مازال الكثير من تراثا المخطوط حبيس أَدراجٍ مختلفة , يعاني الحجز لجهالة أو تعصُّب وعدم فهرسة , وماهو موجود في أماكن الحفظ المتعددة إنَّما لايمثل الطموح في فهرسته ونشره, إذا علمنا أَنَّ المتوفر من المخطوطات غير المفهرسة لايحصى, وهذا يعني أَننا لن نسبق الزمن في البحث المستمر عن ما نبتغي الوصول إليه لضمان نتائج مرضية مقنعة في أَغلب الأحيان , فضلاً عن أَنَّ الاختلافات الحاصلة في الاسم والنسبة والاخطاء الواردة في الترقيم في الفهارس تشكل جميعها عبئاً آخر للباحثين والمحققين.
ومن الجديد المكتشف الذي بين أيدينا قصيدة لم يسبق نشرها وتحقيقها, ونعّدها استدراكاً على مانشرناه في ديوان الشيخ صالح بن عبد الوهاب العرندس الحلّي (المتوفى سنة 840هجرية) بطبعتيه الأولى والثانية الصادرتين في العام الماضي ومطلع هذا العام , وقد عثرنا عليها ضمن مجموع شعري مخطوط محفوظ في مكتبة مجلس الشورى الاسلامي – طهران برقم (90984) واحتجنت الأوراق (43-46).
وشاعرها واحدٌ من علماء الحلَّة وأَعلامها, كان ناسكاً أَديباً بارعاً متضلِّعاً في علمي الفقه والأُصول وغيرهما , وشاعراً ذا قريحة وقَّادة ونباهة فذة , له كتاب (كشف اللآلئ) مازال مفقوداً , توفي سنة 840 هجرية على الأَشهر , وقبره مزار معروف الى يومنا هذا في محلَّة جبران في الحلة (رحمه الله).
وتقتضي الأَمانة العلميَّة الاشارة الى أنَّ ناسخ المجموعة سها في كتابة اسم الشاعر فقدَّم اسم والده على اسمه , فقال مانصّه : قال الأَديب الفاضل عبد الوهاب بن صالح العرندس الصايغ بمدح مولانا وسيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويرثي الإمام الشهيد أَبا عبد الله الحسين (عليهم أَفضل الصلاة والسلام وعلى ذريتهم الطاهرين).
وللفائدة ننشر القصيدةَ محقَّقةً , سائلينَ العليَّ القدير أَنْ يمنَّ على الشاعر الحلّي برحمته ومغفرته ورضوانه . ويرزقنا ثواب نشرها . إنَّه سميع مجيب.
سَقاكَ الحَيا ياطَفُّ لازارَكَ المَحْلُ وصابكَ صَوبُ الدَّمعِ إنْ أَعوزَ الوَبلُ ([1])
وغَاداكَ من غُرٍّ الغوادي سحائبٌ لشدِّ عَزاليها على ربعِكَ الحَلُّ([2])
إذا لمَعَتْ فيها البروقُ تَخالَها مواضِي صِفاحِ الهندِ أَخلَصَها الصَّقلُ
ولازالَ ظلُّ البانِ عنكَ وظَلَّلَتْ عليكَ فروعُ الضَّالِ وانْعَقدَ الظِّلُّ([3])
وزادَ على زَهرِ العَرندسِ دَمعُهُ ليُضحي بهِ نَشرُ الصَّبا وهو مُعْتَلُّ([4])
ولابَرحتْ فيكَ الزهورُ زواهراً يُدَبِّجُها من أَدمعي الوبلُ والطَّلُّ
فانْ أَقلعتْ عنكَ السَّحابُ ولم تَجُدْ عليك عيونٌ بالدموعِ لها هَملُ
ففيكَ بحارُ العِلمِ والحِلمِ والنَّدى فواعجباً أَنَّى يحلُّ بكَ المَحلُ؟
وفي الجَدثِ السَّامي بتربكَ سيِّدٌ سُيولُ النَّدى من سُحْبِ كفَّيهِ تَنهَلُّ
سليلُ رسولِ اللهِ وابنُ وصيِّهِ إمامٌ زَكا فَرعاً وطابَ له الأَصلُ
إمامٌ أَتى في (هل أَتى) ذكرُ فَضلهِ وجاءتْ به طه ويسُ والنَّملُ
وعَظَّمهُ الرَّحمنُ والطّورُ والنِّسا ومجَّدهُ لقمانُ والنّورُ والنَّحلُ
وجاءتْ به توراةُ موسى وأُنْطِقَتْ أَناجيلُ عيسى والكتابُ له يتلو
إمامٌ بكتهُ الجنُّ والإنسُ والسَّما ووحشُ الفلا والطيرُ والحَزْنُ والسَّهلُ
وناحَ له المخلوقٌ كلٌّ من الأَسى فيالَكَ مقتولاً ينوحُ لهُ الكُلُّ
وماأَنسَ لا أَنساهُ في أَرض كربلا من الكربِ لاحِلٌّ لديه ولاظِلُّ
وللشركِ في أَرضِ الطفوفِ كتائبٌ تطوفُ وعن نهجِ الهدايةِ قد ضلّوا
وقد رفعوا للنَصْبِ راياتِ مُنْكَرٍ بها خُفِضَ الاسلامُ وانجزمَ السُّبلُ
فمن ناصبيٍّ ظلَّ للَّاتِ عابداً ومن سامريٍّ قد أضِلَّ به العجلُ
جيوشٌ تضيقُ الأَرضُ عنها إذا سَرَتْ وليسَ البحارُ السَّبعُ من خيلهمْ تخلو
كأَنَّ مواضيها بروقٌ , ونقعَها غَمامٌ, ومنهلَّ الدماءِ بها وَبلُ
إذا جُرّدتْ فيها المواضي ظوامِئاً فمنْ دَمِ أَبناءِ النَّبيِّ لها نَهلُ
وإنْ صامت الخيلُ العتاقُ وأصبحتْ سجوداً بها الهاماتُ فيها الظُّبا صَلُّوا
بها زرقُ سُمرِ الخطِّ حُمرٌ من الدِّما ودُهمُ المَذاكي كالذئابِ لها عَسلُ
وللشمسِ طَرفٌ حالكُ اللونِ أَسودٌ كأَنَّ غبارَ الصَّافناتِ لها كُحلُ
وللسُمرِ طعنٌ يُشبِهُ النَّقطَ في الحَشَا وللبيضِ ضَربٌ في الرقابِ له شَكْلُ
ومن عجبي بيضٌ وسُمرٌ تواصلتْ بنَقْطٍ وشَكْلٍ للنفوسِ به قتلُ
وللسبطِ وجهٌ يخجلُ البدرَ زاهرٌ وللنقعِ سِترٌ كالظلامِ له سَدلُ
وصارمُهُ شَمسٌ على غَرْبِ نَصلهِ من الدَّمِ مرّيخٌ أَلا حبَّذا النَّصلُ ([5])
وإنْ شِمْتَ في رأَسِ القناةِ سنانَهُ ترى العقربَ اللداغَ يحملُهُ الصِّلُّ([6])
ومن تحته كالليلِ طِرْفٌ محجَّلٌ لصبحِ هلالِ الأُفقِ في رجلهِ نَعلُ([7])
وعترتُهُ صرعى طعانٍ كأَنَّما من الطَّعنِ في أَجسادهم حَدَقٌ نُجلُ
فهذا ذبيحٌ في دماءٍ مُزَمَّلٌ وهذا طريحٌ قد سَفَا فوقهُ الرملُ
وقد ذَبحَ الطفلَ الكريمَ بسهمهِ زنيمٌ لئيمٌ فاسقٌ مارقٌ نَغلُ
كأَنَّ القنا غابٌ وسبطَ محمَّدٍ بهِ أَسَدٌ والطفلَ مُنجدلاً شِبلُ
وبالأَسمرِ المرَّانِ تطعنُهُ العِدى وبالأَصفرِ المِرْنَانِ ترشقُهُ النَّبلُ([8])
ويعذلُهم طوراً وطوراً يلومُهم وذو الجهلِ لايثنيه لومٌ ولاعذلُ
فلما طَغَوا بعدَ الهدى في ضَلالهم وشُدَّ عِقالُ العقلِ وانطلقَ الجهلُ
سَطا في جيوش الشِّركِ سِبطُ محمَّدٍ يُفرِّقُ جمعَ الشَّملِ , لاجُمِعَ الشَّملُ
وصالَ عليهم صولةً حيدريَّةً بسيفٍ لهامِ الشِّركِ من فَصْلهِ وَصْلُ ([9])
فصيَّرهم صرعى على الأَرضِ جُثَّماً كأَعجازِ نخلٍ خاوياتٍ ولانَخلُ
فلمَّا تناهى الأَمرُ واقتربَ الردى وحُلَّ نظامُ الحقِّ وانتظمَ البُطْلُ
سَطتْ آلُ مروانٍ وآلُ أُميَّةٍ ومالتْ عليهِ الخيلُ في الحربِ والرَّجْلُ
وحاطوا فخاطوا بالسِّهامِ فؤادَهُ وكفَّ النَّدى كَفَّوا وزندَ الهدى شلّوا
وأُسقيَ من كأَسِ القنا في نزالهم شرابَ طِعانٍ للحِمامِ به عَلّوا
فأَضحى على أَرضِ الطفوفِ مُجدَّلاً وناحتْ له الأَملاكُ وانتحبَ الرُّسْلُ
وأَمسى خليَّاً سرجُهُ من جَمالهِ فياليتَهُ من ذلك الوجهِ لايخلو
وباتَ على رأَس القناة كريمُهُ لسورةِ أَهلِ الكهفِ تحت الدجى يتلو([10])
ومن بعد تقبيلِ النَّبيِّ لثغرهِ أَقامَ يزيدٌ بالقضيبِ له يَعْلو
وصرنَ النِّساءُ الفاطميَّاتُ بعدَهُ أَيامى ولاواقٍ لهنَّ ولابعلُ
ورملةٌ في ظلِّ القُصورِ مصانَةٌ تَرنُّ برجليها الخَلاخيلُ والحِجلُ
فيا عجباً من خاضعاتٍ أَذلَّةٍ يُذَلُّ لها ليثٌ له ساعدٌ عَبلُ
فياليتَ عينَ الطُّهرِ حيدرةٍ ترى حسيناً قتيلاً دونهُ تُنْهَبُ الأَهلُ
سليباً بأَثواب العَجاجِ مُكفَّناً ومن دمهِ فوقَ الصَّعيدِ له غُسْلُ
فياعينُ سُحِّي الدَّمعَ كالعين لا بهِ تَشُحِّي , وَجُودي لا أَلمَّ بكِ البُخلُ
وياسَمهريَّاتِ القَنا شانَكِ الفَنا ويامَشرفيَّاتِ الظُّبا شانَكِ الصَّقلُ
فَقد فُقِدَ السبطُ الذي سَبْطُ كفِّهِ سحابٌ له في كلِّ ناحيةٍ هَطلُ
فلا خيرَ في الدنيا يصيرُ ذليلُها عزيزاً وربُّ العزِّ يخفضُهُ الذلُّ
***
فما بعدَ هذا الظلمِ إلَّا خليفةٌ بهِ يُنشرُ الإنصافُ بالناسِ والعدلُ
صوارمُهُ حتفٌ على كلِّ مشركٍ ورايتُهُ فتحٌ وجلبابُهُ العَقلُ
هو الخَلَفُ المبعوثُ من آلِ أَحمدٍ كذلكَ في التنزيلِ قد وردَ النَّقلُ
أَبو القاسم المهديُّ مولىً أَكفُّهُ يعمُّ على الآفاقِ منْ وَبلِها بَذْلُ
يؤلِّفُ بين الشَّاةِ والذِّيبِ عَدلُهُ ويمحو بسيفِ الحقِّ ماأَثبتَ البُطلُ([11])
ويُحيى له قومٌ فيقضي بصلبهمْ فَيَتْبَعُ منه القولَ في حكمهِ الفعلُ
فيا جابرَ الاسلامِ من بعدِ كَسرهِ وناصرَنا من بعدما عمَّنا الذّلُّ
لقد قال عنك (السُّكريُّ) وقولهُ عِنادٌ وفي أَعشارِ باطنهِ غِلُّ :([12])
((أَما آنَ أَنْ نَلقاكَ في الخلقِ ظاهراً ومن باطنِ السِّردابِ يُنْتِجُكَ الحَمْلُ))([13])
وها أَنا أَدعو اللهَ في الليلِ والضُّحى لِيُجْمَعَ من يعد الشِّتاتِ بكَ الشَّملُ
وتَحجبُكَ الأملاكُ والخِضْرُ [ و] احمدٌ وعيسى وخيلٌ بالكُماةِ لها خَتلُ
وتُضحي غُصُونُ الدينِ بعدَ ذبولِها وأَوراقُها خُضْرٌ وعيدانُها خُضلُ
وتأخذُ ثأَرَ السِّبطِ من مَعشَرٍ هُمُ على عترةِ الهادي وشيعتهِ كَلُّ
غُزاةٌ طُغاةٌ من بغاةِ أُميَّةٍ سَلاسلُ في أَعناقهم ولهم غُلُّ
لهم كلُّ كفٍّ ذاتِ كفٍّ عن الندى لمعصمِها فكٌّ وراحتِها شَلُّ
ولابدَّ مايُبليهم اللهُ في غدٍ بسوطِ عذابٍ لايخفُّ له ثقلُ
ويُخلدهم في قَعرِ نارٍ حميَّةٍ لها شررٌ كالقصرِ من فوقهم يعلو
ظلالُهُمُ يَحمومُها , وحَميمُها شَرابٌ ومن زقُّومها لهُمُ أُكلُ
وإنْ يستغيثوا من لَظاها يُغيثهم بماءٍ يحاكي المُهلَ ليسَ لهُ مَهلُ
ولازال جَونُ السَّخطِ يُهْمِي عليهِمُ سُيولَ عذابٍ كلَّما رضعَ الطفلُ
***
فيا ابنَ النَّبيِّ المصطفى والأَئمةِ الـــــــ ـــهُداةِ ومن فينا لهُ العقدُ والحَلُّ
أَجرني غداً من حرِّ نارٍ وَقودُها الـ حجارةُ والناسُ العصاةُ لها جَزلُ
فقد عَلِقَتْ كفِّي بحبلِ ولاكُمُ فطوبى لعبدٍ من وِلاكُمْ له حبلُ
وياقطعَ من أَمسى وليس لكفِّهِ بحبلِ ولاكمْ في المعادِ غداً وصلُ
أَنا عبدُكُمْ والمستظلُّ بظلِّكمْ مُقيمٌ على حفظِ المودَّةِ لا أَسلو([14])
عَلا وغَلا قَدري وشِعري بمدحكمْ فقدري بكم يعلو وشِعري بكم يغلو
فدونكَ منِّي غادةً عربيَّةً غريبةَ معنى الشَّكْلِ , ياحبَّذا الشَّكلُ
عَروساً جلاها العبدُ نجلُ عَرَنْدَسٍ رضاكَ لها مهرٌ وأَنت لها بعلُ
حلا لفظُها حتى جَلى نورُها القَذَى فأَلفاظُها تحلو وأَنوارها تجلو
هي الدُّرُّ في البحرِ الطويلِ نظامُها فلا بعدَها بَعدٌ ولا قبلَها قَبلُ
وصلَّى عليكم خالق الليلِ ماأَضا النـْ نَهارُ وماباتَ الحَمامُ لهُ هَدلُ
([1]) المَحل: الجدب. الوبل: المطر الشديد .
([2]) عزال وعزالى : مصبُّ الماء من القربة ونحوها.
([3]) الضَّال : السَّدْرُ البرِّيّ.
([4]) زهر: كذا في النسخة ولعلها محرَّفة عن (زهو).
([5]) المرِّيخ: مأَخوذ من المَرخ وهو : الكثير الادِّهان والطِّيب, وسمّي بذلك لاحمراره.
([6]) في النسخة: شبت , وهي محرَّفة عن المثبت. شمتَ: نظرتَ.
([7])الطِّرف: الفرس الكريم الطرفين.
([8]) المران: الرماحُ الصُّلبةُ اللَّدْنة. المرنان: القوس.
([9]) في النسخة :نصله , وهي محرفة عن المثبت.
([10]) كريمُهُ :أي رأسُه الكريم.
([11]) أثبت : المفردة غير واضحة في النسخة , وماأَثبتناه أَقرب لرسمها ومعناها.
([12]) السُّكريّ: هو الشاعر ابن سُكرة الهاشمي العباسي البغدادي, أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد , وهو من ولد علي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي, ويعرف بابن سكرة أو ابن رائطة أو رابطة. وشعره حافل بالغزل والمجون والسخف وما يتصل بذلك من قوارض الكلم ولاذع الهجاء. و قد ضاع ديوان شعره، الذي قيل إنه كان يشتمل على خمسة آلاف بيت. وكان متحاملا على أهل البيت (عليهم السلام) ,مفتخراً عليهم ويهجوهم. توفي سنة 385 ه .
يتيمة الدهر3/3, أَعيان الشيعة 5/ 429.
([13]) البيت للشاعر ابن سكرة الهاشمي( 385ه) , وقد أخلَّ به ديوانه بجمع وتحقيق ودراسة د . محمد سالمان, منشورات الجمل , ط1, بيروت- بغداد 2015م.
([14]) في النسخة: عندكم, وهي مصحَّفة عن المثبت.
من التراث الولائي المخطوط
(لاميَّة صالح بن العرندس الحلِّي)
|