• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : هكذا تنبأ المقدس الأردبيلي  .
                          • الكاتب : محمد قاسم الطائي .

هكذا تنبأ المقدس الأردبيلي 

 ستظل حوزة أهل البيت (عليهم السلام) أنها ذلك الملاذ المُلهم على صعيد الفكر والأجيال، وأنّها تلك الشعلةُ المتألقة خلوداً في تاريخ العلم والإسلام .

الحوزة التي سقاها الأوائل بأرواحِهم ونصوصِهم المضيئة كيف لا تنجب البيارق العظام ؟! وكيف لا تصيغ فنون الأبداع؟-ابداعات العطاء والفكر الذي يهب الحياة من أوسع الأبواب.وكيف لا تلد قصص العباقرة الأفذاذ؟ وكيف لا تروي روايات النجوم الهُداةِ؟ فهل زاغ البصرُ أم انطفأ القمر أم احتجبتْ شمس الله المضيئة وهي الشاهد والحاكم على كل النظم بحُسبان .

أعني الروايات التي برهنت على قيمتها وأحقيتها برتب سابقة قواطع الأدلة والبرهان، فالحق أنها بلوازم المنع لا تقاس بميزان المعادن والماس بقدر ما تفوق الذهب المصفى، ليست على غرار حديث كعب الأحبار وإبن جريج وابن منبه وأضرابهم، إنما هي أحاديث السلسلة المصطفاة الذي من تمسك بها كان سالكاً للصواب وآخذاً بهديهم القوام، ومن غير ذلك فهو الضياع والبعد والشتات المبين. وأن سماحة الشرع الحنيف لن يسمح أن ينظر إليه من غير منظاره وأبوابه التي حددها فهو ليس شرعة لكل وارد .وأن الأجدر والأليق بمن أخذ عنهم علم الدين طالباً أن يدرك أنّه في بساط مدرسة الوحي الإلهي .فهي بلا مبالغة مثار للأعجاب في درس الصمود والنضال الذي مرت به، فالحوزة على مدار مئات السنين مرت بمراحل وانعطافات خطيرة، لم تكن في غالب الأحيان بمنأ عن نيران الصراع السياسي، ولم تكن يوماً سالمة من سيف السلطان، فقد قدمت العديد من الضحايا والقرابين فكانوا بحق شهداء الكلمة الحرة وشهداء العقيدة التي لم تساوم عن مبدئها الرصين.

  عمر الحوزة التاريخي يفوق كل الجامعات العالمية من حيث النشأة والتأسيس، بيد أنها ظلت تواجه مشاكل عديدة منها مسألة الاحتراب الطائفي والقوقعة الفكرية التي يحاول خصومها وضعها في زوايا متعرجة وبالتالي تنتهي بشكل تلقائي لعزلها عن ميدانها الانساني والمجتمعي العام ربما إلا بشكل ضئيل، وهو بكل تأكيد لا يتناسب مع أدوارها الحيوية الناهضة .

ومنها مشكلة الخطاب الذي أن سُكت عنه تمادى وسعى لإغراقها بسيلٍ من الاشكاليات الصادمة التي قد تطيح بقداسة هيبتها أو زعزعة مكانتها في نفوس الأمة، وبالتالي يحملّها ما لا تحتمل أو يأخذها لما لا تريد وهو ينافي أهدافها البنيوية الأساسية التي خطتها لنفسها. وأن ترك الخطاب تحت قيود الرقابة والمحاكمة يفقدها ذلك مساحة الحرية، ويفقدها سعة الاغتراف المتفاوت، كما أن ذلك أصلاً لا ينسجم مع تبرير مشروعية الاجتهاد المفتوح مالم يصار لضوابط فوقانية محكمة وشفافة . في الحوزة العلمية طاقات ومواهب وعقول جبارة ومالم تستغل بالشكل الفني الصحيح، فلا شك مآل هذه الطاقات للخسران والضياع، وبالتالي الحرمان من هذه النعم التي يمكن أن تضيف شيئاً للحوزة والأمة . حتى إذا قلنا أن الحوزة بنسبة %80 جهود شخصية كما هو رأي بعض الأفاضل في ذلك، فإن العشرين بالمئة الباقي التي يحصلّها الطالب من الحوزة لا يعادلها شيء من حيث هيمنة الفائدة والخبرة والتبصرة التي تمسك خيوط ثمراتها ونتائجها بتحديد معالم الطريق بسهولة خلافاً لغيره الذي لم يستفد شيئاً .وبهذا يتضح بشكل جلي محورية الأستاذ ودوره في اكتشاف قدرات الطالب وكشف مهاراته العلمية، ولا تنصب في كشف المجهولات وطريقة التلقين الروتيني فحسب، إنما هي مهمة مثقلة بل في غاية المسؤولية التي تناط بوظيفة الأستاذ الحاذق، والتي كذلك تفرض عليه أمانة أخلاقية وعلمية في نفس الوقت تهدف نحو اكتشاف قدرات الطالب، وبطبيعة الحال المهارات تتنوع بحسب القدرات والقابليات ومن ثم المساهمة بتشجيعها وتنميتها حتى تكتمل وتنضج بالشكل النهائي، ومن خلال بعض المرويات يبدو هذه كانت معمول بها إلى حدٍ كبير في بعض العصور الاسلامية سواء كان على مستوى الشعر أو على مستوى الخطابة أو الكتابة أو على مستوى دراسة بعض العلوم .أما في وقتنا الحاضر فللأسف الشديد جدار الاحباط والفشل والبؤس يملء أجوائنا بقوة، وقلما تجد برامج مؤسساتية تنموية منظمة تعمل بشكل مخلص وواعي غايتها التشجيع والتقويم في دعم الطاقات والمواهب الخلّاقة .

وبصراحة أكثر قلما رأيت أستاذاً أو صاحب موقع محترم من النخب العلمية أثار الاعجاب في نفسي من خلال الألتفات بأبويته ومراعاته في طريقة الدعم والتشجيع لبعض المواهب والطاقات الشبابية ما عدا بعض التزويقات هنا وهناك.

بمعنى أن يجلس إليهم ويعرف مشاكلهم وهمومهم متوخياً منهم المواصلة والمضي قدماً في تحقيق أهدافهم التي تخدم المجتمع والأمة، ومن ثم يسئل منهم بروح أريحية واحداً واحد ما هي معاناتكم مثلاً؟ وما هي الثغرات التي تواجهونها في الطريق ؟ وما هي الخطة والآليات التي تبتغون بها تحقيق أهدافكم المشروعة؟ من ماذا مثلاً تخافون أو تقلقون في مسيرتكم العلمية؟! هل تشعر أيها الطالب أنك فشلت مالسبب؟ ولماذا ومن ثم كيف نساعده في معالجه فشله ؟ وماهي نقاط الاحباط التي يواجهها خلال العمل أو المسيرة الدراسية مثلاً؟ وهكذا ..فهذه الأسئلة بنفسها تشعر الطالب والدارس بالاهتمام وتشعره بقيمة وجوده وبقيمة المسؤولية التي عليها .

والحقيقة كان بعض علمائنا الأجلاء قمة في روح الابوة والترابية والرأفة والحنان لطلّابهم وتلامذتهم بل في منتهى التواضع والشفقة بل لا تزال -بحمد لله تعالى - هذه الصفات النبيلة موجودة لدى بعض علمائنا ومراجعنا الكرام .

وبهذا الصدد يروى عن جملة من الأجلاء الكبار: أن الشيخ حسن العاملي صاحب (المعالم) والسيد محمد العاملي صاحب (المدارك) لما جاءا للعراق طلبا من الشيخ أحمد محمد الأردبيلي المعروف" بالمقدس الأردبيلي" وكانت آنذاك مرجعيته العلمية معروفة، فطلبا منه الشيخ حسن والسيد محمد درساً خاصاً بهما، وأن يبيِّن وجهة نظره فقط، إن كان له نظر مخالف في المسألة، فأجابهما إلى ذلك، فكانا يقرآن كثيراً من المسائل بدون أن يتكلم فيها بشيء، فأخذ بعض تلامذته يهزؤون بهما، فقال لهم الأردبيلي على نحو التنبأ: قريباً يذهب هذان إلى جبل عامل ويصنفان المصنفات، وتقرؤون فيها-ومقصوده من المصنفات كدليل على اجتهادهم- فكان كما قال حيث صنّف الشيخ حسن (المعالم) في الأصول، والسيد محمد (المدارك) في الفقه، وبعدها جاءت إلى العراق وقرأها طلّاب العلوم والناس .

لا ريب أن الشيخ الأردبيلي "أعلى الله تعالى درجاته" بحدود ما اطلعت على سيرته، أنّه كان آية عجيبة في الاستقامة والطهر النفسي والتقوى والنجابة والبصيرة الثاقبة، لكن مع إغماض النظر عن ذلك كله، فإنّ رواية هذه الحادثة تكررت أكثر من مصدر، وقد أوردها بعض المحققين في سيرة المقدس الأردبيلي رحمه الله جاءت في كتابه [مجمع الفائدة ج١-ص ٣٧- تحقيق الحاج آغا مجتبى العراقي ، الشيخ علي پناه الاشتهاردي ، الحاج آغا حسين اليزدي الأصفهاني] وجاءت أيضاً في ترجمة الشيخ حسن العاملي إبن الشهيد الثاني، وكذلك وردت في ترجمة السيد محمد العاملي.

الملفت والمستفاد من هذه الرواية الظريفة أنّه مع وجود الفارق في السن والمقام العلمي بين الشيخ الأردبيلي وبين هذين الطالبين الذي أصبحا فيما بعد من الأعلام الكبار، إلا أن الذي يلمس من الشيخ الأردبيلي "قدس" شهامة العالم البصير، ويلمس منه روح التواضع المتسم بإجلال العلم وحسن الصبر والاصغاء لطالب العلم مهما كان صوابية إشكاله وقراءته، وهذه من شأنها أن تعزز في نفس الطالب أكثر بالاتزان والتمحيص العلمي والشعور بالثقة نحو تطوير القدرات، فعندما ترى مرجعاً بحجم الأردبيلي يبادل بمرونة شعور الانصات والاصغاء لسؤال الطالب وإشكاليته بكل تأكيد تكون نتائج ذلك متوجة بالشيخ حسن العاملي صاحب (المعالم) والسيد محمد العاملي صاحب (المدارك) وكفى بهما فخراً لجهود القديس الاردبيلي .

لا شك أننا نعيش في ظل تحديات عصر العولمة وعصر اخطبوط الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يدق ناقوس حياتنا بأكثر خطورة وجدية، فأحوج ما نكون إليه هو ذلك الجيل الواعي والمخلص لقضايا أمته ودينه .

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=183735
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 06 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15