اُدهش العالم بالكرم الحسيني المتمثل بكرم العراقيين لزائري الاربعينية ، بل ويزداد السخاء في كل عام مما يرونه ماثلا امامهم سموا وشرفا وعطاء ، مالم يكن مألوفا من ذي قبل في اي بقعة من أرض البسيطة ، او اي لحظة مرت من الزمن ، رسخ في عالقة الاذهان ان البخل والشح والتقتير لم يطأ أرض العراق ولم يختلط بماء نهريه . هنالك ثلاثة محاور أو مسارات مناسباتها مختلفة ولكل واحد منها خصائصه وصفاته الذاتية وهي تمثل المنابع الرئيسية لديمومة الكرم والبذل العراقي الحسيني بأريحية شاملة ومنحة معطاء دون مَنٍ او امتهان بل على العكس تماما تجد أن الخادم الحسيني يتذلل بخنوع وخضوع لأجل ان يتفضل عليه الزائر الكريم بتقبل ما يجود به خدمة الامام الحسين عليه السلام على امتداد الطرق العديدة من البيوتات والمواكب وغيرها . والذي اخذ الطابع الرسمي الطاغي على الحال بالاوساط العامة والخاصة ليضفي شعاعه الممتد من تلك المنابع الى حدود الدنيا من الكرم في الاوساط المجتمعية بعدما تألق في التفاعل القوي والملموس في العليا .
الاول : القرآن الكريم والسنة الشريفة . بالبدء لنفهم كيفية ما وجد في الوجود لمن فضله يعود ، كان من المفترض ان تكون ثقافة الشعوب الإسلامية ثقافة قرإنية قبل كل شيء ، والهوية اسلامية ، والغالب تمسكنا بالثانية ، وهجرنا الاولى ، ومن هنا نرى ان هجمات اعداء الدين والانسانية كثيرا ما يركزون على تغيير هويتنا وتبديلها . بمعنى انها ثقافة عرفية أو لنقل اجتماعية وبتوضيح أكثر ، اننا تربينا على ان التجارة شطارة ، وان ابن التاجر يبقى غنيا ، وان المال والغنى بسبب الشهادة أو العقل أو الحسب والنسب ، وكأنه شعار أخاذ بالالباب : فكل ما عندنا من اتعابنا واعمالنا . وهناك من يوهمك ان لم يك مؤمنا بالجبر ان ليس لي الحيلة بالرزق لأن الله تعالى تفضل به عليّ وحرم غيري و تجرأ سارقهم وفاسدهم فيرمي به نحو الباري عز وجل ليكتب على بعضها هذا من فضل ربي ، نعم ، وكي لا يفسر على غير مرادي لما ذكرناه مؤيد لكلامهم ولكنه لم يصب الحقيقة ، واما الاكثر تدينا يقولون انه من الله ومن سهر الليالي ، او الغربة والتعب مثلا وغير ذلك مما مرّ ذكره ، والحقيقة لا عند اولهم ولا عند متدينهم اكتملت الصورة انما هي من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه واله بلا فصل ولا مفرّق ، اي من الله عز وجل ومن اهل البيت عليهم السلام ودليلنا : ذكروا أن أبا حنيفة أكل طعاما مع الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام ، فلما رفع الصادق عليه السلام يده من أكله قال : الحمد لله رب العالمين ، اللهم هذا منك ومن رسولك صلى الله عليه واله وسلم . فقال أبو حنيفة : يا أبا عبد الله أجعلت مع الله شريكا ؟ فقال له : ويلك فإنَّ الله تعالى يقول في كتابه :{ وَمَا نَقَمُوۤا۟ إِلَّاۤ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِ } [سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٧٤] . ويقول في موضع آخر :{ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُوا۟ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَیُؤۡتِینَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥۤ } [سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٥٩] . فقال أبو حنيفة : والله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلاَّ في هذا الوقت . فقال أبو عبد الله عليه السلام : بلى قد قرأتهما وسمعتهما ، ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك { أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَاۤ } [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: ٢٤] ، وقال : { كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ } [سُورَةُ المُطَفِّفِينَ: ١٤] . / كنز الفوائد/ ٢/ ٣٦٩- ٣٧٠/ .
الثاني : سنة الاولين من الانبياء والصالحين . كان بإمكان ابراهيم عليه السلام ان يشوي او يطبخ لاضيافه طيرا مثلا وكفى ، ولكنه حينما رأى الصلاح والكرامة فيهم وحسن سمتهم قدم لهم عجلا سمينا{ فَرَاغَ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦ فَجَاۤءَ بِعِجۡلࣲ سَمِینࣲ } [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: ٢٦] . وبطريقة كانت تُعمل للخيار من الاضياف والشرفاء من اعزة القوم وهي شوي العجل في الارض على الحجارة او الصخر المحمي وكان شيا ناضجا ، وبالطريقة المسماة اليوم ب المندي ، ولم يُذم على فعله . { وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡ رُسُلُنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوا۟ سَلَـٰمࣰاۖ قَالَ سَلَـٰمࣱۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاۤءَ بِعِجۡلٍ حَنِیذࣲ } [سُورَةُ هُودٍ: ٦٩] .
واما النبي العظيم لوط عليه السلام { قَالَ یَـٰقَوۡمِ هَـٰۤؤُلَاۤءِ بَنَاتِی هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِی ضَیۡفِیۤۖ أَلَیۡسَ مِنكُمۡ رَجُلࣱ رَّشِیدࣱ } [سُورَةُ هُودٍ: ٧٨] . انها تضحية كبيرة جدا : لدفع الضرر او المساس بضيفه ففي ذلك الخزي والعار ، ومن يعتدي على الضيوف ماهو بحكيم بل جاهل احمق غوي وضال . فجاء الرسم البياني ان الضيف له من المنزلة على قدر من نزلوا في حياضه .{ قَالَ إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ ضَیۡفِی فَلَا تَفۡضَحُونِ } [سُورَةُ الحِجۡرِ: ٦٨] . نتعلم من ذلك ان كرامة الزائرين من كرامة المزور ، ولذا يسمى الحجاج والزوار لبيت الله الحرام بضيوف الرحمن .
٣ . القيم والمبادئ والتقاليد والأعراف العريقة و الاصيلة للمجتمع ، لنأخذ حاتم الطائي رغم الجاهلية ولكنه اصبح مثالا واضحا للجود والضيافة والترحيب بالزائرين ومن اشهر رجالات العرب عبر الزمن بالكرم والشهامة ، وهو القائل لزوجته ماوية بنت حجر الغسانية :
أَمَاوِيّ ! إنَّ المالَ غَـادٍ ورائِـحٌ
وَيَبْقَى مِنَ المالِ الأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ
أَمَاوِيّ ! إنِّي لا أَقُـولُ لِسَائِـلٍ
إذِا جَاءَ يوماً حَلَّ في مالِنَـا نَـزْرُ
أَمَـاوِيّ ! إمَّـا مَانِـعٌ فَمُبَيَّـنٌ
وإمَّـا عَطَاءٌ لا يُنَهْنِهُـهُ الزَّجْـرُ
ولما امتنع هانئ الشيباني من تسليم أموال وأسلحة واهل النعمان بن المنذر ملك الحيرة التي أودعها النعمان عنده ورفض الشيباني تسليمها إلى كسرى ، وقد واعد بنو عمومتهم القادمين من اليمن النبي صلى الله عليه واله اذا تم النصر لهم ليؤمنن برسالته . قال اليعقوبي : وحاربت ربيعة كسرى وكانت وقعتهم بذي قار فقالوا : عليكم بشعار التهامي ، فنادوا : يا محمد ، يا محمد ، فهزموا جيوش كسرى وقتلوهم فقال رسول الله : اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا ./ تاريخ اليعقوبي / ٢ / ٣١ / . اذن الثقافة القرآنية الاصيلة بتنوير وتعليم اهل بيت العصمة عليهم أفضل الصلاة والسلام ، وما الفناه وتعلمناه من الاهلين ولم نجد مذمة لها من الدين فأخذناها صاغرا عن كابر فوجدنا المديح والثناء ، وما تسابق الصغار والنساء للبذل والعطاء قبل الكبار من الرجال الا صياغة اجيال تربت على الكرم وصيانة العهد والعزة والشموخ في نفوس ابية ابت الا تضحية وفداء وتنبه الغافلين من سباتهم ، وبات التأثير واضحا على الاخرين ، هكذا هي التربية الاسرية والتعليم المستمر للابناء على هدي القران الكريم والعترة الطاهرة عليهم أفضل الصلاة والسلام والقيم العالية التي تربي على الفضيلة والشهامة ، فنحن لنا من الاصول والجذور اتت بثمارها ، وعروق منبتها الطيب والكرامة والعراقة ، اما من كانت اصوله الخسة والنذالة تأتي اليه مسرعة غير خافية العفونة والنتانة من غصون فاسدة مقرفة ما ثمرها الا العلقم والحنظل ، وقد تلاقحت المنابع مع بعضها وتعاضدت وتربت في حجر الطهارة والاباء وتسامت في علياء الخدمة الحسينية.
|