سورة البقرة
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ{158} إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ{159} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ{160} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{161} خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ{162} وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{163} إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{164} وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ{165}
شعائر الله تمثل الواجبات المفروضة على المسلم , وربما يضاف اليها المستحبات , وقد تشمل الواجب والمستحب وهجران المعاصي والمكروهات , شمولها يختلف حسب اراء العلماء اصحاب الشأن .
مدعي الحضارة , يفتخرون بأن لديهم قوانين وشرائع , يسنها البشر , تسير عجلة الحياة في بلادهم , لذا فهم متمسكون بها , وربما نبذوا كل من خالفها , غالبا ما تسن هذه القوانين وفقا لرغبات القوة المتسلطة في ذلك البلد , وتقدم مصالحها على مصالح الناس والافراد .
فكيف بشرائع وقوانين سنها الله تعالى , مجملها يعود بالنفع للانسان , مثلا , لا يخفى على احد فوائد الصيام لجسم الانسان , ولا ينكر احد مضار شرب الخمر , فكل ما آمر به الحق تعالى , يعود بالنفع للانسان , وما نهى عنه الا وفيه ضرر معتد به ,والا فما حاجته عز وجل من صيامنا وصلاتنا ! .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ{159}
الخير كل الخير فيما امر به عز وجل , والشر كل الشر فيما امر عز وجل بتركه و أجتنابه , حقيقة لا ريب فيها , وهذا خير دليل على نبوة الخاتم (ص واله ) , أيقن احبار اليهود والنصارى تلك الحقيقة , فكتموها , لئلا تصل الى العامة , فيتركون ملتهم , ويتبعون النبي الجديد (ص واله ) .
اللعن , هو الطرد من الرحمة , رحمته التي وسعت كل شيء , الا من طرد منها , ويزيدهم طردا وبعدا عنها , دعاء جميع الخليقة .
ان يطرد الانسان من رحمته عز وجل , تلك الرحمة الواسعة , لهو امر جدير بالتأمل ! , وفقنا الله لما فيه خير .
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ{160}
ان الطرد من رحمته عز وجل , لا يدعو لليأس , فباب التوبة مفتوح , حتى يلفظ الانسان اخر انفاسه , فمن تاب بكل ما للتوبة من معنى , واستغفر الله , بكافة شروط الاستغفار , لا ريب سيعود الى حضيرة الايمان , وينعم كباقي المؤمنون بوارف رحمته عز وجل .
النكتة الدقيقة في الموضوع , ان الانسان بالرغم من تمرغه في وحل العصيان , فتحل عليه اللعنات ( الطرد من الرحمة ) , لا يزال هناك ضوء في اخر النفق , او كما يقال , بصيص من الامل , الا وهو باب التوبة , وما اعظمه من باب ! , لا يغلق امام كل الناس , بأختلاف عناوينهم .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{161}
بالرغم من ان باب التوبة مفتوح , تأخذ الانسان العزة بالاثم , فيتمرغ في وحله , الى ان يتوفاه الاجل , فيموت من غير توبة , و تلاحقه اللعنات بعد وفاته , وهناك ثلاث انواع من اللعن :
1- ( لَعْنَةُ اللّهِ) .
2- ( وَالْمَلآئِكَةِ ) .
3- (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .
وكم من امثلة كثيرة على ذلك في هذه الحياة , كم ملك وطاغوت هلكوا , تطاردهم اللعنات من كل حدب و صوب ! .
خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ{162}
باب التوبة كان مفتوحا لهم في الحياة , او كما يقال ( خط رجعة ) , اما اليوم , وبعد ان لفظوا انفاسهم الاخيرة , فلا مجال لذلك .
العذاب في القبر وما بعده , امر من الامور الغامضة , تؤكده ايات القران الكريم , وتبين بعض علاماته , اما كيفيته فلا يدركها العقل البشري المادي , الا بعد ان يجربه , وقانا الله شر ذلك , بل ذلك كله ! .
وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{163}
ما اروع ان يكون لك آله واحد , يصف نفسه بــ (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) , يرغبك في عبادته , ويبشرك بالجنة , ينذرك من ان تقع في حبائل الشيطان , و يرهبك من عذابه , تطمع في كرمه , وتخشى سطوته , شرك اليه صاعد , وخيره اليك نازل .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{164}
كما تقدم , ان اجمل شيء في القرآن الكريم , ان يخاطب الله عز وجل عباده كافة , المؤمن والكافر , بصورة مباشرة , من دون واسطة او حجاب , وفي هذه الاية الشريفة جملة من الامور التي يريد الباري عز وجل من الناس , التفكر فيها , والنظر اليها بعين التأمل والتدبر , وهي :
1- (خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .
2- ( اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) .
3- (الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ) .
4- (مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) .
5- (وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ) .
6- (تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) .
الله عز وجل يصف المتدبرين في هذه الايات ( لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) , ولم يصفهم بالمؤمنين مثلا , والفرق شاسع بين المؤمن العاقل والمؤمن العادي , فالاخير ما عليه سوى ان يقوم بالطاعات , ويأتي بالمستحبات , ويتجنب المحرمات والمكروهات , اما المؤمن العاقل او المتعقل من يذهب الى ابعد من ذلك , فيتفكر في خلق السموات والارض , واختلاف الليل والنهار ... الخ , كما جاء في الحديث الشريف ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) .
هناك مضمونان في هذه الاية الكريمة :
المضمون الاول : ان الله عز وجل يوجه نداءه لعامة الناس , على اختلاف مللهم ونحلهم , فيدعوهم للتأمل في السموات والارض , واختلاف الليل و النهار , وغير ذلك , فيعيدوا النظر في حساباتهم , بحثا عن ألآله الحقيقي لهذا الكون الرحب , فسماء ذات ابراج وارض ذات فجاج , لا بد ان يكون لها خالق , مدبر , حكيم , ويدحض بذلك نظريات ( ان الكون نشأ صدفة ) , ( النشوء والارتقاء ) لداروين وغيرها .
المضمون الثاني : في هذه الاية الكريمة نداء موجه للمسلمين خاصة , فقد اقتصرت الاية على ذكر كليات العلوم , وكأن الله عز وجل يريد من المسلمين ان يبحثوا عن جزئيات العلوم , فيتقدموا بالعلم والمعرفة على الامم الاخرى , وذلك في اتجاهين :
الاول : كي يثبت المسلمون للعالم اجمع , ان الاسلام دين علم ومعرفة وحضارة بالمعنى الحقيقي .
الثاني : كي يثبت المسلمون للعالم اجمع ان الله واحد لا شريك له علميا , وبما يتناسب مع مراحل اختلاف الزمان والمكان , هذا من جانب , ومن الجانب الاخر , كي يتمكنوا من اثبات نبوة محمد (ص) , فنبوته (ص) لا تنتهي بوفاته , بل هي مستمرة الى يوم القيامة .
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ{165}
بعد ما تقدم من آيات اثبات ربوبية الله عز وجل , يتخذ الناس آله من اصنام او حيوانات او ظواهر طبيعية , او حتى اجزاء من جسم الانسان , (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) , يسجدون لها ويتقربون لها زلفى , ويفعلون ما لا يليق الا لله , وذلك عندما غرر بهم الشيطان الرجيم , وافسد عقولهم , فحجبت تلك النعمة ( العقل ) من التأمل الصحيح بخلق ونعم الله , فأنحرفوا حسب ما تمليه عليهم اهواءهم , ظنا منهم انهم على صواب .
من صلحت عقولهم , وحسنت سريرتهم , لم يتمكن الشيطان منهم , وفشلت كل حيله وألاعيبه معهم , فأتبعوا الحق بعد ان رأوه شاخصا امامهم , عرفوا الله وأحبوه , حبا شديدا , انقطعت معه امالهم في الدنيا , واشتاقوا للقائه .
يبدو ان في هذه الاية الكريمة , مقارنة وتفضيل , بين المؤمنين وعباد الاوثان , ويظهر فيها نوعين من الحب :
الاول : حب في غير محله , وهو حب الكافرين لاوثانهم وما يعبدون من دون الله .
الثاني : حب في محله , وهو حب المؤمنون لله الواحد القهار .
بعد هذه المقارنة وهذا التبيان لانواع الحب , تنعطف الاية الكريمة الى ذكر العذاب , الذي ينتظر الكافرين والجاحدين وكل من عصاه جل وعلا , ماهية هذا العذاب تندرج في ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولم يخطر على قلب بشر .
سوف نتأمله في تأملات قادمة انشاء الله . |