لا يعدم طالِبُ العلم في أثناء تحصيله العلميِّ، ومباحثته مع واحدٍ من زملائه في كتابٍ درسيٍّ ما أن يرى هنا وهناك عثرةً لعالِمٍ في استدلالٍ على حكم، وكبوةً له في البرهنة على قضيَّة.
ولقد كنتُ أباحث قبل نحو عشرين سنةً شيخاً محصِّلاً من آل الكرباسي في حاشية ملا عبد الله على المنطق، وألفيَّة ابن النَّاظم في جامع كاشف الغطاء - قُدِّس سره - ضُحى
وأباحث طالباً آخر من أهل الكوفة في أصول الشيخ المظفر، ويسيرٍ من بداية الحكمة للسيد الطباطبائي.
وذات مرَّة جاءني طالبٌ "ليس في العين" فقال اقرأ هذه العبارة - وكانت في قطر النَّدى - فلمَّا قرأتُها لم أرَ فيها شيئاً، فقال لي : وهو يقلّب صفحةً الكتاب :"قوله هنا -وأشار بأصبعه على مكانٍ ما من الصفحة - يُنافي قوله في الصفحة الثانية"!!
وكان الإشكال على ابن هشام في القطر تلك الأيام يشابه إيجاد ثغرةٍ برامجيَّةٍ في نظام الوندوز.
زبدة الكلام: يستطيع مثقَّفٍ على درجةٍ عاليةٍ من الاطّلاع فضلا عن طالب العلم - ولو كان ليس في العين - أن يجد ثغراتٍ لعالمٍ ما في كتابٍ ما.
ولقد اختلفتُ مع صاحبٍ لي في فهم مسألةٍ فقهيَّة، وصار البناءُ على مراجعة بعض الكتب والشروحات لتلك المسألة فوجدتُ بعض الشروح لمرجعٍ من مراجع الطائفة ممن توفي عن سنواتٍ قليلةٍ على كتاب استاذه وكان فرداً من العلماء وفحلاً من فحول العلم يذكر فيه أنَّ استاذه في هذه المسألة ناقض نفسه فيما أفتى به في المسألة التي مرَّت قبلها.
بإمكان أيِّ شخصٍ يفوز بهذا الاعتراف أن يشنّع على ذلك الفقيه العيلم على وسائل التواصل الاجتماعيّ وكأنَّما قام بفتحٍ علميٍّ ، ولكن ذلك يهدم أساس ثقة العوام بالعلماء، ويجرُّون اشتباهه هذا إلى جميع ما أفتى به ذلك الفقيه رضوان الله عليه، مع أنَّه كان دقيقاً - بحسب قول الفقهاء - في استنباط الحكم الشرعيّ وإنما العصمة لأهلها.
الخلاصة: على كلِّ صاحب قلمٍ أن يكتب فيما يقويّ العقيدة الدينيَّة في نفوس العامَّة، ويثبتها في قلوب العوام، وربما تسلب كلمةٌ ما يفوه بها خطيبُ منبرٍٍ في محضرٍٍ من النَّاس، أو يكتبها صاحب قلمٍ على حائط الفيس توفيق المتكلّم وحظَّ الكاتب فتعمي بصيرته حتى يرجع كافراً بعد إيمان، ويؤوب أعمى بعد بصيرة.
نعم، لا بأس بطرح الاشكالات - لغرض التعلم لا التعنّت، الاستفهام لا الاستشكال في المساحة التخصصية بين أهل العلم من الفضلاء والاساتذة للفائدة والتّعلم.
وأذكر لكم هذه القصة الطريفة، كان عندي بعض كتب الالحاد والحداثة وأهل الخلاف وغيرها، مما فاض عن الحاجة، أو اضطرّني ضيق المكان إلى إهدائها، فقلتُ أن خير من أعرضها عليه طلبة العلم، وكنتُ موجوداً في مجموعةٍ علميةٍ على الواتساب فيها أساتذةٌ وفضلاءُ وطلبةُ علم، قلتُ أعرضها عليهم فيها والفوز بالكتاب لمن له الأسبقيَّة في الحجز.
ثمَّ بعد ذلك عنَّ لي خاطرٌ وهو أنَّ بعض طلبة العلم - رغم أنَّه طالب علم - ولكنَّه قد لا يكون مطّلعاً على الشبهات الحديثة، ولا قادراً على ردّها - ولقد رأينا استاذاً من المعاصرين معروفاً تأثَّر بالكثير من النظريات الحديثة المخالفة للعقيدة الحقَّة - مع أنَّه مدرس لكتاب المكاسب والحلقات الثلاث ويباحث الخارج بظنّه - فكيف بمن هو يدرس هذه الكتب أو ما هو دونها؟
فسألتُ بعض فضلاء النَّجف - حفظه الله - على الواتساب وكان رقمه عندي وشرحتُ له الأمر فلم يُشجّع على ذلك، وخشيَ ما خشيتُ منه.
فإذا كان الطالب الذي في دور النضج العلميّ يُخشى عليه من طرح هكذا شبهاتٍ واشكالاتٍ في العقيدة والرجال والفقه والحديث، فكيف الحال بحالِ العوام مثلي وأمثالي من زمرة القراء؟
اللهَ اللهَ في عقائد العوام، لا تكن أول من يهدمها وأنت تأكل من سهم الإمام.
وبعضُ النَّاس مؤمنٌ متديّن إن نبَّهته حذف ما كتب، وهذا يكشف عن إيمانه وتديّنه، وبعضهم لا يحذف بحجة البحث العلمي وهذا يكشف عن مرضٍ في قلبه وحبّ الظهور.
|