
كتب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى بني هاشم، «بسم الله الرحمن الرحيم، مِنَ الحُسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بَعد، فإنّه مَنْ لَحِقَ بي مِنكم إستُشهِد، وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبلغ الفَتْح، والسّلام»
شكلت واقعة كربلاء بمقاصدها وأهدافها وفلسفتها جزء من هوية التشيع لا يتجزء، ولو حذفت منه لا سامح الله لأصبحت مضامين التشيع جسداً بلا روح ومعنى، حتى وأن كانت مدارات التأسيس المعرفي والعقائدي والفقهي والسياسي اكتملت فيما بعد على يد الأئمة الاطهار من ولد الحسين كالسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي العسكري (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ في سياق هذا المضمار الكلام منصب بالدرجة الأساس حول حركيّة التشيع ومعالمه وتأثيره وتوسعه وامتداده، كل ذلك كان بسبب نهضة الامام الحسين (عليه السلام) وبركاتها وأشعتها الروحية والمعنوية والأخلاقية التي اظلت العالمين والمجتمع البشري، لا يقال نقضاً أن هناك حركات ثورية ومذاهب منحرفة أيضاً باقية فما الفرق في ذلك؟!
لا قياس بين الاثنين بفارق أن نهضة الحسين عليه السلام، تميزت بخصال وفوارق جوهرية من حيث الأصول الحقة والأهداف والآثار والثمرات الكبرى المترتبة عليها- وبرؤية عقدية أكثر أن مشروعية نهضة الحسين ( عليه السلام) مثلت خارطة الإسلام وقلبه وروحه النابض، وهي جزء من مسيرة الاسلام الخالدة ومشروعه المتحرك فهي منه وإليه وفيه، وبهذا اللحاظ يمكن فهم دقة الحديث النبوي: (حسينٌ منّي وأنا من حُسين)؛ فالواضح أن كلمته الشريفة لم تكن كلمة جزاف، ولا فاقدة المحتوى والمضمون بل حاشا صاحبها (صلوات الله عليه وآله) من كل ألوان الخدش والنقص وخطل المقصد، بل كلمة النبي قطعاً لها دلالاتها وابعادها التي قد لا تحيط بها العقول، لا تدركها ولا تصل لشاطىء ساحتها عشر معشار، لكن يمكن تقريبها بالقدر المفهوم والمتيقن أن الحسين عليه السلام قبس مشع من نور رسول الله بل نور الحسين دليل هادي ومعرف بنور رسول الله صلى الله عليه وآله، من سلك دربه وصل، ومن تخلف عنه هلك وغوى، فلولا الحسين لضاعت جهود النبوة سدى، بل لضاعت كل الرسالات والشرائع السماوية السابقة، إذ أن عصارتها وذروة كمالها اُختزل بشريعة الاسلام المحمدي الذي هو خاتم الشرائع والرسالات المنزلة، فذهاب النبوة يعني ذهاب الدين واختلال كل الأركان والموازين الوحيانية، وفاجعة كربلاء حفظت عمود الاسلام كله .
وأين هذا كله من المذاهب الباطلة والمنحولة التي ابطلتها من الأساس أدلة العقل والنقل، وعمومات الاسلام وقواعده الحقة بسلسلة حجج رتبية سابقة ومعطيات متصدرة سلفاً، فواقعة كربلاء من حيث الثمرات والأهداف هي شريان متأصل وممتد في جسد الإسلام ومتشعب في قوامه ومنصب في صالحه الحق، وبهذا المعنى تعتبر النهضة الحسينية محور أساسي وركن ركين لبقاء التشيع والإسلام معاً؛ لذلك يُحكى أن بعض مراجع الدين الكبار كان لما يمر على بعض خدمة المواكب الحسينية تدمع عينه ويشير إليهم، ويقول "بهولاء حفظ الله الدين"؛ إشارة لهذا المعنى العميق والحساس، وهو بلا ريب جدير بالفائدة والتأمل .
وأما دلالة الفتح في ضوء كلمة الامام لا تخرج
عن ثلاث مضامين :
أولاً: الفتح العسكري
بمعنى أن الامام قاد نشاطاً مسلحاً لإسقاط الحكم الاُموي، وهذا النشاط بطبيعته الثورية ذاهب لخيار القتال والانتصار العسكري الفاتح، والأجواء العامة السائدة كانت مساعدة لهذا المعنى، من خلال المتابعة أن بعض وجهاء الشيعة والمسلمين تشرفوا بلقاء الإمام ودار بينهما كلام وحديث، كما حصل لقاء ببعض القيادات والشخصيات التاريخية مثل زهير بن القين البجلي، وعبيد الله بن الحر الجعفي وغيره، وأراد منهم الامام الالتحاق والذهاب معه، وبعضهم وفق للإستجابة، ومضى شهيداً سعيداً مثل زهير بن القين، والبعض الآخر لم يستجب، ولم يوفق لنصرة ابن بنت رسول الله مثل ابن الحر الجعفي، كما أن إرسال ثقته وسفيره مسلم بن عقيل للكوفة، وما ذلك إلا للسيطرة والجهوزية ضد المعسكر الاُموي والاطاحة به بغية تحقيق الفتح والنصر على المبطلين، وهذا أحد الأوجه لدلالة الفتح الوارد في رسالة الامام لمحمد بن الحنفية، وبني هاشم ممن بقي في المدينة.
لكن مسألة الفتح العسكري غير تام لأسباب
الأول: أن مسألة الفتح العسكري يحتم تحضير قوة عسكرية كافية من خلال تحشيد وتجميع المقاتلين للأنضمام في صفوفها، وكذلك يتضمن توفير الأسلحة والمعدات والتكتيك العسكري الكافي للقضاء على حكومة الجور، وجميع الفتوحات باستثناء فتح مكة المكرمة- بناءً على القول أنّ الفتوحات كانت تحت إشراف المعصوم وإمضاء الأئمة لها كما هو مختار بعض الأعلام، وبصرف النظر سواء فسرت الفتوحات بالايجاب أو السلب، كانت تعني عبارة عن اعداد قوى عسكرية منظمة ومجهزة لمناورات القتال، في حين الامام لم يخطط لذلك، ولم يعطي أمراً بتشكيل قوة لمواجهة الطغيان الأموي ، وإنما نتيجة للظروف والملابسات المحيطة طرح الامام خياراً بين اللحاق والفوز بمقام الشهادة العظيم، وبين يوم الفتح والنصر والهيمنة، ولو كان الأمر بحدود الخطة العسكريّة لبدأ من داخل المدينة في مقاتلة اعدائه ومناهضتهم قبل غيرها، ولدعا لتجميع الجيوش ودفع الناس لمقاتلتهم والتخلص منهم ولو سراً، وبأي حال لا يفهم أن الامام يبقى مكتوف اليد إزاء الرجس الأموي كيف وهو ابن الجهاد والمنازلات الكبرى، لكن الأمر كان في رسالته وأهدافه أكبر من ذلك كما يتضح في محله .
الثاني: المضايقات والمعاناة التي مر بها الامام في المدينة المنورة من قبل الأجهزة الأمنية الأُموية، شاهد على منع هذا التصور، إذ قامت هذه الأجهزة اللعينة الاُموية بتشديد رصد تحركات ومراقبة الامام بكثافة، ثم كتابة التقارير عنه وإرسالها إلى الشام، وذلك فور حادثة هلاك معاوية ومجيء المتهتك يزيد الذي أمر والي المدينة بأخذ البيعة من أهلها، وخصوصاً من الإمام الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، فقد روى البلاذري في الأنساب :« وكتب إليه في صحيفة، كأنها أُذن فأرة: أما بعد، فُخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير أخذاً شديداً، ليس فيه رخصة ولا هوادة حتى يبايعوا، والسلام» بل بعض الأُمويين المتشددين الخبثاء مثل مروان بن الحكم اقترح على الوليد بن عتبة أن يختار طريق الاغتيال والتصفية بدلاً من طريق المفاوضات السلمي مع الامام، قال له: «أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر، فتدعوهم إلى البيعة، فإن بايعوا قبلت ذلك منهم، وإن أبوه قدّمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بوفاة معاوية»[1]، وفي بعض النصوص التاريخية أن محمد بن الحنفية طلب من الامام الحسين عدم التوجه والذهاب للكوفة، فأجابه الإمام سلام الله عليه، ومن ضمن الجواب أنه قال:« والله ـ يا أخي ـ لو كنت في جِحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني». وفي نص آخر، قال له : «يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم؛ فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت»[2] وهذه النصوص والمواقف التاريخية المحتدمة كاشفة بوضوح عن حجم المعاناة والمظلومية التي تعرض لها أهل بيت النبوة في حياتهم، وهم يتنقلون من مكان إلى آخر خشية الظلم والاغتيال الغادر، والسبب لأنهم رفضوا الباطل وأهله، وأحيوا نهج الشرع ومبدأه، وانكروا شنائع الظلم بجميع مظاهره وأشكاله، بأقوالهم وأفعالهم وسلوكهم وسيرهم العطرة، بيد أن الأمويين لم يكتفوا معهم بالتصفية الجسدية من قتل وسجن وتهجير ونحو ذلك، بل ذهبوا لطريق الاغتيال المعنوي حتى بعد موتهم وشهاداتهم من خلال نشر روايات الكذب ونصب العداوة والكراهية بحقهم وحق شيعتهم ومحبيهم، لأنهم بنظر دعاة آل أمية خرجوا على إمام زمانهم المستحل للفجور وشرب الخمور واللاعب بالقردة والكلاب، وهذا فقيههم ابن العربي المالكي يدافع عن يزيد بقوة، ويصرّح" أن الحسين قتل بسيف جده[3]"، وثم جعلوا يوم عاشوراء يوم ابتهاج وافراح وهو يوم مصائب آل بيت النبي، وكأن الله تعالى لم يقل في كتابه العزيز: ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)[4] ومودتهم من أعظم فرائض الاسلام وأجلها، وكأن النبي صلوات الله عليه وآله لم يقل: ( أوصيكم بعترتي خيرا) و( أذكِّرَكُمُ الله في أهل بيتي، أذكِّرَكُمُ الله في أهل بيتي، أذكِّرَكُمُ الله في أهل بيتي)[5] والحال قد تواتر عنه بشكل لا مجال للريب والشك، أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال :« إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا:كتاب الله وعِترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، والحديث وارد بصيغ وألفاظ مختلفة، لكن المتن والمضمون واحد ثابت بنسق موزون، وهو أن مرجعية الأمة بعد النبي متمثلة بثقل القرآن والعترة الطاهرة، هما حبل النجاة والعصمة من الضلال لمن تمسك بهما، واهتدى بنورهما وسار على نهجما النير، بهذا القدر نكتفي ولا حول ولاقوة إلا بالله .
الثالث: وجود الروايات الواردة عن الامام الحسين عليه السلام نفسه سواء كان في مكة أو المدينة التي تعرض فيها الإمام لتهديدات ومضايقات ومحاولات اغتيال مر بعضها، كل ذلك مانع لهذه الدعوى، بل ومكذّب لها أصلاً، على سبيل المثال لما ورد خروجه من مكة، خطب فيها بتلك الخطبة المعروفة، ونفسه الزكية كانت تتأوه حنيناً وشوقاً إلى لقاء أسلافه الأطهار، بل وتحدث فيها- بأبي وأمي- عن فاجعة مصرعه في أرض كربلاء، فلم يشر لهذا النشاط المسلّح الفاتح لا من قريب ولا من بعيد، قال عليه السلام :«خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، و خُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء، فيملأنّ مني أكراشاً جوفاً و أجربةً سغباً لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ..»[6]، وقد ورد عنه أيضاً في أحد الأجوبة لعبد الله بن جعفر: « أما بعد، فإنّ كتابك ورد عليّ، فقرأتهُ و فهمت ما فيه، اعلم أنّيَّ رأيتُ جدي رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) في منامي، فأخبرني بأمرٍ أنا ماضٍ لهُ، كان لي الأمر أو عليّ، فو الله يابن عم لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتّى يقتلوني، ووالله ليعتدنّ علي،ّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، و السلام»[7]، وهكذا كانت جميع خطبه ورسائله (سلام الله عليه)؛ وفي مواطن عديدة قبل الوصول لكربلاء في الثاني من محرم لسنة "61 للهجرة، فلم تكن مسألة الفتح العسكري مطروحه في كلماته وخطبه وإرشاداته، وحتى الذين مر بهم الامام وعاينوه، وسمعوا حديثه الشريف، ونصحهم بخصوص الانضمام لمعسكره، كان لغايات واعتبارات أخروية خالصة في مناصرة جبهة الحق المتمثل بوجوده الأكمل، فلم تحوي كلماته الحقة، مفردة دنيوية، ولا مصلحة سياسية كما هو المتعارف من سياسات العصر، كان ولا يزال سيد الشهداء أكبر من كل الدنيا وسياساتها، بل هو ملهم الأحرار والعالم معنى الكرامة والعزة والنبل، والمُضي قدماً في خطى الشرع المجيد.
ثانياً- الفتح السياسي : المقصود به أن حركة ونهضة الإمام كانت من أجل إقامة النظام السياسي العادل، ولا يكون إلا من خلال وجود الأرضية المناسبة لإقامة الحكم فيها، وقد تهيأت الأرضية من خلال المعطيات الظاهرة عن طريق الكتب المرسلة والجمهور المطالب للإمام بضرورة القدوم، لإقامة الحكومة الاسلامية، وقد وصلت اليه الآف الرسائل والكتب والجموع المُلحة، وبحسب هذه الرؤية، فالامام ذهب لإقامة نظام حكومي عادل وشفاف، وهذا هو عين الفتح، ولما لم يتحقق كان مآل ذلك لموقف الشهادة الفاجع .
أقول: لا شك ولا ريب أن الغرض الأسمى والأجل لمسيرة الانبياء والأئمة في هذه الأرض اقامة موازين العدل فيها، وصناعة الانسان المؤمن الكامل وفق قانون شريعة السماء، وقد تكون من مقدمات النظام العادل إقامة الحكومة والخلافة السياسية، بل لا يتحقق العدل بدونها، والواضح أن الانبياء والأوصياء هم الأحق والأجدر بها بمقتضى العقل والنقل، لكن مسألة الفتح شيء، وتأسيس الحكومة شيء آخر- وسُنرحّل خصوص مسألة الحكومة الاسلامية التي ذهب إليها رأي الشيخ صالحي نجف آبادي تباعاً لبعض الأعلام القدامى لبحث مستقل ومفصل - لكن تفسير دلالة الحديث بالفتح بالسياسي الحاكم يحتاج مؤونة زائدة في الأدلة والوثائق التاريخية المطلوبة، وهي مفقودة في المقام لا تساعد عليها الشواهد ولا قرائن الحديث ، فالإمام صدّر حديثه بالشهادة، وجعل ميزان التخلّف عدم بلوغ الفتح المنشود، لم يقل -مثلا-ً من لحق بي منكم استفاد وسينتفع، وبالتالي له الجزاء والمكافأة، والتخلف عني يعني خسران مشروعي السياسي مثلاً، نظير الحركات السياسية المعاصرة التي تُمنّي أنصارها بالمواقع والمحاصصة المادية في حال كسب الأصوات والفوز، ثم أن التأسيس الحكومي، وأن كان مطلب مهم، لكن لا يلازم معه وجود الفتح والنصر الرسالي المنسجم مع تطلعات الامام صلوات الله عليه، فليس كل حكومة قد نجحت وانتصرت في مشاريعها وأهدافها، فكم من حكومة اُحبطت خططها وأهدافها، وخيبت آمال شعبها، صحيح أن الإمام لو مسك زمام السلطة لتغيرت الأمور لصالح الاسلام، لكن ليس ذلك الفتح الذي عناه في رسالته، فلا بد أن يكون الفتح الحسيني أكبر من ذلك .
ثالثاً- الفتح الاصطفائي: يدور في ثلاث احتمالات، الاحتمال الأول: الفتح الأخروي بمعنى أراد الامام سلام الله عليه أن يقول لبني هاشم، وممن بقي في المدينة كل من التحق بي أدرك درجات القرب، وكان في منزلة المقربين المصطفين في عالم الآخرة، ولكن يمكن القول أن هذا حاصل في نفس كلمة الشهادة والاستشهاد، فالقرب والدرجات العالية التي سيصلون إليها في نشأة الأخرة، المفروض تحقق ذلك في نفس موطن الشهادة، فلا حاجة للإمام أن يقول ومن لم يلتحق بي لم يدرك الفتح، فالإمام سيد البلغاء والحكمة، فالفتح الوارد في الحديث وصف للشهادة، ومقام الشهادة بنفسها طريق للقرب والمنزلة العالية، ومقتضى الكلام يقتضي التغاير في المفهومين، وعليه فلا بد من تفسير آخر لمفردة الفتح، وإلا إذا كانت الشهادة مع سيد شباب أهل الجنة، فالاحتمال المطروح لا معنى له، لا أدري فأي منزلة؟وأي درجة، وأي قرب يكون؟! أي الشهادة مع سيد سادات أهل الجنة، كيف لا يكونون كذلك في القرب والدرجات الرفيعة، عندئذٍ لا يصح الفرض المتقدم، فهذا مما يجعل الاحتمال بعيداً غير منسجم مع منطق الحديث .
الاحتمال الثاني الفتح بمعنى مقام الوصال والكمالات الروحية نظير ما تذهب إليه المدرسة العرفانية أن للعبد كمالات وفتوحات إلهية في سيره وسلوكه إلى الله، وهذه الفتوحات تارة على مستوى النفس بأن ينتصر العبد على نفسه في مقاومة أهوائها وشهواتها، وتارة أخرى على مستوى الوصال والفناء والكمالات الروحية التي يفتح بها للعبد نتيجة صبره ومجاهداته ورضاه ومحبته في سبيل الحق، وهذا المعنى لا يستقيم مع مقام الامام وأهل بيته وأنصاره المخلصين صلوات الله عليهم أجمعين، فأهل البيت لا يقاس بهم أحد فهم منبع الكمالات الروحية، ومنبع الجمال والكمال والخير، لذلك الامام الحسين لما كان في المدينة خاطب الوليد بهذه الكلمات ذات المضامين العميقة :«إنّا أهلَ بيتُ النّبوة، ومعـدنَ الرسـالة، ومختلف الملائكة، وبنـا فتـح الله، وبنا ختم الله ..»
الاحتمال الثالث: الفتح بما هو عليه من الكمال والقرب والاصطفاء والدرجات الرفيعة المتضمنة لبشارة النصر والفتح الإلهي في الدين، وهو على قسمين الفتح القريب تحقق ذلك من خلال حفظ الرسالة وانتصار خط السماء ببركة دمه الزاكي المضحي، وكذلك من خلال إيقاظ الأمة التي كانت واحدة من ثمراتها تتابع الثورات التي اسقطت القناع المزيف، ونبهت للزوم متابعة الحق، كما كشفت الظلم الطاغوتي المستحكم في حياة الناس، والتي نتج منها ثورة المختار الثقفي، وثورة التوابين وثورة زيد بن علي وغيرها، والقسم الآخر الفتح المرتقب المعروف باليوم الموعود الذي يتحقق على يد الامام الثاني عشر من ولد الحسين عليه السلام، الامام المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، الذي تظافرت وتواترت النصوص بحقه، وحق ظهوره المبارك، فهو كالشمس في رائعة النهار .ثمة علاقة وطيدة بين نهضة الامام الحسين، وبين قضية الامام المهدي صلوات الله عليهما، كلاهما يشتركان في وجهة معاني جليلة ذات هدف سماوي موحد، هدف إرساء العدالة في الأرض وإحياء الدين القويم، لكن الفرق أن الحسين من بدأ الإحياء الأقدس والمهدي خاتمته بأوسع النطاق، توج مصير الاحياء الحسيني بالشهادة وفاجعة الاستشهاد المأساوي، وسيتكلل معالي الإحياء المهدوي بالنصر والهيمنة وبشائر الفتح المبين، لولا الفتح الحسيني لم يكن نصراً مهدوي مرتقب، ولولا العناية المهدوية لم تكن كربلاء حاضرة، تنتهي قضية المهدي حين تنتهي قضية كربلاء، وتبدأ حين تبدأ فاجعة كربلاء، صور تراجيدية متشابكة ترسم حدود الدين بعناية فائقة، بريشة المعصوم خليفة الله في العالمين .
قضية الامام المهدي لا تقل أهمية عن نهضة الامام الحسين في حفظ الدين وتبليغه، بل القضية المهدوية امتداد للنهضة الحسينية في خطوات الأهداف والمنطلقات والأصول العامة، كان للعاطفة الدور الكبير في احتفاظ النهضة الحسينة بحلتها الوجدانية، كما احتفظت بمكسبها الشعبي المتوهج، وإذا أردنا أن النجاح في القضيّة المهدوية بمستوى وموازاة النهضة الحسينية حيث احتفظت بثقلها الشعبي الوجداني، فلابد من إحياء الجانب العاطفي في القضية المهدوية من حيث بيان مظلوميته ومظلومية آبائه الظاهرين وعلاقة ذلك بغيبته وغربته، وبيان رحمته ورأفته، وعلاقة ذلك بشيعته، وكذلك التركيز على الملفات الكبرى التي سينهض بها صلوات الله عليه، وإقامة الأدعية والمحاضرات والمؤتمرات التي تحي ذكره الشريف في نفوس الناس، فضلاً عن نشر تعاليم الدين الحنيف. الحقيقة أننا مسؤؤلون جميعاً في إحياء قضيته . نقل أحد السادة العلماء رحمه الله أنّه كان في يوم من الأيام أن مجموعة من العلماء اجتمعوا لبحثِ ما يُفترَض أن يتخذوه من موقف إزاء المخاطر التي كان الإسلام والمسلمون يتعرضون لها، وذلك قبل حوالي خمسين عاماً في العراق، فقال أحدهم إن واجبنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف بوجه القوانين الباطلة، ولكن أحد الحاضرين اعترض عليه بقوله: إن ذلك قد يعرّضنا للخطر، وإن من الممكن أن تقوم الحكومة باعتقالنا وإيذائنا.
فردّ العالم الأول بما مضمونه: إن الحكومات تتكفّل أمور جنودها فترة طويلة، وذلك ليدافعوا عنها في ساعات الخطر، وليس من الصحيح أن يفرّ فرد من أفراد الجيش في ساعات الخطر، فإن فراره هذا يعدّ خيانة، ونحن قد جلسنا دهراً على مائدة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؛ مائدة جوده النابعة من وجوده الكريم المبارك، فكيف لا ندافع عنه وعن دين جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ألا يعتبر التقصير في ذلك خيانة، والحال أننا قد أُعددنا لمثل هذا اليوم؟!
أما التفسير الثوري الآيدلوجي لنهضة الامام الحسين عليه السلام، وأن كان حسن وصائب من باب أنها ثورة ضد الظلم والطغيان والمنكر، وبالتالي صالح تطبيقها على كل حاكم سياسي فاسد وظالم عبر امتداد الزمن، لكن هذا المعنى الذي راج كثيراً في أفكار الدكتور علي الشريعتي أكثر من غيره بحدود مطلع السبعينيات من القرن الماضي، هذا الرأي وأن ساهم في إعطاء طابع انتفاضي تحرري للنهضة الحسينية، لكن حصر النهضة بهذا التفسير مصادرة للمضامين والمعاني الأخرى كالفكرية والجمالية والأخلاقية والسياسية التي يمكن استفادتها من واقعة كربلاء ومعالجتها لمشاكل حياتية ومجتمعية عديدة، فالامام الحسين إمام مفترض الطاعة ومسدد بعصمة إلهية في كل سكناته وتحركاته، ومن غير الصحيح التعامل مع نهضة الامام على طريقة المعارضة الشعبويّة في التعاطي مع ملفات الدين الكبرى والأساسية، التفسير المغلق الآيدلوجي إجفاف عقائدي لروح النهضة الحسينية، فالإمام الحسين صلوات الله عليه فاتح للقلوب والعقول، فاتح للعقيدة الحقة، وفاتح للفطرة السليمة التي تعرف الله، اليوم زيارة الأربعين نموذج جمالي برهاني شاهد على عظمة الامام الحسين، وشاهد على عظمة ثورته، فهي ثورة السماء بأوسع الأبواب والدلالات، وثورة الحق الذي لا يخفت صوته في مواجهة الباطل وجنوده، وبهذا بقيت كربلاء مشعلاً مضيئاً يضفي للحياة قدسية الجمال والجلال، يضفي للعالم أنشودة السلام والحب والأمل رغم الجروح والمآسي المعتمة، بقيت كربلاء صوتاً عالياً يهتف في ضمائر الأحرار، يحاكي شعورهم ودموعهم وانكساراتهم بمواصلة الطريق، ولا يتوقفوا، أن يواصلوا طريق الصمود ولا يترددوا، هذا هو الحسين وحده أمام جيوش الظلام لم ينثني، لم يتردد، لم يتراجع، سلامٌ عليه يوم ولد، ويوم استشهد ظامئاً مذبوحا، ويوم يُبعث حيا في قوافل من الشهداء يقودهم ليوم الحق الذي لا مرية فيه شاهداً وشفيعا
________________________
[1]- البلاذري، أنساب الأشراف: ج5، ص300
[2]- اللهوف في قتلى الطفوف :39
[3]- العواصم من القواصم :214
[4]- سورة الشورى آية 23
[5]- صحيح مسلم : 4/1873 ، برقم 2408
[6]- اللهوف في قتلى الطفوف :126
[7]- تاريخ الطبري ج3-ص295
|