قد تتطفل المقامة الصنعانية على عالم الشعر ، بعد ان هيمن الشعر على كل مفاصل الادب ، واصبح الشغل الشاغل في سوح الابداع ، لاسيما والمقامة تحتاج الى كفاية عالية ، واطلاع واسع ، وخيال خصب وهي تجمع كل ارهاصات وتجليات علوم العربية من نحو وصرف وبلاغة .. لذلك اختص اهل المقامة بتطلعاتها كعلم موقوف ومخصوص بأصحابه من ذوي العبقرية والاجتهاد الفكري .
وهكذا كان الحريري ، ذلك العلم البصري الكبير ، والمشروع المعرفي المتجدد ، يقتحم تلك المضامير العامرة بفنون النحو والبلاغة والشعر .. بعد ان اصبح حجة في المقامة التي تضم هذه الفنون والضروب ، وكان المبدعون واللغويون يحجون الى مقامه السامي العالي ، ويتوجهون الى مجلسه الذي يُقّومُهُ كبار الادباء والبلغاء ، لينهلوا من فيض وعظيم اسباغاته ، وجليل اتحافاته ، ووافر ثقافاته ... وهكذا اصبح مشروعه الكبير (دُرّةُ الغوّاص في أوهام الخواص) منجدا ومعجما ومرجعا ومصدرا .. حفل بالتصويبات ، وتحري الصحيح السليم ، ودرأ الحوشي والمتطفل الزاحف .. فاستقامة به الالسنة ، واستقرت بوجوده البلاغة .
وهكذا انصبت كتابات ومراصد الراحل (الدكتور عامر السعد ) في هذه المقامة التي افرد لها ثلاثة كتب ، تطوف وتحلق حول افلاكها ، وتحج الى محاورها وموضوعاتها ، وتحط رحالها في مراكزها ونشيدها .. فاستنبط واستقرأ ابوابا ومحاور ومضامير ، كانت تحمل توجهات ورؤى متنوعة ، وكانت تستجلب وجهات نظر وموضوعات لعلماء اللغة وطلابها ، والمعنيين بها ، فرصدها من جهات متعددة ، وسلط عليها بوصلته الثاقبة من أماكن مختلفة ، وخاض غمارها في زورق واثق من امواجها المتلاطمة .. فكان بحق نعم الراصد ، وخير شاهد ، وافضل طالب واعد .. فاستحق عظيم الامتنان ، ونال شرف البيان ، وكسر مالم يكن بالحسبان .. فاصبح العالم الواثق ، والمصحح الراتق ، والاديب الفائق ..
عرض الراحل (السعد) لمراحل المقامة في أوجه هي المشهد الاجتماعي الذي دشنه بحديث (الحارث بن همّام) ، بعدما فصل سياحته ، ورصدها ، وبين أهدافها ، وحدد (غربته) ، وبين الدواعي التي قادته الى ركوبها قسرا لا اختيارا ! وجاب سوح القول والبيان ، ليجد البديل ، ويضع البدائل ، فكان خير من ساق البرهان ، واضطلع بالدلالة والبيان ، وحقق ما تتطلع اليه قفار النفس والجنان .. وانتقل الى المشهد الثقافي ليقف على الشخصية المحورية في المقامة ، وهي الشخصية المنتجة للخطاب ، والتي تجتاز اطلال القول لتنوش السحاب ، وتنصهر مع الجمهور لتضع راجح الأسباب .. فكان صديق وانيس المضطهدين والبائسين والمحرومين ، وناصر المحرومين والمحتاجين . وعرج الى ( الخطاب) وعلاقته المباشرة ب (الثقافة) ولم يفصل بينهما لأنه أراد ان تكون العلاقة مباشرة منصهرة متعادلة فيما بينهما ، مشيرا الى أهمية المنظومة القيمية التي تحقق دعم ومساندة وتعزيز حياة ووجود الامة :
( فإنما الأمم الاخلاق ما بقيت وان هم ذهبت اخلاقهم ذهب )
وهكذا يجعل ( السعد) المعادل الأخلاقي ، الذي يؤدي الى صلاح الامة ، وتعزيز دعائم نهضتها ، لذلك لا تكتمل حياة واهداف اية منظومة او مؤسسة او عنوان ثقافي وغيره ، من دون استكمال منظومة القيم والأخلاق والمبادئ . اذن تقوم المقامة وتبنى على هذا الأساس ، وتكون أهدافها ومشاغلها وهمها على هذا التوجه ، الذي اكد عليه ( عامر السعد) . وكانه إشارة لرسالة ما بعد الرحيل الذي كان معقودا بيومه وساعته (رحمه الله) .
|