بسم الله الرحمن الرحيم
تواترت الروايات عن آل محمد عليهم بالأمر بالسكون والجلوس والمنع عن القيام المسلَّح، وكانت هذه الأوامر مُغَيَّاةً بالظهور المبارك للإمام الحجة عليه السلام، أو بمقدماته المباشرة وهي العلامات الحتمية التي تتَّصِلُ بالظهور..
ونهت صريحاً عن الاستعجال إلى أن يأتي أمر الله تعالى..
ومن هذه الروايات:
1. قال أبو عبد الله عليه السلام: يا سدير، الزم بيتك وكن حِلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك (الكافي ج8 ص264).
2. عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: اسكنوا ما سكنت السماوات والأرض، أي لا تخرجوا على أحد، فإنّ أمركم ليس به خفاء (الغيبة للنعماني ص200).
3. قال أبو الحسن عليه السلام: إنما عنى أبو عبد الله عليه السلام بقوله ما سكنت السماء من النداء باسم صاحبكم، وما سكنت الأرض من الخسف بالجيش (عيون أخبار الرضا ج1 ص311).
4. عن الباقر عليه السلام: كونوا أحلاس بيوتكم، وألبدوا ما ألبدنا، فإذا تحرَّكَ متحركنا فاسعوا إليه ولو حَبواً (الغيبة ص194).
5. وعنه عليه السلام: أوصيك بتقوى الله، وأن تلزم بيتك، وتقعد في دهماء هؤلاء الناس، وإياك والخوارج منا، فإنَّهم ليسوا على شيء، ولا إلى شيء.. واعلم أنه لا تقوم عصابةٌ تدفع ضيماً أو تعزُّ دِينا إلا صرعتهم المنية والبلية (الغيبة ص194).
6. وعن الصادق عليه السلام: كونوا أحلاس بيوتكم، فإنّ الغبرة على من أثارها، وإنهم لا يريدونكم بجائحةٍ إلا أتاهم الله بشاغلٍ إلا من تعرض لهم (الغيبة ص197).
7. وعنه عليه السلام: اجلسوا في بيوتكم، فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا على رجلٍ فانهدوا إلينا بالسلاح (الغيبة ص197).
8. وعنه عليه السلام كفوا ألسنتكم، والزموا بيوتكم، فإنه لا يصيبكم أمرٌ تخصون به أبداً ويصيب العامة، ولا تزال الزيدية وقاءً لكم أبداً (الغيبة ص197).
9. قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: يا جابر الزم الأرض ولا تحرك يداً ولا رجلاً حتى ترى علامات أذكرها لك إن أدركتها (الغيبة ص279).
10. وعن الصادق عليه السلام: فالخارج منا اليوم إلى أيّ شيءٍ يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد ع؟ فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به (الكافي ج8 ص264).
هذه عشرةٌ، وعشراتٌ أخرى أمثالها..
ومع وضوح هذه الروايات وسواها، فلا شكَّ أنها لا تُعَطِّلُ كلَّ حِرَاكٍ في المجتمع الشيعي وإن كان فردياً، بل تقوم بتقنينه، فلم تمنع مثلاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنّ تشريع الأمر والنهي كان من أساسه مقيّداً بحالاتٍ خاصة تتناسب وغرض الشريعة السامي من حفظ الإسلام ممثلاً بالكيان الشيعي.. مع حفظ الفرد بعد حفظ الدين.
وكذا لم تمنع من الدفاع عن النفس والعرض والمال، لأنَّ منعها خلاف الغرض الشرعي والحكم العقلي.
وهكذا سلكت الشريعة مسلكاً وسطاً دقيقاً لا نظير له من حيث الحكمة والمتانة، وقد أثبت عبر التاريخ فعاليته في الحفاظ على العقيدة الشيعية نقيَّةً رغم كل الظلامات.
ومن ضِمن ما راعته الشريعة المقدسة عدم ربط الشيعة بظاهرةٍ مناطقيةٍ ولا سياسيةٍ ولا إداريةٍ خاصة، لمنع أيّ انعكاسٍ لذلك على المذهب بأكمله، فلو صار الإرتباطُ عُضوياً بين التشيُّع وهذه الحالات ثم بَادَت إحداها لَلَحِقَها المذهب كما حَلَّ بغيره من المذاهب.. والله الحافظ لدينه..
وليس التعامل مع هذه المنهجية الفريدة أمراً يسيراً، ولا إدراكه شيئاً سهلاً لغير المُسَلِّمِين، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن من العلم صعباً شديداً محمله، لو حملته الجبال عجزت عن حمله.
إنّ علمنا أهل البيت سينكر ويبطل وتقتل رواته ويساء إلى من يتلوه بغياً وحسداً (الغيبة 142).
وإنَّ الفتنة ستصل في زمن الغيبة إلى حدٍّ يقول فيه أمير المؤمنين عليه السلام: وليبعثنَّ الله رجلاً من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا، وليغيبن عنهم تمييزاً لأهل الضلالة حتى يقول الجاهل: ما لله في آل محمد من حاجة! (الغيبة ص 141).
وبعض آثار ذلك لا تستثني الشيعة، فعنه عليه السلام: كأني بكم تجولون جولان الإبل تبتغون مرعى ولا تجدونها يا معشر الشيعة (الغيبة ص192).
ثم إنَّ هناك حالةً مهمةً يُعَدُّ عبد الله بن عطاء المكي نموذجاً لها، وهو الذي يروي قولَه لإمامنا الباقر عليه السلام: إنَّ شيعتك بالعراق كثيرة، والله ما في أهل بيتك مثلك. فكيف لا تخرج؟
قال: فقال: يا عبد الله بن عطاء، قد أخَذتَ تفرُشُ أذنيك للنَّوكَى (الحمقى،) إي والله ما أنا بصاحبكم (الكافي ج1 ص342).
ويلاحظ من الرواية:
1. أنّ الاستعجال كان سمةً لبعض الناس في سالف الأيام كما هو في حاضرها.. وأنّ هؤلاء كانوا يُصَرِّحُون برأيهم لإمامهم كما يجهرون به اليوم أثناء غياب الإمام.
2. أنّ منشأ الإستعجال هو كثرة المناصرين والأَتباع، فتصوَّرَ هؤلاء أنّ اجتماع عددٍ كبيرٍ من الناس حول الإمام كافٍ في لزوم القيام والخروج المسلح.
3. أنّ ضعف اليقين منشأٌ آخر للإستعجال، إذ كيف يجتمع اليقين بعصمة الإمام والإعتقاد بأنه عالمٌ بتعليمٍ من الله تعالى، مع الاعتراض على فِعاله؟ ما لم يكن السؤال استفهامياً محضاً.
4. أن هذا التفكير هو تفكير (الحمقى)، والأحمق (يريد أن ينفعك فيضرُّك) كما قال إمامنا زين العابدين عليه السلام.. فلعلّ هؤلاء من أهل الإيمان فعلاً، لكنَّهم لجهلهم وحمقهم يتصرَّفون بما ضرره أكثر من نفعه.
وقد رسم لنا أمير المؤمنين عليه السلام طريقاً في التعامل مع الأحمق بعد بيان صفاته فقال: وأما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير، ولا يُرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه، وربما أراد منفعتك فضرَّك، فموتُه خيرٌ من حياته، وسكوته خيرٌ من نطقه، وبُعده خيرٌ من قربه (الكافي ج2 ص376).
فعلينا الحذر من هؤلاء الحمقى والإبتعاد عنهم وعدم الإستماع لهم لدفع ضررهم مهما كانت نيتهم.
5. أن ما طلبه الراوي وهو (الخروج) مختصٌ بـ(صاحبكم)، وقد بيّن عليه السلام أنّه الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه، فعدم القيام ليس من مختصات إمامنا الباقر عليه السلام، بل هو منهج الأئمة وشيعتهم عليهم السلام إلى أن يأتي أمر الله..
ولن يضر الإستعجالُ الدينَ شيئاً، بل سيهلك المستعجلون، وقد قال إمامنا الصادق عليه السلام: إنما هلك الناس من استعجالهم لهذا الأمر. إن الله لا يعجل لعجلة العباد. إنَّ لهذا الأمر غايةٌ ينتهي إليها، فلو قد بلغوها لم يستقدموا ساعة ولم يستأخروا (الكافي ج1 ص369).
والخلاصة..
أنَّ تكليف الشيعي في زمن الغيبة هو معرفة إمامه وانتظارُه دون التقدُّم عليه، ولا يضرُّهُ مع المعرفة شيءٌ بعد ذلك، فعن الصادق عليه السلام: يا فضيل اعرف إمامك، فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر.
و من عرف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه (الكافي ج1 ص371).
اللهم اجعلنا في حزبه و أعوانه وأنصاره و الراضين بفعله.
يا الله يا رحمان يا رحيم، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
وللحديث تتمة إن شاء الله
|