جرت عادة بعض المتابعين للشأن الإيراني استباق أحداثه، من باب الحرص والخشية عليها، وهو إن كان مستساغا لديهم مُبّرّرا، مدفوعا بحرصهم عليها، إلا أنه مدعاة لزيادة امكانية الحاق الضرر بها دعائيا دون شعور منهم، ويأتي استغلال البعض الآخر ثغرة ضعف الثقة، الناشئة من تأثرهم بما يروجه الغرب بإعلامه السفيه، ليدلي برأيه في أي حدث حاصل في إيران، يرى من خلاله قدرة على استشراف ما يخفيه من أسباب ودوافع، ليخلص إلى القول أنه حدث مدبر من طرف أعداءها، يرى وجوب التحرك سياسيا وعسكريا للرّد عليه، خلاف ما تراه إيران بما يقتضي مصلحتها وتفرضه خِططُها السياسية، من أجل إبقاء نتيجة هذه الحوادث طي الكتمان لديها، فلا تدلي بما يؤكد على أن هذا الحق أو ذاك عرضي أو مفتعل، لتبقى التكهنات قائمة تتناقلها الناس، بلا وازع يوقف اندفاعهم في استنتاج هذا الحادث أو ذاك، فيسيئون لإيران من حيث لا يشعرون.
بعضهم لا يزال مُصِرّا على موقفه، من حادث سقوط مروحية الشهيد السيد إبراهيم رئيسي رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على أنه جريمة مرتكبة بحق إيران، اشترك فيها أكثر من طرف خارجي، هؤلاء اليوم عادوا من جديد، ليربطوا الانفجار الذي حصل في مرفئ الشهيد محمد علي رجائي ببندر عباس، بما حصل في مرفأ بيروت، بمعنى أنه انفجار مفتعل، واعتداء مدبر من طرف امريكا واسرائيل بلا فرق بينهما، فهما قوّتين عدوّتين، متواجدتين في خندق واحد معاد ومحارب لإيران، وتاريخهما في الاجرام لا يحتاج إلى عناء في كشف ما ارتكبتاه من جرائم بحقّها.
حادث الانفجار الكبير الذي يحصل اليوم في المرفئ المذكور، كان مفاجئا ولم يكن أحد يتوقعه في هذا الظرف الذي تخوض فيه الدبلوماسية الإيرانية مفاوضات هامة، متعلقة بملفها النووي السلمي، استجابة للمنطق والعقل الذي دعا القيادة الإيرانية، إلى الموافقة على إجراء مفاوضات غير مباشرة مع أمريكا، تأكيدا أخيرا منها، على صدق وشفافية برنامجها النووي السّلمي، وخلوه من أي جانب عسكري، وهذا العرض المقدّم من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يُعتبر في عالم السياسة تراجعا منه، بعد اطلاق تهديداته بضرب ايران، ورجوعه من التهديد إلى الحوار لم يكن الا لأنّه أدرك من خلال نصائح قادته العسكريين بأنّه تهديد غير مُجْدٍ، بقطع النظر فيما اذا كان عرضه اجراء مفاوضات جادا أم لا، يعطي فكرة واضحة عن تخبط السياسة الأمريكية على عهد ترامب، وارتباكها في تعاملها مع عدوتها إيران.
وقد لاحظ المتابعون للشأن السياسي في العالم - وهذا ما يتناساه ويتجاهله هؤلاء الناقدين لإيران - أن أمريكا لا تفاوض عملاؤها أبدا، ذلك أنها تعتبرهم عبيدا مسخرين لخدمتها، بل تُملي عليهم ما يجب فعله، وتأمرهم في أي موضوع يخصها، أمرا غير قابل للنقاش ولا الرفض، فيسمعون لها ويطيعون، كما أخبر الله عن طينتهم الخبيثة، صم بكن عمي لا يعقلون، وتلك خصائص العملاء على مرّ الأزمنة وفي كل الحالات.
فرضية عمل تخريبي تبدو محتملة، في انتظار ما ستسفر عليه تحقيقات جادة، نأمل أن تصل إلى نتيجة ترفع لبس ما حصل وتفكّك لغزا يمكن أن يجلّي حقيقة ما جرى أهو حادثٌ عرضيّ أم عمل إرهابي اختار الميناء باعتباره مكانا سهل الاختراق، فيكون العمل التخريبي الذي يُحتمل أن يكون قد نفّذه عملاء متآمرون في الداخل، مشابه شيئا ما لما حصل في ميناء بيروت، وأعتقد أن السلطات الإيرانية قد سارعت بواسطة محققيها الأمنيين في مباشرة التحقيق، ولن تتأخر في كشف ملابسات الإنفجار كما لن تتأخر في معاقبة المجرمين والمقصّرين، أيّا من سيكون مدانا أو متورّطا في الحادث.
ندرك جيّدا ما يحيط بإيران وما يتهددها، وهي بدورها مدركة له تماما، وتعمل جهدها على المستوى الأمني، لإحباط أي محاولة لزعزعة أمنها الداخلي، وقد حققت نجاحات جديرة بالتنويه، أحبطت بها أعمالا إرهابية عديدة، كشفت من خلالها عناصر وخلايا إرهابية، كانت تخطط للقيام بعمليات ضدها في الدّاخل، وإمكانية ارتكاب عمل إرهابي، يستهدف أمنها واستقرارها وارد، رغم النجاحات الأمنية المحقّقة في الميدان مكافحة الإرهاب التكفيري، النابع من الفكر الوهابي، وتتخذ منه أمريكا وحليفتها السعودية أداة فتنة، لزعزعة أمن واستقرار إيران والمنطقة بأسرها، بما يساعد مشروعها في شرق أوسط جديد تهيمن عليه إسرائيل.
مهما يكن من نتيجة ستسفر عنها التحقيقات الإيرانية بشأن انفجار المرفأ، فلن يغيّر في شيء من مسار المفاوضات الإيرانية الأمريكية التي ستتواصل، ولكنّها ليست مضمونة النتائج، باعتبار أطماع الطرف الأمريكي المعروفة، الذي يسعى إلى تحقيقها بما لم تحققه إدارته بالعقوبات والتهديدات، فيما تريد إيران من خلالها، اثبات شفافية وصدق برنامجها النووي السّلمي، سواء توصّلت من خلال هذه المفاوضات إلى نتيجة ترضيها وتضمن جميع حقوقها أو لم تتوصّل، ودخولها تحت سقف مفاوضات ثنائية بوساطة عُمانية، هو بحدّ ذاته مكسب سياسيّ، وتفوّق جديد لدبلوماسية إسلامية نشطة، ذات كفاءة يشهد لها الصديق والعدوّ في حسن إدارة الأزمات والمفاوضات، أقول لمن ذهبت به اوهامه بعيدا ايران عصيّة على من أراد بها سوء، وستخرج بمحورها المقاوم منتصرة بإذن الله، فلا تبتئسوا ولا تقنطوا من رحمة الله.
|