يتعرض الإنسان في هذه الحياة إلى بعض العوائِق التي قد تؤدي إلى اضطرابات نفسية بمستويات قد تكون ضعيفة في بدايتها ومن ثم تتدرج صعوداَ أو نزولا ؛ بحسب قابلية الإنسان ومستوى إدراكه وفهمه وطاقة تحملّه وصبره ، وبما أن الله سبحانه وتعالى قد أبان في كتابه الكريم ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) ، لذا فإن الإنسان بما قدّر الله له فهو قادر على الطاعة والتحمّل ، وإن الصبر على النوائب في جنب الله يدخل في موضوع الطاعة له تعالى ، وبما أنه – الإنسان – يصبر على الطاعة ؛ فقد يتجاوز المحنة ، ويجتاز الإختبار في أعلى درجاته ؛ إيماناً منه بربه ، وتصديقاً بما أعد له .
لكي تستقيم الحياة لابد للإنسان أن يتحلى بالصبر دائما ؛ وذلك للتغلب على المصاعب والنوائب التي تصيبه من فقد الآباء والأبناء والأحبة ، أو أي إبتلاءات أخرى كالفقر والمرض .
يُعرّف الصَبر بأنه : تَرك الشَّكوى مَن ألمِ البَلوى لغَيرِ اللهِ ، وهو الصمود المستمرعلى الأشياء المؤلمة نفسياً وتحملها بروح عالية ، ونفس طيبة دون إظهار ملامح الاستياء والانفعال على ملامحه وحركاته ، بحيث لا تكون مرئية أو محسوسة من قبل الآخرين. انتهى.
الصبرُ روح التوازن ، إن كان مقدار الصبر مُتَسِعَاً عند الإنسان ؛ فكلما زِيدَ في بلاءه ازداد توازناً من الجانب الآخر بالتحمّل والتجلّد ، لتتجلى عنده بعد ذلك صفة الاستقامة والإنصاف والعدل .
ومَن كان مقدار صبره ضيّقاً ، ينقاد إلى الظلم والتعسف غالباً ، لعدم تحمله وتوازنه من جهة ، وقلة إيمانه بالله من جهة أخرى ، فيميل إلى جهة واحدة نحو الهاوية نزولا في انهيار مستمر، فيحضى بحياة ملؤها الشقاء والتعاسة والتذمر ، مما يزيده ذلك عدواناً وتأثيما.
قُسِّم الصَّبر في أحاديث النبي وآله عليهم السلام إلى ثلاثةِ أقسام :
الصَّبر على طاعةِ الله :
طاعة الله سبحانه وتعالى لها رونق خاص ، بها تأنس النفس ، وتهدأ الروح ، وبها يُحكِمُ القلب إيمانه وصلابته ، فيرضى بما قدّر الله له في الدنيا ، وبالطاعة يصبح الإنسان ذا همّة عالية ، وسعادة غامرة .
قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) : اَلسَّعِيدُ مَنْ أَخْلَصَ اَلطَّاعَةَ. (١)
المُلاحَظ أن بعض العبادات هي بحاجة إلى جهد وحركة في الجسم ، يتفاوت هذا الجهد بحسب قوة الجسم وعافيته وسلامته ، لكن لمن أتقن هذه العبادة لايجد فيها مشقة في الغالب ، وإذا أحس شيئا من ذلك فبتأديتها يأنس ويطمأن ، لسعادته بعذوبتها وحلاوتها .
والطاعة لها كيفيات مختلفة ، فمن الطاعة الصلاة والصوم والحج وباقي الواجبات المفروضة في الإسلام .
وفيها طرق أخرى وأهمها معرفة الخالق عزوجل والتفكر في عظمة خلقه في أرضه وسماواته ، وهذا التفكّر سيؤدي إلى تعمّق التعلّق بعجيب آياته ، مما يُفْضِي إلى الإيمان أكثر فأكثر ، لتكتمل الطاعة في واجباته المفروضة بأبهى صورها وأحسنها طريقة ، وبالصبر واليقين والثبات ، حتى تؤهل صاحبها في أن يكون قدوة لأغلب الناس .
وللعبادة والطاعة فوائد نفعيّة على نفس الإنسان ، منها دنيوية كما تبين قبل قليل ، ومنها التكريم في الآجل.
فقد ورد عن رَسُول اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ : مَنْ صَبَرَ عَلَى اَلطَّاعَةِ كَتَبَ اَللَّهُ لَهُ سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ اَلدَّرَجَةِ إِلَى اَلدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ اَلْأَرْضِ إِلَى اَلْعَرْشِ . (٢)
الصَّبر عن معصيةِ الله :
يُبتلى الإنسانُ بابتلاءات معيّنة ، يتعرض فيها إلى اختبار عملي لمستوى إيمانه وتمسكه بالأوامر الإلهية وترك نواهيه ، فيحتاج فيها إلى التأمل والتفكر والتدّبر في تفاصيلها ، وعند الإبتلاء بها يسلك جانب الحكمة وتذّكر الواجب المناط به ، فيجد نفسه ممتنعة الإنهيار بالصَّبر والتحمّل في دفع المعصية وعدم ارتكابها ، ثابتةً حاملةً الرضا والتسليم إلى الله تعالى .
قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ : مَنْ صَبَرَ عَلَى اَلْمَعْصِيَةِ كَتَبَ اَللَّهُ لَهُ تِسْعَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ اَلدَّرَجَةِ إِلَى اَلدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ اَلْأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى اَلْعَرْشِ . (٣)
قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) : اَلصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ أَهْوَنُ مِنَ اَلصَّبْرِ عَلَى عُقُوبَتِهِ . (٤)
أي أن الصبر على الطاعة أسهل من آثار عقوبة المعصية .
وقَالَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) : اَلصَّبْرُ عَنِ اَلشَّهْوَةِ عِفَّةٌ ، وَعَنِ اَلْغَضَبِ نَجْدَةٌ ، وَعَنِ اَلْمَعْصِيَةِ تَوَرَّعٌ. (٥)
عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ : أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ وَ قَالَ أَنَا رَجُلٌ عَاصٍ وَ لاَ أَصْبِرُ عَنِ اَلْمَعْصِيَةِ فَعِظْنِي بِمَوْعِظَةٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ :
اِفْعَلْ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ ، فَأَوَّلُ ذَلِكَ لاَ تَأْكُلْ رِزْقَ اَللَّهِ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ ، وَاَلثَّانِي اُخْرُجْ مِنْ وَلاَيَةِ اَللَّهِ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ ، وَاَلثَّالِثُ اُطْلُبْ مَوْضِعاً لاَ يَرَاكَ اَللَّهُ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ ، وَاَلرَّابِعُ إِذَا جَاءَ مَلَكُ اَلْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَكَ فَادْفَعْهُ عَنْ نَفْسِكَ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ ، وَاَلْخَامِسُ إِذَا أَدْخَلَكَ مَالِكٌ فِي اَلنَّارِ فَلاَ تَدْخُلْ فِي اَلنَّارِ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ . (٦)
الصَّبر على المصيبة .
من سنن الحياة أن تمر على الإنسان بعض النوائب ، يتألم فيها كثيراً ؛ كفقد الوالدين والإخوان والأبناء وحتى الأقارب والأصدقاء أو أي شخص يرتبط معه بعلاقة خاصة ، وكما يقال إن من أصعب الأوقات عندما يفقد الإنسان عزيزا له ، لأنه يتمتع بفطرة عاطفية ، فهو يتألم ويحزن .
لذا يحتاج من يقف إلى جانبه يسّليه ويهوّن عليه محنته ؛ وليُخففَ عنه أثر الصدمةِ وألم الفِراق .
لكن الإنسانَ المؤمن يأنس بخالقه كثيراً ، فهو يناجيه كأجمل وأفضل وأكمل ما يناجي الحبيب حبيبه ، في هذه الحالة وبسبب هذا الإرتباط الروحي بينه وبين ربه والمناجاة والتوسل والتضرع ؛ تَهُون عليه تلك الصدمة ؛ فيبدلها تجلداً وقوة وصبراً جميلا .
قال تعالى : ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَٱلصَّـٰبِرِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَصَابَهُمۡ وَٱلۡمُقِیمِی ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ . (٧)
يقول الشيخ مكارم الشيرازي في تفسير هذه اللآية :
( والصابرين على ما أصابهم ، فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام ، ولا يرضخون للمصائب مهما عظمت وإزداد بلاؤها ، ويحافظون على إتزانهم ولا يفرون من ساحة الامتحان ، ولا يصابون باليأس والخيبة ، ولا يكفرون بأنعم الله أبدا. وبإيجاز نقول : يستقيمون وينتصرون ). (٨)
وقال تعالى : وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ . (٩).
والبشارة يلمسها الإنسان المؤمن الصابر أثناء المصيبة من تخفيف الألم والحزن إلى مابعدها ، ويوم الجزاء بالحسنى .
قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ : مَنْ صَبَرَ عَلَى اَلْمُصِيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِهَا كَتَبَ اَللَّهُ لَهُ ثَلاَثَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ اَلدَّرَجَةِ إِلَى اَلدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ. (١٠)
وقال تعالى : وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ . (١١)
وقال تعالى : فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا. (١٢)
يقول الشيخ مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآية :
المراد ب (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه والشكوى ، وفي غير هذا الحال لا يكون جميلا. (١٣)
قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ : بُنِيَ اَلْإِسْلاَمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ عَلَى اَلصَّبْرِ وَ اَلْيَقِينِ وَ اَلْجِهَادِ وَ اَلْعَدْلِ. (١٤)
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وضع منزلة الصبر في المرتبة الأولى من الأركان الأربعة التي بني عليها الإسلام !!!
قَالَ أمیرالمؤمنین (علیه السلام) : اَلصَّبْرُ عَلَى اَلْمُصِيبَةِ يُجْزِلُ اَلْمَثُوبَةَ.(١٥)
رُوِيَ عَنِ اَلنَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قُسِمَ اَلْعَقْلُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَجْزَاءٍ فَمَنْ كُنَّ فِيهِ كَمُلَ عَقْلُهُ ، وَ مَنْ لَمْ يَكُنَّ فِيهِ فَلاَ عَقْلَ لَهُ ، وَهِيَ :
حُسْنُ اَلْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَحُسْنُ اَلطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَحُسْنُ اَلصَّبْرِ عَلَى مَا أَمَرَ اَللَّهُ . (١٦)
اللهم وفقنا لحسن عبادتك وطاعتك واجتناب معصيتك ، وألهمنا الصبر على ذلك يا أرحم الراحمين بجاه ساداتنا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
والحمد لله رب العالمين
محمد فرج الله الأسدي
٢٩ ربيع الأول ١٤٤٦ هـ
٣/١٠/٢٠٢٤
الهوامش:
1- غرر الحكم ج۱ ص٦٩.
2- الكافي ج ۲ ص ۹۱.
3- الكافي ج ۲ ص ۹۱.
4- غرر الحكم ج۱ ص۹۲ .
5- عیون الحكم و المواعظ ج ۱،ص ٥٨.
6- بحار الأنوار ج ٧٥ ص١٢٦.
7- الحج ٣٥.
8- تفسير الأمثل – ج ١٠ – الصفحة ٣٤٩.
9- البقرة ١٥٥ .
10- الكافي ج ۲ ص ۹۱.
١١ – النحل ١٢٧.
١٢ – المعارج ٥ .
١٣- تفسير الأمثل ج ١٩ ص ١٦.
١٤- جامع الأخبار ج ۱، ص ۳۷ .
١٥- غرر الحكم ج ۱، ص ٨٥ .
١٦- بحار الأنوار ج ۱، ص ١٠٦.
|