) وسادتين عظيمتين، وأجلس الرضا (عليه السلام) عليهما في الخضرة وعليه عمامة وسيف، ثمّ أمر ابنه العباس أن يبايع له أوّل الناس، فرفع الرضا (عليه السلام) يده فتلقّى بظهرها وجه نفسه وببطنها وجوههم، فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة؟
فقال الإمام الرضا (عليه السلام): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هكذا كان يبايع، فبايعه الناس ويده فوق أيديهم (3)، وقامت الخطباء والشعراء فجعلوا يذكرون فضل الرضا (عليه السلام) وما كان من المأمون في أمره.
خطبة الإمام الرضا (عليه السلام) يوم البيعة
دعا المأمون الإمام الرضا (عليه السلام) أن يخطب في الناس، بعد البيعة فقال: اخطب الناس، وتكلّم فيهم، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ لنا عليكم حقّاً برسول الله، ولكم علينا حقّاً به، فإذا أنتم أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحقّ لكم (3).
الإمام (عليه السلام) يخبر بوفاته قبل المأمون
روي أنّ أحد خواصّ الإمام (عليه السلام) كان حاضراً مستبشراً في الاحتفال الذي أقامه المأمون بمناسبة قبول الإمام (عليه السلام) بولاية العهد.
فنظر إليه الإمام (عليه السلام) وأومأَ قائلاً: أُدنُ مِنِّي، فلمّا دنا منه همس (عليه السلام) في أُذنه قائلاً: لا تشْغَل قلبَك بِهَذا الأمرِ، ولا تَسْتَبشِر لَهُ، فَإنّهُ شَيء لا يَتمُّ (4).
التغيرات الحاصلة بعد قبول ولاية العهد
لقد قام المأمون ببعض التغيرات، منها:
1ـ أبدل لبس السواد الذي هو شعار للعبّاسيين بلبس الثياب الخضر الذي هو شعار للعلويين.
2ـ أمر بطبع اسم الإمام الرضا (عليه السلام) على الدراهم.
3ـ أعلن عن عزمه على صرف مرتّب سنوي بهذه المناسبة السعيدة.
أهداف المأمون الدفينة
كانت للمأمون عدّة أهدافاً من بيعته للإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد، منها:
1- تهدئة الأوضاع المضطربة: حيث اضطربت أوضاع الحكم بسبب القتال الدامي بين الأخوين (الأمين والمأمون)، إضافة إلى قيام الثورات والحركات المسلّحة، وازدياد عدد المعارضين لحكمه.
فأراد المأمون من تقريب الإمام (عليه السلام) استقطاب أعوانه وأنصاره، وإيقاف حركاتهم المسلّحة ليتفرّغ إلى بقيّة الثائرين والمتمرّدين الّذين لا يُعتد بهم قياساً للثوّار العلويّين.
وأراد كسب ودّ الأغلبيّة العظمى من المسلمين لارتباطهم العاطفي والروحي بالإمام (عليه السلام)، وخصوصاً أهل خراسان الّذين أعانوه على احتلال بغداد، والشاهد على ذلك استقبال الإمام عليه السلام من قبل عشرين ألف عالم وفقيه وصاحب حديث في نيسابور.
وبتقريب الإمام عليه السلام كان يمكن امتصاص نقمة المعارضة وتفويت الفرصة عليها للمطالبة بالحكم.
2ـ إضفاء الشرعيّة: لم يصل المأمون إلى الحكم بطريقة شرعيّة، وكان إقرار حكمه من قبل الفقهاء نابعاً من الترغيب والترهيب، أو استسلاماً للأمر الواقع، وعدم القدرة على تغييره.
لذا، فإنّ ما قام به المأمون من تولية الإمام (عليه السلام) يُمكن أن يحقّق له ما يصبو إليه من إضفاء الشرعيّة على حكمه، مستفيداً من الولاء الفكريّ والعاطفي للإمام (عليه السلام) في نفوس المسلمين.
3ـ منع الإمام من الدعوة لنفسه: الإمام مسؤول عن دعوة الأمّة للارتباط بالإمام الحقّ والمنهج الحقّ. والمتعارف عليه أنّ وليّ العهد يدعو للحاكم الفعليّ ثمّ لنفسه.
ومن هنا كان تفكير المأمون منصبّاً على توجيه دعوة الإمام لنفسه.
وقد صرّح بهذه الحقيقة بقوله: قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه دوننا، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه إلينا (5).
4ـ إبعاد الإمام عن قواعده: إنّ وجود الإمام (عليه السلام) في العاصمة بعيداً عن مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم يعني انفصاله عن قواعده الشعبيّة، وتحجيم الفرص المتاحة للاجتماع بوكلائه ونوّابه المنتشرين في شرق الأرض وغربها، ومن جهة أخرى جعل الإمام تحت الرقابة المباشرة من المأمون الّذي قام بتقريب وإغراء هشام بن إبراهيم الراشديّ ـ وكان من خواصّ الإمام ـ وولّاه حجابة الإمام (عليه السلام)، فكان ينقل الأخبار إليه، ويمنع من اتّصال كثير من مواليه به، وكان لا يتكلّم في شيء إلّا أورده على المأمون.
5ـ إبعاد خطر الإمام عن الحكم القائم: إنّ توسّع القاعدة الشعبيّة للإمام (عليه السلام) كان يشكّل خطراً حقيقيّاً على حكم المأمون بعد التصدّع الّذي حدث في البيت العبّاسيّ، وخاصّة بعد قيام الثورات المسلّحة، فلو تُرك الإمام (عليه السلام) في المدينة لأدّى ذلك إلى ضعف السلطة القائمة.
وبهذا الصدد قال المأمون: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه (6).
6ـ تشويه سمعة الإمام (عليه السلام): أجاب الإمام (عليه السلام) المأمونَ موضِّحاً دوافعه بقوله: تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً بالخلافة؟
وصرّح المأمون بذلك للعبّاسيّين بقوله:...ولكنّنا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحقّ هذا الأمر.
7 ـ تفتيت جبهة المعارضة: إنّ المعارضين لحكم المأمون سينظرون إلى الإمام الرضا (عليه السلام) على أنّه جزء من الحكم القائم، وتتعمّق هذه النظرة حينما يجدون أنّ بعض ولاة المأمون هم من أهل بيت الإمام (عليه السلام) أو من أتباعه.
وإضافة إلى ذلك فإنّ الوالي مكلّف بقمع أيّ حركة مسلّحة، وفي هذه الحالة ستكون المعارضة وجهاً لوجه أمام الولاة المحسوبين على الإمام (عليه السلام) ممّا يؤدّي إلى تفتيت جبهة المعارضة.
والأهمّ من ذلك أنّ الفساد الإداريّ والحكوميّ سَتُلقى مسؤوليّته على هؤلاء الولاة باعتبارهم من أركان الحكم القائم.
هل حقّق المأمون أهدافه؟
في الحقيقة أنّ جميع الشواهد والدلائل تدلّ على أنّ المأمون لم يكن جادّاً في عرضه للخلافة، إذ كيف يمكن للمأمون أن يكون جادّاً وقد قتل من أجل الخلافة أخاه وأتباعه، بل وحتّى وزراءه هو وقوّاده وغيرهم.
وأهلك العباد وخرّب البلاد، فقد خرّب بغداد وأزال كلّ محاسنها من أجل الحصول على الخلافة، فكيف يتنازل عنها بهذه السهولة، بل ومع هذا الإلحاح والإصرار منه لرجلٍ غريب ليس له من القربى منه ما لأخيه، ولا من الثقة به ماله بقوّاده ووزرائه!.
وهل يمكن أن نصدّق أنّ كلّ ذلك ـ حتّى قتله أخاه ـ كان في سبيل مصلحة الأُمّة ومن أجلها ولكي يفسح المجال أمام من هو أجدر بالخلافة وأحقّ بها من أخيه ومنه؟
وإذا كان قد نذر أن يولّيه الخلافة لو ظفر بأخيه الأمين ـ حسبما ورد في بعض النصوص التاريخيةـ، فلماذا وكيف جاز له الاكتفاء بتوليته العهد؟!
وكيف استطاع إجباره على قبول ولاية العهد، ولم يستطع إجباره على قبول الخلافة؟ وهل يتّفق ذلك مع إرجاعه للإمام (عليه السلام) عن صلاة العيد لمجرّد أنّه جاءه من ينذره بأنّ الخلافة سوف تكون في خطر لو أنّ الإمام (عليه السلام) وصل إلى المصلى؟!
والنتيجة هي: إنّ المأمون لم يكن جادّاً في عرضه للخلافة، وإنّما فقط كان جادّاً في عرضه لولاية العهد.
ويبقى هنا سؤال: لو أنّ الإمام قبل عرض الخلافة، فماذا ترى سوف يكون موقف المأمون؟!
والجواب: إنّ المأمون كان قد أعدّ العدّة لأيّ احتمال من هذا النوع، وقد كان يعلم أنّه يستحيل على الإمام (عليه السلام) ـ خصوصاً في تلك الظروف ـ أن يقبل عرض الخلافة من دون إعداد مسبق لها.
.........................................
(1) أمالي الصدوق: 72.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/140.
(3) الإرشاد: 2/262.
(4) إعلام الورى: 2/74.
(5) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/170.
(6) علل الشرائع: 1/238.
|